السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَٱلۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًاۗ إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ} (8)

{ فالتقطه } بالتابوت صبيحة الليل { آل } أي : أعوان { فرعون } فوضعوه بين يديه ، قال ابن عباس وغيره : كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا له أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهنّ وتنضح الماء على وجوههنّ إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون إنّ هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجر فائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله تعالى رزقه في إبهامه يمصه لبناً فألقى الله تعالى لموسى المحبة في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت فقبلته وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظنّ أنّ ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقاً منك فاقتله فهمّ فرعون بقتله فقالت آسية قرّة عين لي ولك واستوهبت موسى من فرعون وكانت لا تلد فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه .

وفي حديث قال رسول صلى الله عليه وسلم : «لو قال يومئذ هو قرّة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها » قال الزمخشري : وهذا على سبيل الفرض والتقدير أي : لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ولأسلم كما أسلمت هذا إن صح الحديث تأويله والله أعلم بصحته انتهى ، ثم قال لآسية ما تسميه قالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء وسى هو الشجر فذلك قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً } أي : يطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق وقتل رجالهم { وحزنا } أي : بزوال ملكهم لأنه يظهر فيهم الآيات التي يهلك الله تعالى بها من يشاء منهم ويستعبد نساءهم ثم يظفر بهم حتى يهلكهم الله تعالى بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله . تنبيه : في هذه اللام الوجهان المشهوران أحدهما : أنها للعلة المجازية دون الحقيقية لأنهم لم يكن داعيهم إلا الالتقاط أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ولكن المحبة والتبني غير أنّ ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدّب الذي هو ثمرة الضرب ليتأدّب ، وتحريره أنّ هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد ، والثاني : أنها للعاقبة والصيرورة لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوّاً وحزنا ولكن صار عاقبة أمره إلى ذلك .

وقرأ حمزة والكسائي : بضمّ الحاء وسكون الزاي ، والباقون بفتحهما وهما لغتان بمعنى واحد كالعدم والعدم ، ثم بين تعالى أنّ هذا الفعل لا يفعله إلا أحمق مقهور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب بقوله تعالى : { إنّ فرعون وهامان } وزيره { وجنودهما } أي : كلهم على طبع واحد { كانوا خاطئين } أي : في كل شيء فلا بدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون ، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بما ربى عدوّهم على أيديهم .