اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ} (46)

قوله : «النَّارُ » الجمهور على رفعها ، وفيه ثلاثةُ أوجهُ :

أحدهما : أنه بدل من : «سوء العذاب » قاله الزجاج{[48271]} .

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ{[48272]} ، لأنه جواب لسؤال مقدر ؛ و «يُعْرَضَونَ » على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من «النار » ، ويجوز أن يكون حالاً من «آل فرعون » .

الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره : «يُعْرََضُونَ »{[48273]} .

وقرئ النَّارَ{[48274]} منصوباً ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ }{[48275]} [ الإنسان : 32 ] .

الثاني : أن ينتصب على الاختصاص ، قال الزمخشري{[48276]} : فعلى الأول لا محل «لِيُعْرَضُونَ » ؛ لكنه مفسراً ، وعلى الثاني هو حال كما تقدم .

فصل

دلت هذه الآية على إثبات عذاب القبر ؛ لأن الآية تقتضي عرض النار عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا ، وليس المراد منه يوم القيامة ، لقوله بعده { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا ؛ لأن عرض النار عليهم غدوًّا وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت ، وقبل القيامة{[48277]} . وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء ، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم لأنه لا قائل بالفَرْقِ .

فإن قيل : لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض القبائح{[48278]} عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب ، وخوّفهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار . ثم في الآية ما يمنع حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين :

أحدهما : أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع . وقوله : { عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } يقتضي أن لا يحصُلَ ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر .

الثاني : أن الغدوةَ والعشيةَ إنما يحصلان في الدنيا ، أما في القيامة{[48279]} فلا وجود لهما ، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر .

والجواب على الأول : أن في الدنيا عرض عليهم الكلمات التي تذكرهم أمر النار ، ولم يعرض عليهم نفس الناس ، وهذا لظاهر الآية ، وارتكاب المجاز ، وأما قولهم : الآية تدل على حصول العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز فالجواب لِمَ لا يجوز أن يكتفى في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين ، ثم عند قيام يُلْقَى في النار ، فيدوم عذاب حينئذٍ{[48280]} ، وأيضاً لا يمتنع أن يكون ذكر الغَدْوَةِ والعشية كناية عن الدوام ، كقوله تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] وأما قولهم : إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا : لِمَ لا يجوز أن يقال : إن ( عند ) حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب{[48281]} .

فصل

قال ابنُ مَسعُود رضي الله عنه أرواح آل فرعون في أجْوَاف طيرٍ سُودٍ يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار ، يقال : يا آل فرعون هذه منازلكم . وقال قتادة ، والسدي والكلبي : تعرض روح كل كافر على النار بُكْرَةً وعَشِيًّا ما دامتْ الدنيا{[48282]} .

وروى ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن أحَدَكُم إذَا مَاتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّار فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فيقال : هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامةَ »{[48283]} .

قوله : «وَيَوْمَ تَقُومُ » فيه ثلاثة أوجهٍ :

أظهرها : أنه معمول لقول مضمر ، وذلك القول المضمر محكي به الجملة الأمرية من قوله : «أَدْخِلُوا ، والتقدير : يقال لهم يوم تقوم الساعة : أَدْخِلُوا{[48284]} .

الثاني : أنه منصوب «بأدْخِلُوا{[48285]} » أي أدخلوا يوم تقوم ، وعلى هذه الوجهين ، فَالْوقَفُ تامٌّ على قوله : «وَعَشِيًّا » .

الثالث : أنه معطوف على الظرفين قبله ، فيكون معمولاً ليُعْرَضَونَ ، والوقف على هذا قوله : «الساعة » . و«أدخلوا » معمول لقول مضمر ، أي يقال لهم كذا{[48286]} . وقرأ الكسائيُّ وحمزةٌ ونافعٌ وحفصٌ أدْخِلُوا بقطع الهمزة وكسر الخاء ، أي يقال للملائكة أدخلوا ، أَمْراً من «أَدْخَلَ » «فآل فرعون » مفعولٌ أول ، و «أشد العذاب » مفعول ثانٍ ، والباقون بهمزة وصل ، من دَخَلَ يَدْخُلُ ، فآل فِرْعونَ منادَى حذف حرف النداء منه و«أَشَدّ » منصوب به ، إما ظرفاً ، وإما مفعولاً به{[48287]} . أي ادخلوا يا آل فِرْعَون في أشد العذاب . قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد ألوان العذاب ، غير العذاب الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا .


[48271]:معاني القرآن وإعرابه 4/376 وهو أحد وجهين قال بهما أبو إسحاق.
[48272]:السابق. وانظر أيضا البيان لابن الأنباري 2/33، ومعاني الأخفش 677، وقد قال هو وابن الأنباري بالأول أيضا.
[48273]:البيان 2/332 والدر المصون 4/699، وقال بت أبو البقاء هو والأول 1120 أيضا.
[48274]:شاذة قراءة، قياسية عربية ولم تعز في البحر 7/468 ولا في الكشاف 3/430.
[48275]:وانظر التبيان 1120.
[48276]:الكشاف 2/430.
[48277]:كذا في الرازي و (ب).وفي (أ) وقيل بدل وذلك.
[48278]:كذا في النسختين وفي ب والرازي: النصائح.
[48279]:في الرازي بدل القيامة القبر.
[48280]:في الرازي بعد ذلك.
[48281]:وانظر في هذا الفصل كله تفسير الرازي 27/78 مع تغيير طفيف في العبارة.
[48282]:البغوي 6/96.
[48283]:أخرجه الإمام مالك في الموطأ باب الجنائز رقم 48 والإمام البغوي في المرجع السابق، وأحمد في مسنده 2/16، 51، 113، 123.
[48284]:قاله السمين في الدر 4/699 والأخفش في المعاني 678 والعكبري في التبيان 1021.
[48285]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/332.
[48286]:السمين في الدر 4/699.
[48287]:السابق وانظر إتحاف 379 ومشكل إعراب القرآن لمكي 2/266 والكشف له أيضا 2/245 وانظر أيضا الحجة في القراءات السبعة لابن خالويه 315.