{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وذلك -والله أعلم- بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة ، والدخول في الدين بكثرة ، وبما تحمل صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من المرسلين ، وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى الله عليه وسلم ، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإعزاز دينك ، ونصرك على أعدائك ، واتساع كلمتك ، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } تنال به السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي .
ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك مظاهر فضله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .
واللام فى قوله { لِّيَغْفِرَ } متعلقة بقوله : { فَتْحاً } وهى للتعليل . والمراد بما تقدم من ذنبه - صلى الله عليه وسلم - ما كان قبل النبوة ، وبما تأخر منه ما كان بعدها .
والمراد بالذنب هنا بالنسبة له - صلى الله عليه وسلم - ما كان خلاف الأولى ، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها ، فلا يصدر منه - صلى الله عليه وسلم - ذنب ، لأن غفران الذنوب معناه : سرتها وتغطيتها وإزالتها .
قال الشوكانى : وقوله - تعالى - : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } اللام : متعلقة بفتحنا وهى لام العلة ، قال المبرد : هى لام كى ومعناها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا - أى : ظاهرا واضحا مكشوفا - لكى يجتمع لك مغ المغفرة تمام النعمة فى الفتح ، فلما انضم إلى المغفرة شئ حادث واقع حسن معنى كى .
وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك لكى يجعل الفتح علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام الصيرورة .
وقال بعض العلماء : وقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } هو كناية عن عدم المؤاخذة . أو المراد بالذنب ما فرط منه - صلى الله عليه وسلم - من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه - صلى الله عليه وسلم - أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها ، فلا يصدر منه ذنب . لأن الغفر هو الستر ، والستر إما بين العبد والذنب ، وهو اللائق بمقام النبوة ، أو بين الذنب وعقوبته ، وهو اللائق بغيره .
واللام فى { لِّيَغْفِرَ } للعلة الغائية . أى : أن مجموع المتعاطفات الأربعة غاية للفتح المبين ، وسبب عنه لا كل واحد منها .
والمعنى : يسرنا لك هذا الفتح لإِتمام النعمة عليك ، وهدايتك إلى الصراط المستقيم ، ولنصرك نصرا عزيزا .
ولما امتن الله عليه بهذه النعم ، صدرها بما هو اعظم ، وهو المغفرة الشاملة ليجمع له بين عزى الدنيا والآخرة . فليست المغفرة مسببة عن الفتح .
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - مع هذه المغفرة من الله - تعالى - له ، أعبد الناس لربه ، وأشدهم خوفا منه ، وأكثرهم صلة به .
قال ابن كثير : قال الإِمام أحمد : " حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يصلى حتى تَرِمَ قدماه أى : تتورهم - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفلا أكون عبدا شكورا " " .
وعن عروة بن الزبير " عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه - أى : تتشقق - فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟
فقال : " يا عائشة ، أفلا أكون عدبا شكورا . . " " .
وقوله - تعالى - : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } معطوف على ما قبله . أى : ويتم - سبحانه - نعمه عليك - أيها الرسول الكريم - بأن يظهر دعوتك ، ويكتب بها النصر ، والخلود ، ويعطيك من الخصائص والمناقب ما لم يعطه لأحد من الأنبياء ، فضلا عن غيرهم .
{ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أى : ويهديك ويرشدك - سبحانه - بفضله وكرمه ، إلى الطريق القويم ، والدين الحق ، والأقوال الطيبة ، والأعمال الصالحة . .
وقوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } : هذا من خصائصه - صلوات الله وسلامه عليه - التي لا يشاركه فيها غيره . وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة . ولما كان أطوع خلق الله لله ، وأكثرهم{[26761]} تعظيما لأوامره{[26762]} ونواهيه . قال حين بركت به الناقة : " حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها " {[26763]} فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح ، قال الله له : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : في الدنيا والآخرة ، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي : بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم .
{ ليغفر لك الله } علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إزاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهرا ليصير ذلك بالتدريج اختيارا ، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة . { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه . { ويتم نعمته عليك } بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة . { ويهديك صراطا مستقيما } في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة .
ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له { ما تقدم } من ذنبه { وما تأخر } ، فقوله : { ليغفر } هي لام كي ، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك ، فكأنها لام صيرورة ، ولهذا قال عليه السلام : «لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا »{[10396]} . وقال الطبري وابن كيسان المعنى : { إنا فتحنا لك } فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك ، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح }{[10397]} [ النصر : 1 ] السورة إلى آخرها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف من وجهين أحدهما : أن سورة ، { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] إنما نزلت من أخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك . والآخر : أن تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب ، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري ، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله ، ولا يتضمن هذا أن الغفران قد وقع ، وما قدمناه أولاً يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام ، ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه : أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال :
«أفلا أكون عبداً شكوراً » ؟{[10398]} فهذا نص في أن الغفران قد وقع . وقال منذر بن سعيد المعنى : مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر . وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن المعنى : { إنا فتحنا لك } فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات { ليغفر لك } الآية ، وهذا نحو قول الطبري .
وقوله : { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قال سفيان الثوري : { ما تقدم } يريد قبل النبوءة . { وما تأخر } كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف ، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة ، وأجمع العلماء على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، [ وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل ]{[10399]} ، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع ، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال : { ما تقدم } هو ذنب آدم وحواء ، أي ببركتك { وما تأخر } هي ذنوب أمتك بدعائك . قال الثعلبي : الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي ولا على الإمام ، والآية ترد عليهم . وقال بعضهم : { وما تقدم } هو قوله يوم بدر : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد » . { وما تأخر } هو قوله يوم حنين : «لن نغلب اليوم من قلة » .
قال القاضي أبو محمد : وإتمام النعمة عليه ، هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة .
وقوله تعالى : { ويهديك صراطاً مستقيماً } معناه : إلى صراط ، فحذف الجار فتعدى الفعل ، وقد يتعدى هذا بغير حرف جر .