{ 45-46 } { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا ، ولمن قام بوراثته بعده تبعا : اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور ، ويعرفوا ظاهرها وباطنها ، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية ، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار . وأن مثل هذه الحياة الدنيا ، كمثل المطر ، ينزل على الأرض ، فيختلط نباتها ، تنبت من كل زوج بهيج ، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين ، وتفرح المتفرجين ، وتأخذ بعيون الغافلين ، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح ، فذهب ذلك النبات الناضر ، والزهر الزاهر ، والمنظر البهي ، فأصبحت الأرض غبراء ترابا ، قد انحرف عنها النظر ، وصدف عنها البصر ، وأوحشت القلب ، كذلك هذه الدنيا ، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه ، وفاق فيها على أقرانه وأترابه ، وحصل درهمها ودينارها ، واقتطف من لذته أزهارها ، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته ، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه ، إذ أصابه الموت أو التلف لماله ، فذهب عنه سروره ، وزالت لذته وحبوره ، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله ، وانفرد بصالح ، أو سيئ أعماله ، هنالك يعض الظالم على يديه ، حين يعلم حقيقة ما هو عليه ، ويتمنى العود إلى الدنيا ، لا ليستكمل الشهوات ، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات ، بالتوبة والأعمال الصالحات ، فالعاقل الجازم الموفق ، يعرض على نفسه هذه الحالة ، ويقول لنفسه : قدري أنك قد مت ، ولا بد أن تموتي ، فأي : الحالتين تختارين ؟ الاغترار بزخرف هذه الدار ، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة ، أم العمل ، لدار أكلها دائم وظلها ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه ، وربحه من خسرانه .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أن المقصود : اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا ، وقلة بقائها . والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين . . " .
والمعنى . واذكر لهم - أيها الرسول الكريم - ما يشبه هذه الحياة الدنيا فى حسنها ونضارتها ، ثم فى سرعة زوال هذا الحسن والنضارة ، لكى لا يركنوا إليها ، ولا يجعلوها أكبر همهم ، ومنتهى آمالهم .
وقوله : { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء . . } بيان للمثل الذى شبه الله - تعالى - به الحياة الدنيا أى : مثلها فى ازدهارها ثم فى زوال هذا الازدهار ، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء ، فى الوقت الذى نريد إنزاله فيه .
{ فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } والاختلاط والخلط : امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض .
أى : كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض ، فارتوى منه وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه .
وفى التعبير بقوله : { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } دون قوله : فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء ، وإلى أنه السبب الأساسى فى ظهور هذا النبات ، وفى بلوغه قوته ونضارته .
وقوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح } بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته ، بعد اخضراره وشدته وحسنه .
قال القرطبى ما ملخصه : { هشيما } أى متكسرا متفتتا ، يعنى بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه ، والهشم ، كسر الشئ اليابس . والهشيم من النبات : اليابس المتكسر . . ورجل هشيم : ضعيف البدن .
و { تذروه الرياح } أى تفرقه وتنفسه . . يقال : ذرت الريح الشئ تذروه ذروا ، إذا طارت به وأذهبته .
أى : فأصبح النبات بعد اخضراره ، يابسا متفتتا ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا فى حسنها وجمال رونقها ، ثم فى سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك ، بحال النبات الذى نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه ، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت .
والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - فاختلط . فأصبح . . يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة ، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التى استمر فيها النبات نضرا جميلا ، ثم صار هشيما تذروه الرياح .
وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها ، جميلة عزيزة ، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها ، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله ، { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } أى : وكان الله - تعالى - وما زال - على كل شئ من الأشياء التى من جملتها الإِنشاء والإِفناء ؛ كامل القدرة ، لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
وقد ذكر - سبحانه - ما يشبه هذه الآية فى سور كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
يقول تعالى : { وَاضْرِبْ } يا محمد للناس { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في زوالها وفنائها وانقضائها { كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ } أي : ما فيها من الحَبّ ، فشب وحسن ، وعلاه{[18198]} الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابسا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال{[18199]} { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } أي : هو قادر على هذه الحال ، وهذه الحال{[18200]} وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } الآية [ يونس : 24 ] ، وقال في سورة الزمر : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } [ الزمر : 21 ] ، وقال في سورة الحديد : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ الحديد : 20 ] .
وفي الحديث الصحيح : " الدنيا حلوة خضرة " {[18201]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً } .
يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب لحياة هؤلاء المستكبرين الذين قالوا لك : اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ ، إذا نحن جئناك الدنيا منهم مثلاً يقول : شبها كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السّماءِ يقول : كمطر أنزلناه من السماء فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ يقول : فاختلط بالماء نبات الأرض فأصْبَحَ هَشِيما يقول : فأصبح نبات الأرض يابسا متفتتا تَذْرُوهُ الرّياحُ يقول تطيره الرياح وتفرّقه يقال منه : ذَرَته الريح تَذْروه ذَرْوا ، وَذَرتْه ذَرْيا ، وأذرته تُذْرِيهِ إذراء كما قال الشاعر :
فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلا تُجْهِدَنّهُ *** فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطاةِ فَتزْلَقِ
يقال : أذريت الرجل عن الدابة والبعير : إذا ألقيته عنه .
وقوله : وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا يقول : وكان الله على تخريب جنة هذا القائل حين دخل جنته : ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعَةَ قائمَةً وإهلاك أموال ذي الأمْوَالِ الباخلين بها عن حقوقها ، وإزالة دنيا الكافرين به عنهم ، وغير ذلك مما يشاء قادر ، لا يعجزه شيء أراده ، ولا يعْييه أمر أراده ، يقول : فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله ، ولا يستكبر على غيره بها ، ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم ، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حسُن استواؤه بالمطر ، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء ، فتناهى نهايته ، عاد يابسا تذروه الرياح ، فاسدا ، تنبو عنه أعين الناظرين ، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى ، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير .
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة . { كماءٍ } هي كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل { اضرب } على أنه بمعنى صير . { أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه ، أو نجع في النبات حتى روى ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته . { فأصبح هشيماً } مهشوما مكسورا . { تذرُوه الرياح } تفرقه ، وقرئ " تذريه " من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة ، وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن . { وكان الله على كل شيء } من الإنشاء والإفناء . { مقتدِراً } قادرا .
قوله { الحياة الدنيا } يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه ، وقوله { كماء } يريد هي كماء ، وقوله { فاختلط به } أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، فالباء في { به } باء السبب ، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك ، لا أنه{[7813]} أراد اختصاصاً بوقت الصباح ، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أملك رأس البعير إن نفرا{[7814]}
و «الهشيم » المتفتت من يابس العشب ، ومنه قوله تعالى { كهشيم المحتظر }{[7815]} [ القمر : 31 ] ومنه هشم الثريد ، و { تذروه } ، بمعنى تفرقه ، وقرأ ابن عباس : «تذريه » ، والمعنى : تقلعه وترمي به ، وقرأ الحسن «تذروه الريح » بالإفراد ، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله : { وكان الله } عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان ، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله ، هذا قول سيبويه ، وهو معنى صحيح وقال الحسن { كان } : إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات ، أي إن القدرة كانت ، وهذا أيضاً حسن ، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل ، ثم يعود بعد ذلك { هشيماً } ويصير إلى عدم ، فمن كان له عمل صالح ، يبقى في الآخرة فهو الفائز ، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة ، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ، ونحوه .