وقوله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } والمراد بالمرض هنا : مرض الشك والشبهات والنفاق ، لأن{[42]} القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله : مرض الشبهات الباطلة ، ومرض الشهوات المردية ، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع ، كلها من مرض الشبهات ، والزنا ، ومحبة [ الفواحش و ]المعاصي وفعلها ، من مرض الشهوات ، كما قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وهي شهوة الزنا ، والمعافى من عوفي من هذين المرضين ، فحصل له اليقين والإيمان ، والصبر عن كل معصية ، فرفل في أثواب العافية .
وفي قوله عن المنافقين : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين ، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة ، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } فعقوبة المعصية ، المعصية بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة ، الحسنة بعدها ، قال تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }
ثم بين - سبحانه - العلة في خداعهم لله وللمؤمنين فقال : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } .
والمرض : العلة في البدن ونقيضه الصحة ، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه ، كسوء العقيدة والحسد ، والبغضاء والنفاق ، وهو المراد هنا .
وسمي ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا ، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل . كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل .
وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض ، للإٍشعار بأنه تمكن منها تمكناً شديداً كما يتمكن الظرف من المظروف فيه .
ثم أخبر- سبحانه- بأنهم بسبب سوء أعمالهم قد زادهم الله ضلالا وخسراً فقال : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } . لأنهم استمروا في نفاقهم وشكهم ، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه ، إذ المرض ينشئ المرض ، والانحراف يبدأ يسيراً ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين قد زادهم رجساً على رجسهم ، ومرضا على مرضهم ، وحسدا على حسدهم ، لأنهم عموا وصموا عن الحق ، ولأنهم كانوا يحزنون لأي نعمة تنزل بالمؤمنين . كما قال - تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } .
{ أَلِيمٌ } أي : مؤلم وموجع وجعاً شديدا . من ألم - كفرح - فهو ألم ، وآلمه يؤلمه إيلاما ، أي : أوجعه إيجاعاً شديدا .
والكذب : الإِخبار عن الشيء بخلاف الواقع . ولقد كان المنافقون كاذبين في قولهم " آمنا بالله وباليوم الآخر " وهم غير مؤمنين ، وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة ، والكفر أكبر معصية من الكذب ، للإشعار بقبح الكذب ، وللتنفير منه بأبلغ وجه ، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين ، الكفر الذي توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم ، والكذب الذي توعد الله مقترفة بالعقاب الأليم .
وعبر بقوله : { كَانُوا يَكْذِبُون } لإفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حيناً بعد حين ، وأن هذه الصفة هي أخص صفاتهم ، وأبرز جرائمهم .
ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة ؟ ولماذا يخادعون هذا الخداع
في طبيعتهم آفة . في قلوبهم علة . وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم . ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه :
فالمرض ينشىء المرض ، والانحراف يبدأ يسيرا ، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . سنة لا تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع ، وفي المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم . المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين :
استئناف محض لعَدِّ مساويهم ويجوز أن يكون بيانياً لجواب سؤال متعجب ناشىء عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } [ البقرة : 9 ] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوماً عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله : { في قلوبهم مرض } بياناً وهو أن في قلوبهم خللاً تزايد إلى أن بلغ حد الأفن . ولهذا قدم الظرف وهو { في قلوبهم } للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسؤول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب . وتنوين { مرض } للتعظيم . وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] .
والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجاً غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت ، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضاً يخرجها عن كمالها ، وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب ، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل :
فإن تسألوني بالنساءِ فإنني *** خبير بأدواء النساء طَبيب
فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها .
والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم .
ومعنى { فزادهم الله مرضاً } أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القُرَيْعي :
ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيتَه *** على السِّنِّ خيراً لا يزال يزيد
وكذلك القول في الشر ولذلك قيل : من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر ، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل :
فإنك سوف تحلم أو تَنَاهَى *** إذا ماشِبْتَ أو شاب الغراب
وإنما كان النفاق موجباً لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوىء الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب ، وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق منها في الآيات الواردة هنا أو في آيات أخرى في هذا الجدول{[84]} :
الأمراض النفسانية الناشئة عن النفاق وما يتولد منها وتزايدها
1- الكذب : ( بما كانوا يكذبون )- ( ومن الناس من يقول آمنا ) –( وما هو بمؤمنين )
1-1-1 . العجب ( أنؤمن كما آمن السفهاء )
1-1-2 الغرور ( إنما نحن مصلحون )
1-2- . الجهل ( ولكن لا يعلمون )
1-3- . السفه : ( ألا إنهم هم السفهاء )
- . فساد الرأي ( في قلوبهم مرض ) .
2 . الخوف : ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله )
2- 1 . اللؤم : ( ويقبضون أيديهم )
1-1-2 . خون الأمانة ( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما )
2-2 . العزلة : ( كما آمن الناس )
1-2-2 . جفاء الطبع : ( كما آمن السفها )
2- 3 . الجبن : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) ( ليولن الأدبار ثم لا ينصرون )
2- 4 -1 . دوام الضلال ( وما هم بمؤمنين )
2- 4 - 2 . ازدياد النقائص ( فزادهم الله مرضا )
3 . الخداع : ( يخادعون الله والذين آمنوا )
3- 1 . عداوة الناس : ( قالوا إنا معكم ) ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء )
- أن يصير هزأة للناس ( الله يستهزئ بهم )
3- 2 : النكاية : ( وما يخادعون إلا أنفسهم )
- أن يصير هزأة للناس ( الله يستهزئ بهم )
3-3 . الفساد : ( ألا إنهم هم المفسدون )
اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليماً وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي : الكذب القولي ، والكذب الفعلي وهو الخداع ، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقةِ بالنفس وبحسن السلوك ، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنَوات أخرى ، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيراً منه ، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول ، ولأن الكذب يعود فِكر صاحبه بالحقائق المحرَّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعاً ، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأَفَن في العقل ، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ .
وأما نشأةُ العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفهِ فظاهرة ، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف ، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأُ من شعورهم بخداعه ، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به ، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه ، فرمته الناس عن قَوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هُزأة للناس أجمعين .
وقد رأيتم أن الناشىء عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشىء أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه ، ولعل تنكير ( مرض ) في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويعٍ أو تكثيرٍ ، وتنكيرَ الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادةِ النكرةِ نكرةً .
وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلَق هذا التولُّد وأسبابه وكان أمراً خفياً نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة ، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكناً من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها ، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن .
فجملة : { فزادهم الله مرضاً } خبرية معطوفة على قوله : { في قلوبهم مرض } واقعة موقع الاستئناف للبيان ، داخلةٌ في دفع التعجب ، أي إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا يُنال لأن في قلوبهم مرضاً ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايداً مجعولاً من الله فلا طمع في زواله .
وقال بعض المفسرين : هي دعاءٌ عليهم كقول جبير بن الأضبط :
تَبَاعَد عني فَطْحَل إذْ دَعوتُه *** أَمِينَ فزادَ الله مَا بينَنا بُعدا
وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه ، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو : « اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون » .
وقوله : { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } معطوف على قوله : { فزادهم الله مرضاً } إكمالاً للفائدة فكمل بهذا العطف بيانُ ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة . وتقديم الجار والمجرور وهو { لهم } للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه .
والأليم فَعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مُفعَل وأصله عذاب مؤلَم بصيغة اسم المفعول أي مؤلَمٌ من يعذَّب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلَم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جَدّ جِدّه ، أو هو فعيل بمعنى فاعل من أَلِمَ بمعنى صار ذا ألَم ، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعِل أي مؤلِمْ بكسر اللام ، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحَكيم والسميع بمعنى المسمِع كقول عمرو بن معديكرب :
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بخيل *** تحيةُ بينهم ضرب وَجِيع
أي موجع ، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه .
وقوله : { بما كانوا يكذبون } الباء للسببية . وقرأ الجمهور ( يُكذِّبون ) بضم أوله وتشديد الذال . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخبارَه بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول ، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح ، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم : { آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] وعلى كذبهم العام في قولهم : { إنما نحن مصلحون } [ البقرة : 11 ] فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين .
والكذب ضد الصدق ، وسيأتي عند قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ) . و ( ما ) المجرورة بالباء مصدرية ، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون .