القول في تأويل قوله تعالى : { النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ } .
يقول تعالى ذكره مبينا عن سوء العذاب الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها إنهم لها هلكوا وغرّقهم الله ، جُعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تعرض على النار كلّ يوم مرتين غُدُوّا وَعَشِيّا إلى أن تقوم الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل بن شرحبيل ، قال : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار ، وذلك عرضها .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوّا وعشيّا ، حتى تقوم الساعة .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي ، قال : سمعت الأوزاعيّ وسأله رجل فقال : رحمك الله ، رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلا الله ، فإذا كان العشيّ رجع مثلُها سُوْدا ، قال : وفَطَنتم إلى ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها ، وصارت سوداء ، فتنبت عليها من الليل رياش بيض ، وتتناثر السود ، ثم تغدو ، ويُعرضون على النار غدوّا وعشيّا ، ثم ترجع إلى وكورها ، فذلك دَأْبُها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة ، قال الله : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدّ العَذَابِ قالوا : وكانوا يقولون : إنهم ستّ مئة ألف مقاتل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة ، عن سليمان بن حميد ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظى يقول : ليس في الاَخرة ليل ولا نصف نهار ، وإنما هو بُكْرة وعشيّ ، وذلك في القرآن في آل فرعون يُعْرَضُونَ عَلَيْها غَدُوّا وَعَشِيّا وكذلك قال لأهل الجنة لَهمْ رزْقُهُمْ فيها بُكْرَةً وَعَشِيّا .
وقيل : عني بذلك : أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوّا وعشيّا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّا وَعَشَيّا قال : يُعرضون عليها صباحا ومساء ، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصغارا لهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : غُدُوّا وَعَشِيّا قال : ما كانت الدنيا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيا . وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن الهذيل ومن قال مثل قوله ، وإن يكون كما قال قتادة ، ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعنيّ به ، فلا في ذلك إلا ما دلّ عليه ظاهر القرآن ، وهم أنهم يعرضون على النار غدوّا وعشيا ، وأصل الغدوّ والعشيّ مصادر جعلت أوقاتا .
وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : إنما هو مصدر ، كما تقول : أتيته ظلاما جعله ظرفا وهو مصدر . قال : ولو قلت : موعدك غدوة ، أو موعدك ظلام ، فرفعته ، كما تقول : موعدك يوم الجمعة ، لم يحسن ، لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا ظرفا قال : والظرف كله ليس بمتمكن وقال نحويو الكوفة : لم يسمع في هذه الأوقات ، وإن كانت مصادر ، إلا التعريب : موعدك يوم موعدك صباح ورواح ، كما قال جلّ ثناؤه : غُدُوّها شَهُرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ فرفع ، وذكروا أنهم سمعوا : إنما الطيلسان شهران ، قالوا : ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم : إنما سخاؤك أحيانا ، وقالوا : إنما جاز ذلك لأنه بمعنى : إنما سخاؤك الحين بعد الحين ، فلما كان تأويله الإضافة نصب .
وقوله : وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدّ العَذَابِ اختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والعراق سوى عاصم وأبي عمرو وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى : الأمر بإدخالهم النار . وإذا قُرىء ذلك كذلك ، كان الاَل نصبا بوقوع أدخلوا عليه ، وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو : «وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا » يوصل الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ ، وبضمها إذا ابتدىء بعد الوقف على الساعة ، ومن قرأ ذلك كذلك ، كان الاَل على قراءته نصبا بالنداء ، لأن معنى الكلام على قراءته : ادخلو يا آل فرعون أشدّ العذاب .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . فمعنى الكلام إذن : ويوم تقوم الساعة يقال لاَل فرعون : ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب ، فهذا على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع ، ومعناه على القراءة الأخرى ، ويوم تقوم الساعة يقول الله لملائكته أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدّ العَذَابِ .
{ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } جملة مستأنفة أو { النار } خبر محذوف و { يعرضون } استئناف للبيان ، أو بدل و { يعرضون } حال منها ، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره { يعرضون } مثل يصلون ، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به ، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة ، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأييد ، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر . { ويوم تقوم الساعة } أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم : { أدخلوا آل فرعون } يا آل فرعون . { أشد العذاب } عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه ، أو أشد عذاب جهنم . وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص { أدخلوا } على أمر الملائكة بإدخالهم النار .
قوله : { النار } رفع على البدل من قوله : { سوء } [ غافر : 45 ] . وقالت فرقة : { النار } رفع بالابتداء وخبره : { يعرضون } . وقالت فرقة : هذا الغدو والشعي هو في الدنيا ، أي في كل غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار{[10008]} . وروي في ذلك عن الهزيل بن شرحبيل والسدي : أن أرواحهم في أجواف الطير سود تروح بهم وتغدو إلى النار ، وقاله الأوزاعي حين قال له رجل : إني رأيت طيوراً بيضاً تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سوداً مثلها ، فقال الأوزاعي : تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون يحترق رياشها وتسود بالعرض على النار . وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : أراد أنهم يعرضون في الآخرة على النار على تقدير ما بين الغدو والعشي ، إذا لا غدو ولا عشي في الآخرة ، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا وقوله : { ويوم تقوم الساعة } يحتمل أن يكون { يوم } عطفاً على { عشياً } ، والعامل فيه { يعرضون } ، ويحتمل أن يكون كلاماً مقطوعاً والعامل في : { يوم } { ادخلوا } ، والتقدير : على كل قول يقال ادخلوا .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعرج وأبو جعفر وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة : «أدخلوا » بقطع الألف . وقرأ علي بن أبي طالب وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم والحسن وقتادة : «ادخلوا » بصلة الألف على الأمر ل { آل فرعون } على هذه القراءة منادى مضاف . و : { أشد } نصب على ظرفية .