{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
أي : فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل ، وجميع الكتب ، الذين أول من دخل فيهم ، وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وأسلموا لله وحده ، ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله { فَقَدِ اهْتَدَوْا } للصراط المستقيم ، الموصل لجنات النعيم ، أي : فلا سبيل لهم إلى الهداية ، إلا بهذا الإيمان ، لا كما زعموا بقولهم : " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه ، و " الهدى " هو العلم بالحق ، والعمل به ، وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم ، وهو الشقاق الذي كانوا عليه ، لما تولوا وأعرضوا ، فالمشاق : هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق ، ويلزم من المشاقة المحادة ، والعداوة البليغة ، التي من لوازمها ، بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول ، فلهذا وعد الله رسوله ، أن يكفيه إياهم ، لأنه السميع لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات ، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم ، بالغيب والشهادة ، بالظواهر والبواطن ، فإذا كان كذلك ، كفاك الله شرهم .
وقد أنجز الله لرسوله وعده ، وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم ، وسبى بعضهم ، وأجلى بعضهم ، وشردهم كل مشرد .
ففيه معجزة من معجزات القرآن ، وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، فوقع طبق ما أخبر .
ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين ، فقد أصابوا الهدى ، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } .
والفاء التي صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها . لأن قول المؤمنين { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } إلخ .
من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة ، ويستميل النفوس الشاردة ، لبعده عن التعصب والعناد ، لأنه الحق الذي تؤيده العقول السليمة ، وإذا لم يؤمنوا به فمرد ذلك إلى شدة عنادهم والتواء أفكارهم .
وقوله تعالى : { فَقَدِ اهتدوا } ترغيب لهم في اتباع الحق الذي اتبعه المؤمنون ، أي : فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا .
وكلمة : ( مثل ) في الآية الكريمة معناها ، نفس الشيء وحقيقته . المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا ، ومنه قول العرب : " مثلك لا يبخل " ولامراد أنت لا تبخل . ويرى بعض المفسرين أن كلمة " مثل " هنا على حقيقتها وهي الشبية والنظير ، وأن المماثلة وقعت بين الإِيمانيين ، وأنها لا تقتضي تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به .
قال الإِمام القرطبي : " المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا " .
وقال ابن جرير : فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه ، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء ، كقول القائل : ( مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به ) يعني ذلك ( مر عمرو بأخيك مثل مروري به ) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم ، فكذلك قوله : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإِيمانين لا بين المؤمن به " .
وقوله تعالى : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } بيان لحالهم عند إعراضهم ، عن دعوة الحق ، ووعد من الله - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر عليهم ، والعصمة من شرورهم .
والشقاق : المنازعة والمخالفة وأصله من الشق سوهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه .
وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .
والمعنى : وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإِيمان الذي تدعوهم إليه - يا محمد - فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك ، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم ، وينصرك عليهم ، فهو سميع لما يقولونه فيك ، عليه بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد ، وهو الكفيل بكف بأسهم ، وقطع دابرهم .
وعبر - سبحانه - عن شدة مخالفتهم بقوله : " فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ " مبالغة في وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه .
ورتب قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } على قوله { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب في مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم ، فبشر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى . وأنه - سبحانه - سيكفيك شرهم .
وقد أوفى الله - تعالى - بوعده ، فنصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم ، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغيدره . فالآية الكريمة قد تضمنت وعداً للمؤمنين بالنصر ، ووعيداً لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة .
{ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ( 137 )
وقوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } الآية ، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
والمعنى إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين( {[1317]} ) ، هذا قول بعض المتأولين ، وقيل الباء زائدة مؤكدة ، والتقدير آمنوا مثل ، والضمير في { به } عائد كالضمير في { له } ، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به ، ويظهر عود الضمير على { ما } ، وقيل { مثل } زائدة كما هي في قوله { ليس كمثله شيء }( {[1318]} ) [ الشورى : 11 ] ، وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت ، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، هذا قول ابن عباس ، وقد حكاه عنه الطبري قراءة ، ثم أسند إليه أنه قال : «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإنه لا مثل لله تعالى ، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على جهة التفسير( {[1319]} ) ، أي هكذا فليتأول ، وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس( {[1320]} ) فالله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن تولوا } أي أعرضوا ، يعني به اليهود والنصارى ، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة ، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق ، وقيل : شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه ، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم( {[1321]} ) ويغلبه عليهم ، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير .
وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { السميع } لقول كل قائل ، { العليم } بما يجب أن ينفذ في عباده .