103- لم يأذن الله لكم أن تحرِّموا ما أحلَّه لكم ، فتشقوا أذن الناقة ، وتمتنعوا عن الانتفاع بها ، وتسموها «بَحِيرة » ، وتتركوها بناء على نذر ، وتسموها «سائبة » ، وتُحَرِّموا الذكر من الشاة ، وتهبوه للأصنام ، حتى إذا أنتجت الشاة ذكراً وأنثى سميتموها «وَصِيلة » ، ولم تذبحوا الذكر منها . ولم يشرع لكم أن تحرِّموا الانتفاع بالذكر من الإبل إذا ولد منه عشرة أبطن ، وتطلقوا عليه اسم «حَام » ، لم يشرع الله لكم شيئاً من ذلك ، ولكن الذين كفروا يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ، وأكثرهم لا يعقلون{[58]} .
{ 103 - 104 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }
هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما أحله الله ، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما ، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وهي : ناقة يشقون أذنها ، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة .
{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي : ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه ، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل ، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة .
{ وَلَا حَامٍ } أي : جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم .
فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان . وإنما ذلك افتراء على الله ، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فلا نقل فيها ولا عقل ، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم .
ثم حكى - سبحانه - بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها ، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم ، مع أنها لا أصل لها ، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال - تعالى - :
{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها . ولما كان الكفار يحرمون على انفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات - وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها - بين تعالى - أن ذلك باطل فقال : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ }
وجعل هنا بمعنى شرع ووضع ، و { من } زائد لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق .
وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها ، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها . وسموها " البحيرة " أي : مشقوقة الأذن .
وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن ذكر ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب .
والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء إذا ترك يجري .
قال أبو عبيدة : كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض . سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة .
وقال محمد بن إسحاق : السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث ، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ، ولا يشرب لبنها إلا ضيف .
وعن ابن عباس : هي التي تسيب للأصنام ، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم .
والوصيلة بزنة فعيلة بمعنى فاعله . قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين - أي اثنين اثنين - وإذا ولدت في آخرها انثى وذكرا . قيل : وصلت أخاها . فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ، وتجري مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها .
وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت انثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم .
وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى ، فكانوا يتركونها للطواغيت ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر .
والحام اسم فاعل من حمى يحمي أي منع .
قال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء أو مرعى .
وقال أبو عبيدة : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى .
هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة ، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها .
ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها ، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها .
هذا ، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه : " روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال . البحيرة : هي التي تكون درها للطواغيت . والسائبة : هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا .
وروى الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أول من سيب السوائب وعبد الإِصنام أبو خزاعة عمرو بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " .
والمعنى : ما شرع الله - تعالى - شيئاً مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم .
والمراد بالذين كفروا في قوله { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم الفاسدة والمزاعم الباطلة ، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا .
والمراد بأكثرهم في قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر .
وقد عبر - سبحانه - بقوله { وَأَكْثَرُهُمْ } إنصافاً للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة ، وإستجابت للحق عند ظهوره .
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم . أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئاً منها ولا سنه لعباده . المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه{ وأكثرهم } يعني الأتباع { لا يعقلون } بل يتبعون هذه الأمور تقليداً وضلالاً بغير حجة و { جعل } في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله . لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها . ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سنَّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة » فعلية بمعنى مفعولة . وبحر شق كانوا إذا انتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال{[4752]} ، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون ، وقال مسروق إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق ، فلكل سنة ، وهي كلها ضلال ، قال ابن سيده ويقال «البحيرة » هي التي خليت بلا راع ، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة .
قال القاضي أبو محمد : أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر ، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل :
فيه من الأخرج المرتاع قرقرة *** هدر الديامي وسط الهجمة البحر{[4753]}
فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان . وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها ، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها ، فتقول هذه بحر ، وتقطع جلودها فتقول هذه صوم فتحرمها عليك وعلى أهلك ؟ قال نعم قال : فإن ما آتاك الله لك حل . وساعد الله أشد ، وموسى الله أحُّد{[4754]} .
والسائبة : هي الناقة التي تسيب للآلهة ، والناقة أيضاً إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر سيبت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي : «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك ، قال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : لا إنك مؤمن وإنه كافر » ، هو أول من غير دين إسماعيل عليه اسلام ونصب الأوثان وسيب السوائب{[4755]} ، وكانت السوائب أيضاً في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه ، والقدوم من السفر ، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره ، يرون ذلك كعتق بني آدم{[4756]} ، ذكره السدي وغيره وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله ، و «الوصيلة » قال أكثر الناس :
إن «الوصيلة » في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جدياً{[4757]} ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقاً{[4758]} استحيوها{[4759]} وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح ، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها .
شك الطبري في إحدى اللفظين . وأما «الحامي » فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء{[4760]} ، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب ؟ وقال نحوه ابن زيد .
قال القاضي أبو محمد : وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة ، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع وُيذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل ، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف ، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر ، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة ، والفرق بين ، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له : اجعله حبساً لا يباع أصله ، وحبس أصحاب النبي عليه الصلاة السلام{[4761]} .
وقوله تعالى { ولكن الذين كفروا } الآية ، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون ، وأن الذين { لا يعقلون } هم الأتباع ، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية ، وقال محمد بن أبي موسى : الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب ، والذين { لا يعقلون } هم أهل الأوثان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما تأخر أيضاً من قوله { وإذا قيل لهم } والأول من التأويلين أرجح .