{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أي : مائدة فيها طعام ، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك . وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم .
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليه السلام فقال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا .
ثم حكى - سبحانه - بعض ما دار بين عيسى وبين الحواريين فقال : { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } .
" المائدة " الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد يميد ، إذا تحرك . فكأن المائدة تتحرك بما عليها . وقال أبو عبيدة : سميت " مائدة " لأنها ميد بها صاحبها . أي : أعطيها وتفضل عليه بها . والخوان : ما يؤكل عليه الطعام .
ويرى الأخفش وغيره أن المائدة هي لطعام نفسه ، مأخوذة من " مادة " إذا أفضل .
و " إذ " في قوله { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ } متعلق بمحذوف تقديره : أذكر وقت قول الحواريين يا عيسى ابن مريم .
وقد ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه - كما حكى القرآن عنهم - لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا ألوهيته أو ولديته وقوله : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } فيه قراءتان سبعيتان :
الأولى : { يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بالياء - على أنه فعل فاعل . وقوله { أَن يُنَزِّلَ } المفعول .
والاستفهام على هذه القراءة محمول على المجاز ، لأن الحواريين كانوا مؤمنين ، ولا يعقل من مؤمن أن يشك في قدرة الله .
ومن تخرجاتهم في معنى هذه القراءة أن قوله { يستطيع } بمعى " يطيع " والسين زائدة . كاستجاب وأجاب .
أي : أن معنى الجملة الكريمة : هل يطيعك - ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء .
وسنفصل القول في تخريج هذه القراءة ، وفي اختلاف المفسرين في إيمان الحواريين بعد انتهائنا من تفسير هذه الآيات الكريمة .
أما القراءة الثانية : فهي " هل تستطيع ربك " بالتاء وبفتح الباء في " ربك " والمعنى : هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء .
فقوله " ربك " منصوب على التعظيم بفعل محذوف يقدر على حسب المقام وهذه القراءة لا إشكال فيها ، لأن الاستطاعة فيها متجهة إلى عيسى . أي : أتستطيع يا عيسى سؤال ربك إنزال المائدة أم لا تستطيع ؟
قال القرطبي : قراءة الكسائي وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب وقرأ الباقون بالياء " هل تستطيع " " ربك " بالرفع .
والمعنى على قراءة الكسائي - بالتاء : هل تستطيع أن تسأل ربك . .
قالت عائشة : كان القوم أعلم بالله - تعالى - من أن يقولوا " هل يستطيع ربك " وقال معاذ : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم : هل تستطيع ربك قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً يقرأ بالتاء " .
وقوله - سبحانه - { قَالَ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } حكاية لما رد به عيسى على الحواريين فيما طلبوه من إنزال المائدة .
أي قال لهم عيسى : اتقوا الله وقفوا عند حدوده ، واملأوا قلوبكم هيبة وخشية منه ، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإِيمان ، فإن المؤمن الصادق في إيمانه يبتعد ، عن أمثال هذه المطالب التي قد تؤدي إلى فتنته .
وقوله تعالى : { إذ قال الحواريون } . . الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة ، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة . إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عم ينقد منه من طلب الآيات ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربُّك » بالياء ورفع الباء من ربك . وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي ، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر ، لكنه بمعنى : هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه ؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله ؟ أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربَّك » بالتاء ونصب الباء من ربك . المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ؟ قالت عائشة رضي الله عنها : كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك{[4795]} .
قال القاضي ابو محمد : نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على ما قد تبين آنفاً . وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء . قال أبو علي : وذلك حسن ، و { أن } في قوله { أن ينزل } على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال . و { أن } مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفاً منه إذ لا يتم المعنى إلا به .
قال القاضي أبو محمد : وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا ، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ ، و «المائدة » فاعلة من ماد إذا تحرك ، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة :
تهدى رؤوس المترفين الأنداد *** إلى أمير المؤمنين الممتاد{[4796]}
أي الذي يستطعم ويمتاد منه ، وقول عيسى عليه السلام { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً ، ولا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وهذا هو ظاهر الآية ، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام { اتقوا الله } إنكار لقولهم ذلك ، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع » بالياء من أسفل متوجه على أمرين : أحدهما : بشاعة اللفظ ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت ، وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.