{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
أي : فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل ، وجميع الكتب ، الذين أول من دخل فيهم ، وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وأسلموا لله وحده ، ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله { فَقَدِ اهْتَدَوْا } للصراط المستقيم ، الموصل لجنات النعيم ، أي : فلا سبيل لهم إلى الهداية ، إلا بهذا الإيمان ، لا كما زعموا بقولهم : " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه ، و " الهدى " هو العلم بالحق ، والعمل به ، وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم ، وهو الشقاق الذي كانوا عليه ، لما تولوا وأعرضوا ، فالمشاق : هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق ، ويلزم من المشاقة المحادة ، والعداوة البليغة ، التي من لوازمها ، بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول ، فلهذا وعد الله رسوله ، أن يكفيه إياهم ، لأنه السميع لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات ، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم ، بالغيب والشهادة ، بالظواهر والبواطن ، فإذا كان كذلك ، كفاك الله شرهم .
وقد أنجز الله لرسوله وعده ، وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم ، وسبى بعضهم ، وأجلى بعضهم ، وشردهم كل مشرد .
ففيه معجزة من معجزات القرآن ، وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، فوقع طبق ما أخبر .
ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين ، فقد أصابوا الهدى ، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } .
والفاء التي صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها . لأن قول المؤمنين { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } إلخ .
من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة ، ويستميل النفوس الشاردة ، لبعده عن التعصب والعناد ، لأنه الحق الذي تؤيده العقول السليمة ، وإذا لم يؤمنوا به فمرد ذلك إلى شدة عنادهم والتواء أفكارهم .
وقوله تعالى : { فَقَدِ اهتدوا } ترغيب لهم في اتباع الحق الذي اتبعه المؤمنون ، أي : فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا .
وكلمة : ( مثل ) في الآية الكريمة معناها ، نفس الشيء وحقيقته . المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا ، ومنه قول العرب : " مثلك لا يبخل " ولامراد أنت لا تبخل . ويرى بعض المفسرين أن كلمة " مثل " هنا على حقيقتها وهي الشبية والنظير ، وأن المماثلة وقعت بين الإِيمانيين ، وأنها لا تقتضي تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به .
قال الإِمام القرطبي : " المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا " .
وقال ابن جرير : فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه ، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء ، كقول القائل : ( مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به ) يعني ذلك ( مر عمرو بأخيك مثل مروري به ) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم ، فكذلك قوله : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإِيمانين لا بين المؤمن به " .
وقوله تعالى : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم } بيان لحالهم عند إعراضهم ، عن دعوة الحق ، ووعد من الله - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر عليهم ، والعصمة من شرورهم .
والشقاق : المنازعة والمخالفة وأصله من الشق سوهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه .
وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .
والمعنى : وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإِيمان الذي تدعوهم إليه - يا محمد - فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك ، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم ، وينصرك عليهم ، فهو سميع لما يقولونه فيك ، عليه بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد ، وهو الكفيل بكف بأسهم ، وقطع دابرهم .
وعبر - سبحانه - عن شدة مخالفتهم بقوله : " فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ " مبالغة في وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه .
ورتب قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } على قوله { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب في مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم ، فبشر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى . وأنه - سبحانه - سيكفيك شرهم .
وقد أوفى الله - تعالى - بوعده ، فنصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم ، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغيدره . فالآية الكريمة قد تضمنت وعداً للمؤمنين بالنصر ، ووعيداً لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة .
يقول تعالى : { فَإِنْ آمَنُوا } أي{[2851]} : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها المؤمنون ، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهْتَدَوْا } أي : فقد أصابوا الحق ، وأرشدوا إليه { وَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن الحق إلى الباطل ، بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } أي : فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، حدثنا زياد بن يونس ، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم ، قال : أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه . قال زياد : فقلت له : إن الناس يقولون : إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل ، فوقع الدم على
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال نافع : بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم{[2852]} .
{ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ( 137 )
وقوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } الآية ، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
والمعنى إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين( {[1317]} ) ، هذا قول بعض المتأولين ، وقيل الباء زائدة مؤكدة ، والتقدير آمنوا مثل ، والضمير في { به } عائد كالضمير في { له } ، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به ، ويظهر عود الضمير على { ما } ، وقيل { مثل } زائدة كما هي في قوله { ليس كمثله شيء }( {[1318]} ) [ الشورى : 11 ] ، وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت ، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، هذا قول ابن عباس ، وقد حكاه عنه الطبري قراءة ، ثم أسند إليه أنه قال : «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإنه لا مثل لله تعالى ، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على جهة التفسير( {[1319]} ) ، أي هكذا فليتأول ، وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس( {[1320]} ) فالله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن تولوا } أي أعرضوا ، يعني به اليهود والنصارى ، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة ، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق ، وقيل : شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه ، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم( {[1321]} ) ويغلبه عليهم ، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير .
وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { السميع } لقول كل قائل ، { العليم } بما يجب أن ينفذ في عباده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به}... فإن صدق أهل الكتاب بالذي صدقتم به يا معشر المسلمين من الإيمان بجميع الأنبياء والكتب،
{وإن تولوا}: أي وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب،
{فإنما هم في شقاق}: في ضلال واختلاف... لأن اليهود كفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وبما جاءا به، وكفرت النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به... {فسيكفيكهم الله} يا محمد...
{وهو السميع العليم} لقولهم للمؤمنين: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} {العليم} بما قالوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}: فإن صدق اليهود والنصارى بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقرّوا بذلك مثل ما صدقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم، فقد وُفّقوا ورَشِدُوا ولزموا طريق الحقّ واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك. فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحد عملاً إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدها قبلها... فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء... والتمثيل إنما دخل تمثيلاً بين المرويين... فكذلك قوله: {فإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ} إنما وقع التمثيل بين الإيمانين لا بين المُؤْمنَ به.
{وَإنْ تَوَلّوْا} وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كونوا هودا أو نصارى، فأعرضوا، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياء، وابتعثت به الرسل، وفرقوا بين رسل الله، وبين الله ورسله، فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض، فاعلموا أيها المؤمنون أنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله ولكم.
وأصل الشقاق عندنا -والله أعلم- مأخوذ من قول القائل: «شقّ عليه هذا الأمر» إذا كَرَبه وآذاه، ثم قيل: «شاق فلان فلانا» بمعنى: نال كل واحد منهما من صاحبه ما كَرَبه وآذاه وأثقلته مساءته، ومنه قول الله تعالى ذكره:"وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا" بمعنى فراق بينهما.
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ} فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: «كونوا هودا أو نصارى تهتدوا» من اليهود والنصارى، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورسله، إما بقتل السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات، فإن الله هو السميع لما يقولون لك بألسنتهم ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضالة، العليم بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء. ففعل الله بهم ذلك عاجلاً وأنجز وعده، فكفي نبيه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إياه عليهم حتى قتل بعضهم وأجلى بعضا وأذلّ بعضا وأخزاه بالجزية والصّغار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: {فإنما هم في شقاق}؛ قيل: الشقاق هو الخلاف الذي فيه العداوة، والله أعلم.
{فسيكفيكهم الله} هذا وعيد من الله عز وجل لهم، ووعد وعد نبيه بالنصر له؛ لأن أولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض، فوعد له عز وجل بقتل بعض وإجلاء آخرين إلى الشام وغيره.
إخبار بكفاية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أمْرَ أعدائه، فكفاه مع كثرة عددهم وحِرْصِهِمْ، فوجد مخبره على ما أخبر به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن سلكوا طريقتكم، وأخذوا بسبيلكم، أُكرِموا بما أُكْرمتم، ووصلوا إلى ما وصلتم، وإنْ أبَوْا إلا امتيازاً، أبَيْنَا إلا هوانهم... من خالفك فهو في شق الأعداء، ومن خَدَمَك فهو في شق الأولياء.
{فسيكفيكم الله وهو السميع العليم}: كفاية الله متحققة لأن عناية الله بكم متعلقة، فمن نابذكم قصمته أيادي النصرة، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم منا خصائص اللطف والإكرام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ} من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 185] فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين، فقيل: فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير، أي: فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا.
وفيه أنّ دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال...
ويجوز أن لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى: إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين.
اعلم أنه تعالى لما بين الطريق الواضح في الدين، وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته، وأن يحترز في ذلك عن المناقضة: رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}. من وجوه
(أحدها): أن المقصود منه التثبيت...
(وثانيها): أن المثل صلة في الكلام...
(وثالثها): أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتوصلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
(ورابعها): أن يكون قوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا، فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين. أما قوله: {فقد اهتدوا} فالمراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه، ومن هذا حاله يكون وليا لله داخلا في أهل رضوانه.
فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها.
ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال: {وإن تولوا فإنما هم في شقاق}... أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة البتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة...
قال القاضي: ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلا على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن.
فعند هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال: {فسيكفيكهم الله} تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به...
ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال: {وهو السميع العليم}... وفيه وجهان
(الأول): أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه.
(الثاني): أنه وعد للرسول عليه السلام يعني: يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرادك...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} من باب التعجيز والتبكيت، كقوله تعالى: {فائتوا بسورة من مثله} إذ لا مثل لما آمن به المسلمون، ولا دين كدين الإسلام. وقيل: الباء للآلة دون التعدية، والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى: {جزاء سيئة بمثلها}. والمعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به، أو المثل مقحم كما في قوله: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} أي عليه، ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به
{وإن تولوا فإنما هم في شقاق} أي إن أعرضوا عن الإيمان، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق، وهو المناوأة والمخالفة، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر.
{فسيكفيكهم الله} تسلية وتسكين للمؤمنين، ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم.
{وهو السميع العليم} إما من تمام الوعد، بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة، أو وعيد للمعرضين، بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله، كفايته ومنعه منهم، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه، وغلبته إياهم، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك، إذا لم يتوصل إلى ذلك، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه.
{وهو السميع العليم}، مناسبة هاتين الصفتين: أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختتم ذلك بهما، أي وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقادكم. ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن، قدّمت صفة السميع على العليم، ولأن العليم فاصلة أيضاً. وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد، لأن المعنى، وهو السميع العليم، فيجازيكم بما يصدر منكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم تعالى ما أمرهم به وكان عين الهدى، تسبب عنه قوله معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن إيمانهم لما لهم من الكثافة والغلظة والجلافة في غاية البعد:
{فإن آمنوا} أي أهل الكتاب الذين أرادوا أن يستتبعوكم {بمثل} أي بنفس وحقيقة {ما آمنتم به}... فكانوا تبعاً لكم {فقد اهتدوا} عكس ما قالوا مثلنا تهتدوا، وعبر بفعل المطاوعة لكون الإيمان مع ظهوره بظهور دلائله موافقاً للفطرة الأولى، وأما الكفر فإنه لما كان لأجل ظهور الإيمان وانطباعه في الجنان بعيداً عن المزاج لا يكون إلا بنوع من العلاج بين الهوى والعقل وكان لا يكون إلا بعد الإعراض عن الإيمان وغيبته عن العيان عبر عن ارتكابه بما يشعر بذلك بصيغة التفعل فقال: {وإن تولوا}
قال الحرالي: فيه إشعار بإيمان مؤمن منهم وتولي متول منهم، لأن الله تعالى إذا صنف الخطاب كان نبأ عن تصنيف الكيان، فهو تعالى لا يخرج نبأه على غير كائن فيكون نبأ لا كون له، إنما ذلك أدنى أوصاف بعض الخلق {فإنما هم في شقاق} أي يريدون أن يكونوا في شق غير شقكم، لأنهم يعلمون أن الهدى ليس في شيء غيره كما اقتضته "إنما"...
ولما كان اللازم لمشاقّتهم على هذا الحال المكايدة والمحاربة وكان ذلك على وجه العناد لم يكل سبحانه كفاية أوليائه إلى غيره فسبب ذلك قوله: {فسيكفيكهم الله}؛ أي بوعد لا خلف فيه أصلاً وإن تأخر شيئاً من تأخر بما له من قدرة وغيرها من صفات الكمال التي أفهمها الاسم الشريف، والكفاية إغناء المقاوم عن مقاومة عدوه بما لا يحوجه إلى دفع له -قاله الحرالي...
ولما كان المناوئ لشخص إما أن يكيده بقوله أو بفعله وكان الفعل مسبوقاً بالارتسام في الضمير وكان الكافي لشخص إنما يتوقف كفايته على العلم بما يصلحه قال: {وهو السميع} أي لما يقول أعداؤكم {العليم} بما يضمرون فهو يسبب لكل قول وضمير منهم ما يرد ضرره عليه، فحظكم منهم مقصور على أذى في القول وسوء في وُدّ في الضمير، وحظهم منكم قهرهم وسبيهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
دل تنكيرُ الشِقاق على امتناعِ الوفاقِ وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال والقتالِ لا محالة عقَّب ذلك بتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتفريحِ المؤمنين بوعد النصر، والغَلَبة ضمانُ التأييد والإعزاز، وعبّر بالسين الدالةِ على تحقق الوقوعِ اْلبتَةَ فقيل: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} أي سيكفيك شِقاقَهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال، وقد أنجز عز وعلا وعدَه الكريمِ بقتل بني النضير، وتلوينُ الخطاب بتجريده للنبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك كفايةٌ منه سبحانه للكلِّ لما أنه الأصلُ والعُمدة في ذلك وللإيذانِ بأن القيامَ بأمورِ الحروب وتحمُّلَ المُؤَن والمشاقِّ ومقاساةَ الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصر في حقه عليه السلام أتم وأكملُ.
{وَهُوَ السميع العليم} تذييلٌ لما سبق من الوعد وتأكيدٌ له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعوه به ويعلم ما في نِيَّتك من إظهار الدينِ فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أي يسمع ما ينطِقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابقِ فإن وعيدَ الكفرة وعد المؤمنين.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{فإنما هم في شقاق}: أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن لمثل هنا معنى لطيفا ونكتة دقيقة. وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على الأنبياء ولكن طرأت على إيمانهم بالله نزغات الوثنية، وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس والتأليف بين الناس، وتمسكوا بالقشور وهي رسوم العبادات الظاهرة ونقصوا منها وزادوا عليها ما يبعد كلا منهم عن الآخر ويزيد في عداوته وبغضائه له، ففسقوا عن مقصد الدين من حيث يدعون العمل بالدين. فلما بين الله لنا حقيقة دين الأنبياء وأنه واحد لا خلاف فيه ولا تفريق، وأن هؤلاء الذين يدعون اتباع الأنبياء قد ضلوا عنه فوقعوا في الخلاف والشقاق، أمرنا سبحانه وتعالى أن ندعوهم إلى الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين بأن يؤمنوا بمثل ما نؤمن نحن به لا بما هم عليه من ادعاء حلول الله في بعض البشر، وكون رسولهم إلها أو ابن الله ومن التفرق والشقاق لأجل الخلاف في بعض الرسوم والتقاليد. فالذي يؤمنون به في الله ليس مثل الذي نؤمن به، فنحن نؤمن بالتنزيه، وهم يؤمنون بالتشبيه، وعلى ذلك القياس، فلو قال: فإن آمنوا بالله وبما أنزل على أولئك النبيين وما أوتوه فقد اهتدوا، لكان لهم أن يجادلونا بقولهم: إننا نحن المؤمنون بذلك دونكم، ولفظ "مثل "هو الذي يقطع عرق الجدل... [بناء] على أن المساواة في الإيمان بين شخصين بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر في صفته وقوته وانطباقه على المؤمن به وما يكون في نفس كل منهما من متعلق الإيمان يكاد يكون محالا فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم والإدراك.
ولو كانت القراءة: فإن آمنوا بما آمنتم به، كما روى عن ابن عباس في الشواذ، لكان الأولى أن يقدر المثل. فكيف نقول وقد ورد لفظ مثل متواترا: إنه زائد؟...
{فإنما هم في شقاق} أي إن أمرهم محصور في العداوة والمشاقة أي الإيذاء والإيقاع في المشقة أو شق العصا بتحري الخلاف والتعصب لما يفضلهم ويبينهم منكم...
{فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}... فهذا الوعد بالكفاية عام للمؤمنين وإن كان الخطاب خاصا. فإن أهل الكتاب وغيرهم ما شاقوا النبي لذاته وما كان لهم حظ في مقاومة شخصه، فالإيذاء كان متوجها إليه من حيث هو نبي يدعو إلى دين غير ما كانوا عليه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية، إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم:"كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه، و "الهدى "هو العلم بالحق، والعمل به، وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم، وهو الشقاق الذي كانوا عليه، لما تولوا وأعرضوا، فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة، والعداوة البليغة، التي من لوازمها، بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله، أن يكفيه إياهم، لأنه السميع لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم، بالغيب والشهادة، بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك، كفاك الله شرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يقرر السياق الحقيقة الكبيرة، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة. حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى. من اتبعها فقد اهتدى. ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت؛ ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار:
(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق).. وهذه الكلمة من الله، وهذه الشهادة منه سبحانه، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه. فهو وحده المهتدي. ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى. ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره. ولا عليه من جداله ومعارضته. فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه: (فسيكفيكهم الله. وهو السميع العليم)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن ذلك هو الإيمان الحق، وهو الإيمان الجامع غير المفرق، ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم، وهو الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة الإلهية، ولذا قال تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}...
[وإنها ل] صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لا يفرق، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان... فقد اهتدوا، لا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق...
والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها فقد اهتدوا، فكلمة "مثل "في موضعها من القول ولها دلالتها، فالمراد –وعند الله تعالى علمه –أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل} إلى آخر الآية الكريمة، يتحقق فيه أمران:
أولهما –الإيمان بالوحدانية، والثاني- الصفة الجامعة، فالمثلية ليست في أصل الإيمان، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة...
ولذا قال تعالى: {وإن تولوا فإنما هم في شقاق} التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر، لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب، والانحياز، ويفقد الدين سلطانه في القلوب، ويصير لجاجة، وعداوة وبغضاء بين الناس، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لا يلتقي ولا يهتدي، ولذلك قال: {في شقاق}، والشقاق: أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس... و عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية، وكأن الله تعالى نبيه الأمين، إلى أن يتوقع منهم الشر، والبغضاء المستمرة، ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه، وأنه ناصره تعالى عليهم: ولذا قال تعالى: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} والمعنى: إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك، ومانعك منهم. يقال كفاك هذا الرجل، أي منعك ودافع عنك،.
و "السين" هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، ف "السين" و"سوف" الدالان على المستقبل القريب أو البعيد، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم... وقد أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى: {وهو السميع العليم} أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون، وما يخفون وما يعلنون، عليم علم من يسمع، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم، ويكفيك أمرهم، إنه نعم المولى ونعم النصير...
قوله تعالى: {فقد اهتدوا} أي سلكوا سبيل الهداية؛ و «الهداية» هنا هداية العلم، والتوفيق؛ لأنهم آمنوا عن علم فوفِّقوا، واهتدوا؛ والهداية هنا مطلقة كما أن المسلمين الذين آمنوا على الوصف المذكور مهتدون هداية مطلقة.
{وإن تولوا}: «التولي» الإعراض؛ أي عن الإيمان بمثل ما آمنتم به. قوله تعالى: {فإنما هم في شقاق} جملة اسمية للدلالة على الاستمرار، والثبوت؛ وأتت ب «إنما» الدالة على الحصر؛ أي فما حالهم إلا الشقاق؛ و {في} للظرفية كأن الشقاق محيط بهم من كل جانب منغمسون فيه؛ و «الشقاق» بمعنى الخلاف؛ وهو في كل معانيه يدور على هذا حتى في قوله تعالى: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}: فبعضهم قال: «الشقاق» هنا بمعنى الضلال؛ ولكن الصحيح أن معناه: الخلاف؛ فكلما جاءت في القرآن فمآلها إلى الخلاف؛ ولكنها أشد، حيث تفيد الاختلاف مع طلب المشقة على الخصم؛ ويدل لهذا أن أصل معنى «الشقاق» أن يكون أحد الطرفين في شق، والثاني في شق آخر؛ وبهذا يكون الخلاف. وكأن الإنسان إذا سمع {فإنما هم في شقاق} قد يهاب، ويخاف؛ فطمأن الله تعالى المؤمنين بقوله: {فسيكفيكهم الله}؛ هذه الجملة فيها فعل، وفاعل، ومفعولان؛ الفاعل: لفظ الجلالة؛ والفعل: {يكفي}؛ والمفعول الأول: الكاف؛ والمفعول الثاني: الهاء؛ والسين هنا يقول العلماء: إنها للتنفيس، وتفيد شيئين هما تحقق الوقوع، وقرب الوقوع؛ بخلاف «سوف» فإنها تفيد التحقق؛ ولكن مع مهلة. قوله تعالى: {وهو السميع العليم}؛ {السميع} من أسماء الله؛ و {العليم} أيضاً من أسمائه -تبارك وتعالى-؛ وسبق تفسيرهما. قد يقول قائل: يبدو لنا أن المناسب أن يقول: «وهو القوي العزيز» لأنه قال: {فسيكفيكهم الله} فما هو الجواب عن ختمها بالسمع، والعلم؟ فالظاهر لي -والله أعلم- أنه لما كان تدبير الكيد للرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء قد يكون بالأقوال، وقد يكون بالأفعال؛ والتدبير أمر خفي ليس هو حرباً يعلن حتى نقول: ينبغي أن يقابل بقوة، وعزة؛ قال تعالى: {وهو السميع العليم} أي حتى الأمور التي لا يُدرى عنها، ولا يبرزونها، ولا يظهرون الحرابة للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله سميع عليم بها؛ هذا ما ظهر لي -والله أعلم -.
من فوائد الآية: أنه لا بد أن يكون إيمان اليهود، والنصارى مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته حقيقة، ووصفاً.
ومنها: أن ما خالف ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضلال؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق الاهتداء بأن يؤمنوا بمثل ما آمن به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته.
ومنها: أنه لا حجة لمن تولى عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الشقاق، والمجادلة بالباطل؛ لقوله تعالى: {فإن تولوا فإنما هم في شقاق}.
ومنها: وقوع الشقاق بين أهل الكتاب، والمسلمين؛ وعليه فلا يمكن أن يتفق المسلمون وأهل الكتاب؛ فتبطل دعوة أهل الضلال الذين يدْعون إلى توحيد الأديان؛ لقوله تعالى: {فإنما هم في شقاق}؛ فاليهود، والنصارى لما لم يؤمنوا صاروا معنا في شقاق؛ وهذا الشقاق لا بد أن يؤدي إلى عداوة، وبغضاء؛ وبالتالي إلى قتال؛ وهكذا وقع: فالمسلمون قاتلوا اليهود، وقاتلوا النصارى- الروم كلهم نصارى -؛ ومن بعد ذلك قاتلوا النصارى في الحروب الصليبية؛ وسيقاتلونهم أيضاً مرة أخرى حتى يدخل الإسلام عاصمتهم الروم؛ ولا بد من هذا في المستقبل بإذن الله؛ وسنقاتل اليهود حتى يختبئ اليهودي بالحجر، والشجر فينادي: «يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود» فلا يبَلِّغ عنهم.
ومن فوائد الآية: الوعيد الشديد لهؤلاء المتولين عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: {فسيكفيكهم الله}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولو تخلى هؤلاء عن عنصريتهم وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء الله فقد اهتدوا أيضاً، وإلاّ فقد ضلوا سواء السبيل...
في مواضع عديدة أكد القرآن على أن هدف الأنبياء واحد، ولا انفصال في خط النبوات، فكل الأنبياء (عليهم السلام) يصدرون عن منبع الوحي الإِلهي، ولذلك يوصي القرآن باحترام جميع الأنبياء، لكن هذا لا يمنع كما قلنا أن تنسخ كلُّ رسالة جديدة تنزل من الله سبحانه الرسالات السابقة، والإِسلام خاتم الرسالات السماوية.
[ف] أنبياء الله كالمعلمين، ربّى كل منهم البشرية في فصل دراسي، وبعد انتهاء المرحلة الدراسية الخاصة به يسلم المجتمع البشري إلى معلم آخر ليجتاز الأفراد مرحلة دراسية أعلى. ومن هنا فالمجتمع البشري مكلّف بتحمل مسؤوليات ما يأتي به آخر نبي، وهذا لا يتعارض مع كون سائر الأنبياء على حق.