المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

275- الذين يتعاملون بالربا لا يكونون في سعيهم وتصرفهم وسائر أحوالهم إلا في اضطراب وخلل ، كالذي أفسد الشيطان عقله فصار يتعثر من الجنون الذي أصابه ، لأنهم يزعمون أن البيع مثل الربا في أن كلا منهما فيه معاوضة وكسب . فيجب أن يكون كلاهما حلالا ، وقد رد الله عليهم زعمهم فبين لهم أن التحليل والتحريم ليس من شأنهم ، وأن التماثل الذي زعموه ليس صادقاً ، والله قد أحل البيع وحرم الربا ، فمن جاءه أمر ربه بتحريم الربا واهتدى به ، فله ما أخذه من الربا قبل تحريمه ، وأمره موكول إلى عفو الله . ومن عاد إلى التعامل بالربا باستحلاله بعد تحريمه ، فأولئك يلازمون النار خالدين فيها{[28]} .


[28]:الربا المذكور في الآية هو ربا الجاهلية: وهو الزيادة في الديون في نظير الأجل. وهو حرام في قليله وكثيره. وقال الإمام أحمد: "لا يسع مسلما أن ينكره". ويقابله ربا البيوع وهو ثابت بالسنة في قوله عليه السلام: "البر بالبر مثلا بمثل يدل بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. وقد اتفق الفقهاء على تحريم الزيادة عند المبادلة مع اتحاد الجنس في هذه الأشياء، وأباحوا الزيادة إذا اختلف الجنس، ولكن حرموا التأجيل من هذه الأصناف. واختلفوا في قياس غيرها عليها اختلافا طويلا، وأقرب الآراء: أن يقاس عليها كل ما هو مطعوم قابل للادخار. وربا الجاهلية لا خلاف فيه فمنكره "كافر" وأن ربا الجاهلية يصيب أكله ومؤاكلة باضطرابات نفسية وعصبية نتيجة إرهاقه وتركيز ذهنه في المال الذي أقرضه أو أخذه. فالدائن في قلق بسبب انحصار ذهنه وفراغ نفسه من كل عمل، والمدين في هم وخوف من ألا يسدده. وتحريم الربا في القرآن كما هو في كل الديانات السماوية تنظيم اقتصادي ويتفق التحريم مع ما قرره الفلاسفة. ذلك لأن النقد لا يلد النقد، والاقتصاديون يقررون أن طرق الكسب أربعة: ثلاثة منها منتجة، والرابعة غير منتجة، فالثلاثة المنتجة: العمل ويتبعه الصناعة والزراعة والتجارة لأنها بنقل الأشياء من مكان إنتاجها إلى مكان استهلاكها تتعرض لمخاطر تزيد قيمتها بهذا الانتقال وذلك في ذاته إنتاج. أما الرابعة فهي الفائدة أو الربا، وهذه لا مخاطرة فيها لأن القرض لا يتعرض للخسارة بل له الكسب دائما. وإذا كان المسبب هو القرض فهو بتوسيط غيره من تعرض للخسارة والطبيعي إن كان ينتج بنفسه ويفرض ذلك فإن شيوع الكسب الفائدة يؤدي إلى تحكم رؤوس الأموال في العمل ويؤدي إلى فراغ وعطل فيكون الاضطراب والكسل.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم ، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي : يصرعه الشيطان بالجنون ، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين ، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال ، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله ، أو متجاهل عظيم عناده ، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين ، ويحتمل أن يكون قوله : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم ، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم ، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي : لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه ، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة ، والربا نوعان : ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة ، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال ، سلم ، وربا فضل ، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا ، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة ، والإجماع على ربا النسيئة ، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة ، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي : وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي : ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة ، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة ، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله ، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك ، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه ، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار ، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

ولقد نفر القرآن الناس من تعاطي الربا تنفيراً شديداً وحذرهم من سوء عاقبته تحذيراً مؤكداً فقال - تعالى - :

{ الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ . . . }

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( 279 ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 281 )

قوله - تعالى - : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . . } استئناف قصد به الترهيب من تعاطي الربا ، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها .

ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد ، لأن الصدقة - كما يقول الفخر الرازي - عبارة عن تنقيص المال - في الظاهر - بسبب أمرالله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين .

والأكل في الحقيقة : ابتلاع الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا . وعبر عن التعامل بالربا بالأكل ، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل .

والربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . . } أي : زادت .

وهو في الشرع : - كما قال الآلوسي - عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال .

وقوله : { يَتَخَبَّطُهُ } : من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق . يقال : خبطته أخبطه أي ضربته ضرباً متوالبياً على أنحاء مختلفة . ويقالِ : تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه يخبط خبط عشواء . قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :

رأيت المناي خبط عشواء من تصب . . . تمته ومن تخطى يعمر فيهرم

والمس : الخبل والجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون . وأصل المس اللمس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الإِنسان فيجنه .

والمعنى : { الذين يَأْكُلُونَ } أي يتعاملون به أخذا وإعطاء { لاَ يَقُومُونَ } يوم القيامة للقاء الله إلا قياماً كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك لأنه قياماً منكراً مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه .

فالآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة ، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا .

وهنا نحب أن نوضح أمرين :

أما الأمر الأول : فهو أن جمهو المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك .

قال الآلوسي : وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والذنوب التي لا تغفر . الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا فمن أكل الربا فبعثيوم القيامة مجنوناً يتخبط " ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله - تعالى - جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له .

. . ثم قال . وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات " .

والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا في قلق مستمر ، وانزعاج دائم ، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرهم في جمع المال ، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يفكرون في مصير أموالهم . . . ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم . أما في الآخرة فقد توعدهم الله - تعالى - بالعقاب الشديد ، والعذاب الأليم .

وقد رجح الإِمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابي في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه : " إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً . . . وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكا فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجاباً بينه وبين الله - تعالى - ، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدينا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره " .

وأما الأمر الثاني : فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضاً أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة ، بمعنى أن الآية تشبه حال بحال المجنون الذي مسه الشيطان ، لأن الشسيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون .

ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك ، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك ، فقد قال الزمخشري في تفسيره : " وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإِنسان فيصرع . المس والجنون ، ورجل ممسوس - أي مجنون - وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجني يممسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات " .

ومن العلماء الذين تصدون للرد على الزمخشري ومن تابعه الإِمام القرطبي فقد قال : " وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من إنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإِنسان ولا يكون منه مس . وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً " .

وقال الشيخ أحمد بن المنير : ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب ، أي من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها ، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك . وهذا القول من تخبط - الشيسطان بالقدرية - أي المعتزلة - في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع ، ثم قال : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها ، والقدرية ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . . من ذلك السحر ، وخبطة الشيطان ، وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم ، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق ، لأن الشيطان قد يمس الإِنسان فيصيبه بالجنون ، ولأنه لا يسوغ لنا أن نؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه .

وقوله : { مِنَ المس } متعلق بيقومون أي لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما المصروع من جنونه .

وقوله - تعالى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا ، ورد عليه بما يهدمه .

واسم الإِشارة " ذلك " سيعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم . والمعنى : ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا ، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط ، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " هلا قيل إنما الربا لا في البيع ، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا : لو اشتري الرجل الشيء الذي لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين ؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة . وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانوناً في الحل حتى شهبوا به البيع " .

وقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } جملة مستأنفة ، وهي رد من الله - تعالى - عليهم ، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع .

قال الآلوسي : وحاصل هذا الرد من الله - تعالى - عليهم : أن ما ذكرتم - " من أن الربا مثل البيع - قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان ، على أن بين البابين فرقاً ، وهو أن من باع ثوباً يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب . وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض ، ولا يمكن جعل الإِمهال عوضا إذا الإِمهال ليس بمال في مقابلة المال " .

وقوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } .

تفريع على الوعيد السابق في قوله : { الذين يَأْكُلُونَ الربا . . . } إلخ .

والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، والموعظة : ما يعظ الله - تعالى - به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره .

أي : فمن بلغه نهي الله - تعالى - عن الربا ، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه ، { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم يقبضه . . لأن الله - تعالى - يقول بعد ذلك { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ . . } .

وقوله : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي أمر هذا المرابي الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده ، أمره مفوض إلى الله - تعالى - فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه .

قال ابن كثير : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } . . إلخ أي ما بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي خاتين وأول ربا أضع ربا عمي العباس " ، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال - تعالى - : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي ففله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم .

و " من " في قوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ } شرطية وهو الظاهر ، ويحتمل أن تكون موصولة وعلى التقديريرن فهي في محل رفع بالابتداء ، وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الجزاء أو الخبر ، و ( موعظة ) فاعل جاء ، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر .

وقوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } جار ومجرور متعلق بجاءه ، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة .

وفي قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } تفخيم لشأن الموعظة ، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله - تعالى - المربى لعباده .

وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده ، لأنه - سبحانه - لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهي ، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل ، إذ الإِسلام يجب ما قبله . فما أكله المرابي قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له ، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم ، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا .

ولقد توعد الله - تعالى - من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله - تعالى - فقال { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

أي ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن هى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها ، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه .

وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها : التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله ، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير ، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة ، وبكلمة { خَالِدُونَ } التي تدل على طول المكث

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

275

( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا . فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله . ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يمحق الله الربا ويربي الصدقات . والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .

إنها الحملة المفزعة ، والتصوير المرعب :

( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . .

وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة . . صورة الممسوسالمصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس . فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس ، لاستجاشة مشاعر المرابين ، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة ، هو القيام يوم البعث . ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا . ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي . وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية ؛ وتصورات أهل الجاهلية عنها . .

إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان : ربا النسيئة . وربا الفضل .

فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة : " إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حل الأجل ، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه " .

وقال مجاهد " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه " .

وقال أبو بكر الجصاص : " إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة . فكانت الزيادة بدلا من الأجل . فأبطله الله تعالى " . .

وقال الإمام الرازي في تفسيره : " إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية . لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل ، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ، ورأس المال باق بحاله . فإذا حل طالبه برأس ماله . فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل " .

وقد ورد في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي [ ص ] قال : " لا ربا إلا في النسيئة " . .

أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة . كبيع الذهب بالذهب . والدراهم بالدراهم . والقمح بالقمح . والشعير بالشعير . . وهكذا . . وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ؛ ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا . . وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة !

عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله [ ص ] " الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح . . مثلا بمثل . . يدا بيد . . فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء " . .

وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال : جاء بلال إلى النبي [ ص ] بتمر برني فقال له النبي [ ص ] " من أين هذا ؟ " قال : كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع . فقال : " أوه ! عين الربا . عين الربا . لا تفعل . ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ، ثم اشتر به " .

فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان ، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية . وهي : الزيادة على أصل المال . والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة . وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد . أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا . .

وأما النوع الثاني ، فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة . وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد . . ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية ، إذ يلد التمر التمر ! فقد وصفه [ ص ] بالربا . ونهى عنه . وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد . ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا . إبعادا لشبح الربا من العملية تماما !

وكذلك شرط القبض : " يدا بيد " . . كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل ، ولو من غير زيادة ، فيه شبح من الربا ، وعنصر من عناصره !

إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول [ ص ] بشبح الربا في أية عملية . وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية .

فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة ، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية . وأن يحلوا - دينيا - وباسم الإسلام ! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية !

ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية . . فالإسلام ليس نظام شكليات . إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل . فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة . إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ؛ ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته . وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا !

ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام . سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة . ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية ، أو تتسم بسمة العقلية الربوية . . وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة . وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث . شعور الحصول على الربح بأية وسيلة !

فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا . ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي .

( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . .

والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم - وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب - إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم .

عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال : لعن رسول الله [ ص ] آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه ، وقال : " هم سواء " . .

وكان هذا في العمليات الربوية الفردية . فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون . معرضون لحرب الله . مطرودون من رحمته بلا جدال .

إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة . . وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية ، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا . .

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف ؛ والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه ، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . . وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية ، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار . . ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة ، وحرب الأعصاب ، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك !

إنها الشقوة البائسة المنكودة ، التي لا تزيلها الحضارة المادية ، ولا الرخاء المادي ، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ؟

إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى ! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . . في أمريكا ، وفي السويد ، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . . إن الناس ليسوا سعداء . . أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي " التقاليع " الغريبة الشاذة تارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب . الهرب من أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها ! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا ! لماذا ؟

السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . . من الإيمان . . من الاطمئنان إلى الله . . وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله ، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .

ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير . . بلاء الربا . . بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها . إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين ، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف ، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ؛ ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بهاالجميع ؛ والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع ؛ والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع . . ولكن هدفه هو انتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين ، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا !

وصدق الله العظيم : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . . وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم !

ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله [ ص ] على تحريم الربا . اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية :

( ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا ) . .

وكانت الشبهة التي ركنوا إليها ، هي أن البيع يحقق فائدة وربحا ، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا . . وهي شبهة واهية . فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة . والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة . أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة . وهذا هو الفارق الرئيسي . وهذا هو مناط التحريم والتحليل . .

إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده . . ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة !

( وأحل الله البيع وحرم الربا ) . . .

لانتفاء هذا العنصر من البيع ؛ ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية ؛ وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية . .

وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية ؛ دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية :

( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ) . .

لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه . فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله ، يحكم فيه بما يراه . . وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته ؛ فيظل يتوجس من الأمر ؛ حتى يقول لنفسه : كفاني هذا الرصيد من العمل السيىء ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت . فلا أضف إليه جديدا بعد ! . . وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد .

( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .

وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه ، ويعمقه في القلوب ؛

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )

وقوله عز وجل : { الذين يأكلون الربا } الآية ، { الربا } هوالزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان ، وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه( {[2705]} ) ، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة ، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه( {[2706]} ) ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها : آكل ربا فبتجوز وتشبيه ، والربا من ذوات الواو ، وتثنيته ربوان عند سيبويه ، ويكتب الألف . قال الكوفيون : يكتب( {[2707]} ) ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله . وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم ، نحو ضحى ، فإن كان مفتوحاً نحو صفا فكما قال البصري .

ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : { الذي يأكلون }( {[2708]} ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : { لا يقومون } من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفه ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » .

قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [ الطويل ]

وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما . . . أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق( {[2709]} )

لكن ما جاءت( {[2710]} ) به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل { ويتخبطه } «يتفعله » من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله . و { المس } الجنون ، وكذلك الأولق والألس والزؤْد( {[2711]} ) ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه عند جميع المتأولين في الكفار( {[2712]} ) ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها .

والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل { فله ما سلف } ولا يقال ذلك لمؤمن عاص( {[2713]} ) ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية ، ثم جزم تعالى الخبر في قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا }( {[2714]} ) وقال بعض العلماء في قوله : { وأحل الله البيع } هذا من عموم القرآن ، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه ، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع ، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه ، وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم ، والقول الأول عندي أصح( {[2715]} ) ، قال جعفر بن محمد الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس . وقال بعض العلماء : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله : { فمن جاءه } لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ ، وقرأ الحسن «فمن جاءته » بإثبات العلامة ، وقوله : { فله ما سلف } أي من الربا لا تباعة( {[2716]} ) عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره ، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك ، و { سلف } معناه تقدم في الزمن وانقضى .

وفي قوله تعالى : { وأمره إلى الله } أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى : وأمر الربا إلى الله في إمرار( {[2717]} ) تحريمه أو غير ذلك . الثاني أن يكون الضمير عائداً على { ما سلف } . أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه . والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير . كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء . وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته ، ويجيء الأمر هاهنا( {[2718]} ) ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره ، وقوله تعالى : { ومن عاد } يعني إلى فعل الربا والقول { إنما البيع مثل الربا } وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة . كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما ، لا على التأبيد الحقيقي .


[2705]:- أي يزيد المطلوب في المال ويزيد الطالب في الأجل.
[2706]:- قال الإمام الشاطبي رحمه الله في "الموافقات": «وإذا كان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض فقد ألحقت به السنة كل ما فيه زيادة بذلك المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)، ثم زاد على ذلك بيع النِّساء إذا اختلفت الأصناف، وعدَّه من الربا لأن النَّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة، ويدخل فيه بحكم المعنى: السلف يجر نفعاً، وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها، فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء وهو ممنوع، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة، إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة، ويبقى النظر: لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما ؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها اليوم، فلذلك بينتها السنة، إذ لو كانت بيِّنة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد، فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس»، فتأمل.
[2707]:- يعجبني ما قاله الشوكاني في "فتح القدير" في مثل هذه النقوش الكتابية من أنها أمور اصطلاحية لا يعيب أحد على أحد فيها، وأن رسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأول، فما كان في النطق ألفا كالصلاة والزكاة كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً أو باءً لا يخفى على من له معرفة بعلم الصرف فإن هذه النقوش هي لفهم اللفظ الذي يُدلُّ بها عليه كيف هو في نطق من نطق به، لا لفهم أن أصل الكلمة هو كذا مما لا يجري به النطق.
[2708]:- يعني أن القصد من الآية الكريمة هو جميع وجوه الانتفاع ولكنه وقع التعبير بالأكل لأنه أقوى وجوه الانتفاع، ولأنه أدل على معنى الحرص والجشع.
[2709]:- الغبُّ من كل شيء: عاقبته – والسُّرى: سير عامة الليل (يذكر ويؤنث) – ألَمَّ: نزل – والأولق: شبه الجنون، وهو أفعل لأنهم قالوا: ألِق الرجل فهو مَألُوق – على مفعول. قاله في اللسان: وقال أيضا: ومنه قول الشاعر: لعَمْرُك بي من حُبِّ أسماء أولَق. وفي اللسان أيضا: الأولق كالأفكل: الجنون – وقيل: الخفة من النشاط كالجنون – وأصله من الولق الذي هو السرعة.
[2710]:- حاصله أن الآية الكريمة تحتمل أن يكون القيام المشبه بقيام المجنون في الدنيا، كما شبه الأعشى نشاط ناقته بالجنون، ويحتمل أن يكون هذا القيام في الآخرة، وهذا الثاني هو المروي عن السلف الصالح، وهو الذي جاءت به قراءة عبد الله بن مسعود، فيكون الاحتمال الأول ضعيفا، وإن كانت ألفاظ الآية تقبله. ويؤخذ من الآية الكريمة أن صرع الجن بالإنس حقيقة واقعة لا يرتاب فيه إلا من تخبطه الشيطان، وقد ورد أن الشيطان يجري مجرى الدم من الإنسان.
[2711]:- هذه الألفاظ كلها تؤدي معنى الجنون، وهي: (المسُّ): يقال: مسَّه الشيطان، فهو مَمْسوس، وبه مسٌّ – أنشد ابن الأنباري: أُعَلِّل نفسي بما لا يكـونُ كذي المَسِّ جُنَّ ولم يخنق و(الألس) – يقال: أُلِسَ ألْساً فهو مألوس. أي: جُنَّ – (الأولق) – يقال: أُلِق فلان ألْقاً وأُلاقاً: جُنَّ. و(الأولع)، جاء في اللسان: وقال عرَّام: يقال بفلان من حُبِّ فلانة الأولع والأولق، وهو: شبه الجنون.
[2712]:- أي في ربا الجاهلية الذين قالوا فيه: [إنما البيع مثل الربا] وهو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: [وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون] ودل عليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله).
[2713]:- بل يفسخ عقده، ويرد عمله. وإن كان جاهلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ).
[2714]:- أي أخبر خبراً جازما للرد عليهم، وفي الآية ما يدل على أن القياس مع وجود النص فاسد، إن قلنا: إن في الآية قياس، واعلم أن حكم المستحِلِّ للربا حكم المرتد، وأما إن مارسه دون استحلال فإنه يجوز للإمام محاربته، لأن الله سبحانه قد أذن في ذلك بقوله: [فأذنوا بحرب من الله ورسوله].
[2715]:- وهو أنه من العامِّ المخصص، لا من المجمل المُبَيَّن، والفرق بينهما أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل، والمجمل لا يدل على إباحتها بالتفصيل حتى يقترن به بيان، وإن دل على الإباحة في الجملة.
[2716]:- تباعة الأمر: عاقبته، وما يترتب عليه من أثر، يقال: لي قِبَلَ فلان تِباعة: ظلامة.
[2717]:- أي في استمرار تحريمه على عباده.
[2718]:- أي في التأويل الرابع.