{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } فصار من لقطهم ، وهم الذين باشروا وجدانه ، { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } أي : لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط ، أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم ، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر ، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل ، قيض اللّه أن يكون زعيمهم ، يتربى تحت أيديهم ، وعلى نظرهم ، وبكفالتهم .
وعند التدبر والتأمل ، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل ، ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم ، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته ، بحيث إنه صار من كبار المملكة .
وبالطبع ، إنه لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا ، وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقدة ، ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف -الذي بلغ بهم الذل والإهانة إلى ما قص اللّه علينا بعضه - أن صار بعض أفراده ، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض ، كما سيأتي بيانه .
وهذا مقدمة للظهور ، فإن اللّه تعالى من سنته الجارية ، أن جعل الأمور تمشي على التدريج شيئا فشيئا ، ولا تأتي دفعة واحدة .
وقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } أي : فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم{[599]} ونكيد هم ، جزاء على مكرهم وكيدهم .
والفاء فى قوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً . . . } هى الفصيحة .
والالتقاط : وجود الشىء والحصول عليه من غير طلب ولا قصد .
والمراد بآل فرعون : جنوده وأتباعه الذين عثروا على التابوت الذى به موسى ، وحملوه إلى فرعون . والحزن - بالتحريك ، وبضم فسكون - نقيض السرور ، وفعله كفرح .
يقال : حزنه الأمر وأحزنه : أى : جعله حزينا .
واللام فى قوله : { لِيَكُونَ . . } هى لام العاقبة والصيرورة .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } لما كان التقاطهم إياه يؤدى إلى كونه عدوا لهم وحزنا ، فاللام فى { لِيَكُونَ } لام العاقبة والصيرورة ، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين ، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا ، فذكر الحال بالمآل كما فى قول الشاعر :
وللمنايا تربى كل مرضعة . . . ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أى : فعاقبة البناء : الخراب ، وإن كان فى الحال مفروحا به .
ويرى بعضهم أن اللام هنا يصح أن تكون للتعليل ، بمعنى ، أن الله - تعالى - سخر بمشيئته وإرادته فرعون وآله . لالتقاط موسى ، ليجعله لهم عدوا وحزنا ، فكأنه - سبحانه - يقول : قدرنا عليهم التقاطه بحكمتنا وإرادتنا ، ليكون لهم عدوا وحزنا .
إلى هذا المعنى أشار الإمام ابن كثير بقوله : قال محمد بن إسحاق وغيره اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل ، لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك - أى : لم يريدوا بالتقاطه العداوة والحزن - ، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضى ما قالوا . ولكن إذا نظرنا إلى معنى السياق ، فأنه نبقى اللام للتعليل ، لأن معناه : أن الله - تعالى - قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوا وحزنا ، فيكون أبلغ فى إبطال حذرهم منه .
ومع وجاهة الرأيين ، إلا أننا نميل إلى الرأى الثانى ، لأنه - كما قال الإمام ابن كثير - أبلغ فى إبطال حذرهم منه ، ولأن قوله - تعالى - : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } يشير إلى أن اللام للتعليل . . .
والمعنى : ونفذت أم موسى ما أوحيناه إليها ، فأرضعت ابنها موسى وألقته فى اليم حين خافت عليه القتل ، فالتقطه آل فرعون من اليم ، ليكون لهم عدوا وحزنا ، وليعلموا أن ما أردناه لا بد أن يتم مهما احترسوا واحتاطوا وحذروا ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وقوله - تعالى - : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } تعليل لما قبله ، و { خَاطِئِينَ } أى : مرتكبين للخطيئة التى هى الذنب العظيم ، كقوله - تعالى - فى قوم نوح - عليه السلام - :
{ مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً . . . . } وكقوله - سبحانه - فى شأن الكافرين { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أى : فعلنا ما فعلنا من جعل موسى عدوا وحزنا لفرعون وآله ، لأن فرعون ووزيره هامان ، وجنودهما الذين يناصرونهما ، كانوا مرتكبين للذنوب العظيمة فى كل ما يأتون ويذرون ، ومن مظاهر ذلك قتلهم لذكور بنى إسرائيل ، وإبقاؤهم لإناثهم .
الالتقاط افتعال من اللقط ، وهو تناول الشيء الملقى في الأرض ونحوها بقصد أو ذهول . أسند الالتقاط إلى آل فرعون لأن استخراج تابوت موسى من النهر كان من إحدى النساء الحافات بابنة فرعون حين كانت مع أترابها وداياتها على ساحل النيل كما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الخروج .
واللام في { ليكون لهم عدواً } لام التعليل وهي المعروفة عند النحاة بلام كي وهي لام جارة مثل كي ، وهي هنا متعلقة ب ( التقطه ) . وحق لام كي أن تكون جارة لمصدر منسبك من ( أن ) المقدرة بعد اللام ومن الفعل المنصوب بها فذلك المصدر هو العلة الباعثة على صدور ذلك الفعل من فاعله . وقد استعملت في الآية استعمالاً وارداً على طريقة الاستعارة دون الحقيقة لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ولكنهم التقطوه رأفة به وحباً له لما أُلقي في نفوسهم من شفقة عليه ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدوّاً في الله ومُوجب حزن لهم ، شبهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشأن العلة غالباً فاستعير لترتب العاقبة المشبهة الحرف الذي يدل على ترتيب العلة تبعاً لاستعارة معنى الحرف إلى معنى آخر استعارة تبعية ، أي استعير الحرف تبعاً لاستعارة معناه لأن الحروف بمعزل عن الاستعارة لأن الحرف لا يقع موصوفاً ، فالاستعارة تكون في معناه ثم تسري من المعنى إلى الحرف فلذلك سميت استعارة تبعية عند جمهور علماء المعاني خلافاً للسكاكي .
وضمير { لهم } يعود إلى آل فرعون باعتبار الوصف العنواني لأن موسى كان عدواً لفرعون آخر بعد هذا ، أي ليكون لدولتهم وأمتهم عدواً وحزناً فقد كانت بعثة موسى في مدة ابن فرعون هذا .
ووصفه بالحزن وهو مصدر على تقدير متعلق محذوف ، أي حزناً لهم لدلالة قوله لهم السابق . وليس هذا من الوصف بالمصدر للمبالغة مثل قولك : فلان عدل ، لأن ذلك إذا كان المصدر واقعاً موقع اسم الفاعل فكان معنى المصدر قائماً بالموصوف . والمعنى هنا : ليكون لهم حزناً . والإسناد مجاز عقلي لأنه سبب الحزن وليس هو حزناً .
وقرأ الجمهور { وحزناً } بفتح الحاء والزاي . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضم الحاء وسكون الزاي وهما لغتان كالعَدَم والعُدْم .
وجملة { إن فرعون وهامان } إلى آخرها في موضع العلة لجملة { ليكون لهم عدواً وحزناً } أي قدّر الله نجاة موسى ليكون لهم عدوّاً وحزناً ، لأنهم كانوا مجرمين فجعل الله ذلك عقاباً لهم على ظلمهم بني إسرائيل وعلى عبادة الأصنام .
والخاطىء : اسم فاعل من خَطِىءَ كفرح إذا فعل الخطيئة وهي الإثم والذنب ، قال تعالى { ناصية كاذبة خاطئة } [ العلق : 16 ] . ومصدره الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء . وتقدم في قوله تعالى { إن قتلهم كان خطئاً كبيراً } في [ الإسراء : 31 ] . وأما الخطأ وهو ضد العمد ففعله أخطأ فهو مخطىء ، قال تعالى { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم } [ الأحزاب : 5 ] ، فعلى هذا يتعين أن الفصحاء فرقوا الاستعمال بين مرتكب الخطيئة ومرتكب الخطأ ، وعلى التفرقة بين أخطأ وخطِىءَ درج نفطويه وتبعه الجوهري والحريري .
وذهب أبو عبيد وابن قتيبة إلى أن اللفظين مترادفان وأنهما لغتان ، وظاهر كلام الزمخشري هنا أنه جار على قول أبي عبيد وابن قتيبة فقد فسر هذه الآية بالمعنيين وقال في « الأساس » : « أخطأ في الرأي وخطىء إذا تعمد الذنب . وقيل : هما واحد » .
ويظهر أن أصلهما لغتان في معنى مخالفة الصواب عن غير عمد أو عن عمد ، ثم غلب الاستعمال الفصيح على تخصيص أخطأ بفعل على غير عمد وخطِىءَ بالإجرام والذنب وهذا الذي استقر عليه استعمال اللغة . وإن الفروق بين الألفاظ من أحسن تهذيب اللغة .
فأما محمل الآية هنا فلا يناسبه إلا أن يكون { خاطئين } من الخطيئة ليكون الكلام تعليلاً لتكوين حزنهم منه بالأخارة . وتقدم ذكر هامان آنفاً القصص [ 6 ] .