{ 77 } { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
أي : هو تعالى المنفرد بغيب السماوات والأرض ، فلا يعلم الخفايا والبواطن والأسرار إلا هو ، ومن ذلك علم الساعة فلا يدري أحد متى تأتي إلا الله ، فإذا جاءت وتجلت لم تكن { إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } من ذلك ، فيقوم الناس من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم ، وتفوت الفرص لمن يريد الإمهال ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، فلا يستغرب على قدرته الشاملة إحياؤه للموتى .
والمراد بالغيب في قوله - سبحانه - : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض . . . } ، ما لا تدركه الحواس ، ولا تحيط بكنهه العقول ؛ لأنه غائب عن مدارك الخلائق .
والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : لله - تعالى - وحده ، علم جميع الأمور الغائبة عن مدارك المخلوقين ، والتي لا سبيل لهم إلى معرفتها لا عن طريق الحس ، ولا عن طريق العقل . ومن كانت هذه صفته ، كان مستحقا للعبادة والطاعة ، لا تلك المعبودات الباطلة التي لا تعلم من أمرها أو من أمر غيرها شيئا .
وقوله - سبحانه - : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } ، بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة .
والساعة في الأصل : اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين . والمراد بها هنا : يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال .
وسمي يوم القيامة بالساعة : لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما يقع فيه من حساب أو لأنه على طوله زمنه يسير عند الله - تعالى - .
واللمح : النظر الذي هو في غاية السرعة . يقال لمحه لمحا ولمحانا ، إذا رآه بسرعة فائقة ، ولمح البصر : التحرك السريع لطرف العين من جهة الى جهة ، أو من أعلى إلى أسفل .
و " أو " هنا ، للتخيير بالنسبة لقدرة الله - تعالى - أو للإِضراب .
أي : ولله - سبحانه - وحده علم جميع ما غاب في السموات والأرض من أشياء ، وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته ، وما يترتب عليه من إماتة وإحياء ، وحساب ، وثواب وعقاب . . . ما أمر ذلك كله إلا كتحرك طرف العين من جهة إلى جهة ، أو هو - أي أمر قيامها - أقرب من ذلك وأسرع ، بحيث يكون في نصف هذا الزمان أو أقل من ذلك ، لأن قدرته لا يعجزها شيء ، قال - تعالى - : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . والمقصود من هذه الجملة الكريمة : بيان سرعة تأثير قدرة الله - عز وجل - متى توجهت إلى شيء من الأشياء .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يؤكد شمول قدرته فقال - تعالى - : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، أي : إن الله - تعالى - لا يعجز قدرته شيء ، سواء أكان هذا الشيء يتعلق بأمر قيام الساعة في أسرع من لمح البصر . . أم بغير ذلك من الأشياء .
يخبر تعالى عن كماله وقدرته على الأشياء ، في علمه غيب السماوات والأرض ، واختصاصه بذلك ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه [ الله ]{[16609]} تعالى على ما يشاء - وفي قدرته التامة{[16610]} التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن ، فيكون ، كما قال : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، أي : فيكون ما يريد كطرف العين . وهكذا قال هاهنا : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، كما قال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .
وقوله : { ولله غيب السماوات والأرض } الآية ، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه ، وقوله : { وما أمر الساعة } ، آية إخبار بالقدرة ، وحجة على الكفار ، والمعنى على ما قال قتادة وغيره : ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن ، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك ، ف { أو } على هذا ، على بابها في الشك ، وقيل : هي للتخيير{[7386]} ، و «لمح البصر » ، هو وقوعه على المرئي ، وقوى هذا الإخبار بقوله ، { إن الله على كل شيء قدير } . ومن قال : { وما أمر الساعة } له وما إتيانها ووقوعها بكم ، على جهة التخويف من حصولها ، ففيه بعد تجوز كثير ، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين »{[7387]} ، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها ، ووجه التأويل : أن القيامة لما كانت آتية ولا بد ، جعلت من القرب { كلمح البصر } ، كما يقال : ما السنة إلا لحظة ، إلا أن قوله : { أو هو أقرب } ، يرد أيضاً هذه المقالة .
كان ممّا حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت ، لأنهم توهّموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل ، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده .
ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان ، وتفنّنت الأغراض بالمناسبات ، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابّة ، ولكنه يمهلهم ويؤخّرهم إلى أجل عَيّنه في علمه لحكمته وحذّرهم من مفاجأته ، فثنى عِنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج عن قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرّهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرّف الله ومشيئته متى شاءه . فذلك قوله تعالى : { ولله غيب السموات والأرض } بحيث لم يغادر شيئاً مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بيّنه لهم استقصاءً للإعذار لهم .
ومن مقتِضيات تأخير هذا أنه يشتمل بصريحه على تعليم ، وبإيمائه إلى تهديد وتحذير .
فاللام في قوله : { وللّه غيب السماوات والأرض } لام الملك . والغيب : مصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي الأشياء الغائبة . وتقدم في قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ سورة البقرة : 3 ] . وهو الغائب عن أعين الناس من الأشياء الخفيّة والعوالم التي لا تصل إلى مشاهدتها حواسّ المخلوقات الأرضية .
والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضاً أنه عالم بها .
وتقديم المجرور أفاد الحصر ، أي له لا لغيره . ولام الملك أفادت الحصر ، فيكون التقديم مفيداً تأكيد الحصر أو هو للاهتمام .
وأمر { الساعة } : شأنها العظيم . فالأمر : الشأن المهمّ ، كما في قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ سورة النحل : 1 ] ، وقول أبي بكر رضي الله عنه : ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، أي شأن وخطب .
و { الساعة } : علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم ، وهي من جملة غيب الأرض .
ولمح البصر : توجّهه إلى المرئيّ لأن اللّمح هو النظر . ووجه الشّبه هو كونه مقدوراً بدون كلفة ، لأن لَمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد .
وهذا التشبيه أفصح من الذي في قول زهير :
فهُنّ ووادي الرّسّ كاليَد للفم
ووجه الشّبه يجوز أن يكون تحقّق الوقوع بدون مشقّة ولا إنظار عند إرادة الله تعالى وقوعه ، وبذلك يكون الكلام إثباتاً لإمكان الوقوع وتحذيراً من الاغترار بتأخيره .
ويجوز أن يكون وجهُ الشّبه السرعةَ ، أي سرعة الحصول عند إرادة الله ، أي ذلك يحصل فَجْأة بدون أمارات كقوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ سورة الأعراف : 187 ] . والمقصود : إنذارهم وتحذيرهم من أن تبغتهم الساعة ليقلعوا عمّا هم فيه من وقتِ الإنذار .
ولا يتوهّم أن يكون البصر تشبيهاً في سرعة الحصول إذ احتمال معطّل لأن الواقع حارس منه .
وأو } في { أو هو أقرب } للإضراب الانتقالي ، إضراباً عن التشبيه الأول بأن المشبّه أقوى في وجه الشبّه من المشبّه به ، فالمتكلّم يخيّل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التّشبيه ، ثم يعرض عن التّشبيه بأن المشبّه أقوى في وجه الشّبه وأنه لا يجد له شبيهاً فيصرّح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانياً .
ثم المراد بالقرب في قوله تعالى : { أقرب } على الوجه الأول في تفسير لمح البصر هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدوريّة بمنزلة الشيء القريب التّناول كقوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ سورة ق : 16 ] .
وعلى الوجه الثاني في تفسيره يكون القرب قرب الزمان ، أي أقرب من لمح البصر حصّة ، أي أسرع حُصولاً .
والتذييل بقوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } صالح لكلا التفسيرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولله غيب السماوات والأرض}، وذلك أن كفار مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فأنزل الله عز وجل: {ولله غيب السماوات والأرض}، وغيب الساعة، ليس ذلك إلى أحد من العباد، ثم قال سبحانه: {وما أمر الساعة}، يعني: أمر تأتي، يعني: البعث، {إلا كلمح البصر}، يعني: كرجوع الطرف، {أو هو أقرب}، يقول: بل هو أسرع من لمح البصر، {إن الله على كل شيء} من البعث وغيره، {قدير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولله أيها الناس مِلك ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض، دون آلهتكم التي تدعون من دونه، ودون كلّ ما سواه، لا يملك ذلك أحد سواه. {وَما أمْرُ السّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ}، يقول: وما أمر قيام القيامة والساعة التي تنشر فيها الخلق للوقوف في موقف القيامة، إلا كنظرة من البصر؛ لأن ذلك إنما هو أن يقال له: كن فيكون...
وقوله: {إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، يقول: إن الله على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر قادر، وعلى ما يشاء من الأشياء كلها، لا يمتنع عليه شيء أراده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولله غيب السماوات والأرض}، هذا يحتمل وجوها:... ولله علم ما غيب أهل السماوات وأهل الأرض، أي ما غيب بعضهم من بعض، فذلك ليس بمغيب عن الله، بل ما غاب عن الخلق وما ظهر لهم، فذلك لله كله ظاهر بمحل واحد، وهو كقوله: {يعلم ما تسرون وما تعلنون} (النحل: 19)...
كأنه قال، والله أعلم: ولله العلم الذي غيب عن أهل السماوات وأهل الأرض، وهي الساعة، لم يطلع عليها غيره...
{وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} قال بعضهم: قوله: {وما أمر الساعة} أهون على الله وأيسر من لمح البصر؛ إذ ليس شيء أيسر وأهون على الإنسان من لمح البصر؛ لأنه يلمح ببصره، فيبصر به لحظة ما بين الأرض والسماء... يقول: من قدر أن ينشئ في خلق من خلائقه ما يبصره بلمحة البصر... فهو قادر على إعادة الخلق وبعثهم بعد الفناء، بل هو أقرب، أي إعادته إياهم أسرع وأقرب من لمح البصر. إلى هذا يذهب الحسن...
فذكر هذا على التمثيل ليس على إرادة حقيقة الوقت بقدر لمح البصر، ولكن على المبالغة في السرعة، وذكر أقصى ما يقع في الأوهام، ويتصور... أو يكون تأويل قوله: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر}، أي: ليس ما بين الساعة وبينكم مما مضى من الوقت إلا قدر البصر، أي: لم يبق من وقت قيامها مما مضى إلا ما ذكر من لمح البصر أو أقرب مما ذكر، على الاستقصار لما بقي...
{إن الله على كل شيء قدير}، على البعث والإعادة، على كل شيء، لا يُعجزه شيء...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء منهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}، أي: يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه. أو أراد بغيب السموات والأرض: يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض، لم يطلع عليه أحد منهم، {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، أي: هو عند الله وإن تراخى، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، إذا بالغتم في استقرابه. ونحوه قوله: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47]، أي: هو عنده دان، وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أن إقامة الساعة، وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت وأوحاه، {إِنَّ الله على كُلِّ شَيء قَدِيرٌ}، فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق؛ لأنه بعض المقدورات. ثم دل على قدرته بما بعده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى على ما قال قتادة وغيره: ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك... و «لمح البصر»، هو وقوعه على المرئي... وقوى هذا الإخبار بقوله، {إن الله على كل شيء قدير}...
ووجه التأويل: أن القيامة لما كانت آتية ولا بد، جعلت من القرب {كلمح البصر}، كما يقال: ما السنة إلا لحظة، إلا أن قوله: {أو هو أقرب}...
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى مثل الكفار بالأبكم العاجز، ومثل نفسه بالذي يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ومعلوم أنه يمتنع أن يكون آمرا بالعدل، وأن يكون على صراط مستقيم إلا إذا كان كاملا في العلم والقدرة، ذكر في هذه الآية بيان كونه كاملا في العلم والقدرة... والمعنى: وما أمر قيام القيامة في السرعة إلا كطرف العين، والمراد منه تقرير كمال القدرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تم هذان المثلان، الدالان على تمام علمه وشمول قدرته، القاضيان بأن غيره عدم، عطف على قوله: {إن الله يعلم}، قوله مصرحاً بتمام علمه وشمول قدرته: {ولله}، أي: هذا علم الله في المشاهدات الذي علم من هذه الأدلة أنه مختص به، ولذي الجلال والإكرام وحده {غيب السماوات والأرض}، كما أن له وحده شهادتهما، فما أراد من ذلك كانت قدرته عليه كقدرته على الشهادة من الساعة التي تنكرونها استعظاماً لها، ومن غيرهما بما فصله لكم من أول السورة إلى هنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما، {وما أمر الساعة}، وهي: الوقت الذي يكون فيه البعث، على اعتقادكم أنها لا تكون؛ استبعاداً لها واستصعاباً لأمرها في سرعته عند الناس لو رأوه، ولذا عبر عنه بالساعة، {إلا كلمح البصر}، أي: كرجع الطرف المنسوب إلى البصر أيّ بصر كان، {أو هو أقرب}، وإذا الخلق قد قاموا من قبورهم مهطعين إلى الداعي -هذا بالنسبة إلى علمهم وقياسهم، وأما بالنسبة إليه سبحانه، فأمره في الجلالة والعظم والسرعة والإتقان يجل عن الوصف، وتقصر عنه العقول، ولا شك فيه ولا تردد، ولذلك علله بقوله تعالى: {إن الله}، أي: الملك الأعظم، {على كل شيء}، أي ممكن {قدير}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقضية البعث إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدلا شديدا في كل عصر، ومع كل رسول. وهي غيب من غيب الله الذي يختص بعلمه...
وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين، مهما يبلغ علمهم الأرضي، ومهما تتفتح لهم كنوز الأرض وقواها المذخورة. وإن أعلم العلماء من بني البشر ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه. أيرتد نفسه الذي خرج أم يذهب فلا يعود! وتذهب الآمال بالإنسان كل مذهب، وقدره كامن خلف ستار الغيب لا يدري متى يفجؤه، وقد يفجؤه اللحظة. وإنه لمن رحمة الله بالناس أن يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا وينشئوا، ويخلفوا وراءهم ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبى ء لهم خلف الستار الرهيب...
والساعة من هذا الغيب المستور. ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة، أو اختلت، ولما سارت الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة، والناس يعدون السنين والأيام والشهور والساعات واللحظات لليوم الموعود!... فهي قريب. ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم. وتدبير أمرها لا يحتاج إلى وقت. طرفة عين. فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها... وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق، وانتفاضها، وجمعها، وحسابها، وجزاؤها.. كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء: كن. فيكون. إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر، وينظرون بعين البشر، ويقيسون بمقاييس البشر.. ومن هنا يخطئون التصور والتقدير!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان ممّا حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت، لأنهم توهّموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده...
ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان، وتفنّنت الأغراض بالمناسبات، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابّة، ولكنه يمهلهم ويؤخّرهم إلى أجل عَيّنه في علمه لحكمته وحذّرهم من مفاجأته، فثنى عِنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج عن قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرّهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرّف الله ومشيئته متى شاءه. فذلك قوله تعالى:"ولله غيب السموات والأرض" بحيث لم يغادر شيئاً مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بيّنه لهم استقصاءً للإعذار لهم...
والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضاً أنه عالم بها...
وتقديم المجرور أفاد الحصر، أي له لا لغيره. ولام الملك أفادت الحصر، فيكون التقديم مفيداً تأكيد الحصر أو هو للاهتمام...
وأمر {الساعة}: شأنها العظيم. فالأمر: الشأن المهمّ، كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله} [سورة النحل: 1]، وقول أبي بكر رضي الله عنه: ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، أي شأن وخطب...
و {الساعة}: علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم، وهي من جملة غيب الأرض...
ووجه الشّبه هو كونه مقدوراً بدون كلفة... لأن لَمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد...
وأو} في {أو هو أقرب} للإضراب الانتقالي، إضراباً عن التشبيه الأول بأن المشبّه أقوى في وجه الشبّه من المشبّه به، فالمتكلّم يخيّل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التّشبيه، ثم يعرض عن التّشبيه بأن المشبّه أقوى في وجه الشّبه وأنه لا يجد له شبيهاً فيصرّح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانياً...
ثم المراد بالقرب في قوله تعالى: {أقرب} على الوجه الأول في تفسير لمح البصر هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدوريّة بمنزلة الشيء القريب التّناول كقوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [سورة ق: 16]...
أراد الحق سبحانه أن يعلمنا منه عالم الملك، ومنه عالم الملكوت... عالم الملك، هو: العالم المحس لنا... وعالم الملكوت المخفي عنا فلا نراه...
ولذلك، فربنا سبحانه وتعالى لما تكرم على سيدنا إبراهيم عليه السلام قال: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} (سورة الأنعام 75)...
إذن: لله تعالى في كونه ظاهر وغيب.. الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس، وله أشياء غيبية لا يراها أحد، ولا يطلع عليها...
غيب الإنسان... يعده بعض الناس نقصاً فينا، وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية؛ لأنك إن أردت أن تعلم غيب الناس فاسمح لهم أن يعلموا غيبك...
فستر الغيب كمال في الكون؛ لأنه يربي ويثري الفائدة فيه...
وهناك غيب وضع الله في كونه مقدمات توصل إليه وأسباباً لئلا يكون غيباً.. كالكهرباء والجاذبية وغيرها.. كانت غيباً قبل أن تكتشف.. وهكذا كل الاكتشافات والأسرار التي يكشفها لنا العلم، كانت غيباً عنا في وقت، ثم صارت مشاهدة في وقت آخر. ذلك؛ لأن الحق سبحانه لا ينثر لنا كل أسرار كونه مرة واحدة، بل ينزله بقدرٍ ويكشفه لنا بحساب، فيقول سبحانه: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} (سورة الحجر 21): فالذي كان غيباً في الماضي أصبح ظاهراً مشاهداً اليوم؛ لأن الله سبحانه كشف لنا أسبابه فتوصلنا إليه.. فهذا غيب جعل الله له مقدمات يصل إليها من يبحث في الكون، فإذا ما أذن الله به، وحان وقت ميلاده، وفق الله أحد الباحثين إلى اكتشافه، إما عن طريق البحث، أو حتى الخطأ في المحاولة، أو عن طريق المصادفة...
وهناك نوع آخر من الغيب، وهو الغيب المطلق، وهو غيب عن كل البشر استأثر الله به، وليس له مقدمات وأسباب توصل إليه، كما في النوع الأول.. هذا الغيب، قال تعالى في شأنه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا "26 "إلا من ارتضى من رسولٍ.. "27 "} (سورة الجن): فإذا ما أعلمنا الرسول غيباً من الغيبيات فلا نقول: إنه يعلم الغيب.. لأنه لا يعلم إلا ما أعلمه الله من الغيب.. إذن: هذا غيب لا يدركه أحد بذاته أبداً...
ومن هذا الغيب المطلق غيب استأثر الله به، ولا يطلع عليه أحداً حتى الرسل...
. قوله تعالى: {ولله غيب السماوات والأرض}، هذا يسمونه أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، أي: قصر غيب السماوات والأرض عليه سبحانه...
ومعنى السماوات والأرض، أي: وما بينهما وما وراءهما، ولكن المشهور من مخلوقات الله: السماء، والأرض...
ثم يقول تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}: جاءت الآية بهذا الغيب الوحيد؛ لأنه الغيب الذي استأثر الله به.. ولا يجليها لوقتها إلا هو.. فناسب الحديث عن الغيب أن يأتي بهذا الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله...
شبه الحق تبارك وتعالى أمر الساعة عنده سبحانه بلمح البصر، ولكن اللمح حدث، والأحداث تحتاج إلى أزمان، وقد تطول الأزمان في ذاتها، ولكنها تقصر عند الرائي...
المشاهد المصورة على البطيء؛ ليعطيك فرصة متابعتها بدقة... فتجد المشهد الذي مر كلمح البصر، يعرض أمامك بطيئاً في زمن أطول، في حين أن الزمن في السرعة يتجمع تجمعاً لا تدركه أنت بأي معيار، لا بالدقيقة ولا بالثانية...
فالأشياء بالنسبة له سبحانه لا تعالج، وإنما هي: كن فيكون، حتى كن فيكون من حرفين: الكاف لفظ وله زمن، والنون لفظ وله زمن، إنما أمر الساعة أقرب من الكاف والنون، ولكن ليس هناك أقل من هذا في فهمنا... ومادامت الأحداث تختلف باختلاف القدرات، فقدرة الله هي القدرة العليا التي لا تحتاج لزمن لفعل الأحداث...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ مسألة التوحيد والشرك ليست مسألة عقائدية ذهنية صرفة كما يتوهم البعض، وذلك لما لها من آثار بالغة على كافة أصعدة الحياة، بل وأنّ بصماتها لتراها شاخصة على كافة مرافق ومناحي الحياة ـ فالتوحيد إِذا دخل قلباً أحياه وغرس فيه عوامل الرّشد والكمال؛ لأنّه بتوسيع أفق نظر وتفكير الإِنسان بشكل يجعله مرتبطاً بالمطلق...
والشرك على العكس من ذلك تماماً، حيث يجعل الإِنسان يعيش في دوامة عالم محدود... فيختزل فكر وإِدراك وقدرة وسعي الإِنسان في دائرة تلك الأبعاد الضيقة التقاذف...
وهو تابع أبداً مادام لم يتحرر من ربقة الشرك، ولن يذوق طعم الحرية والاستقلال الحق إِلاّ بعد أن يتوجه إلى التوحيد بصدق...
[وذلك بخلاف] الشخص الذي يمتلك الفكر المنطقي المنسجم مع نظام التوحيد الحاكم على الخليقة، [فانه] يسير دوماً على صراط مستقيم، وهذا السير سيوصله بأقرب وأسرع طريق إلى الهدف المنشود، دون أن يفني ذخائر وجوده في طرق الضلال والانحراف...
وخلاصة القول: فالتوحيد والشرك ليسا أمراً عقائدياً ذهنياً بحتاً، بل نظام كامل لكل الحياة، وبرنامج واسع يشمل: فكر، أخلاق وعواطف الإِنسان، ويتناول كذلك حياته الفردية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية...
ثم [إن] إِشارة الآيات إلى الدعوة للعدل والسير على الصراط المستقيم من بين صفات وشؤون الموحدين؛ لتبيان ما لهذين الأمرين من أهمية في خصوص الوصول إلى المجتمع الإِنساني السعيد، وهو ما يتم من خلال امتلاك برنامج صحيح بعيد عن أي انحراف...