وخوفهم بيوم القيامة الذي { لَا تَجْزِي } فيه ، أي : لا تغني { نَفْسٌ } ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين { عَنْ نَفْسٍ } ولو كانت من العشيرة الأقربين { شَيْئًا } لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه .
{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا } أي : النفس ، شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له ، ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه ، وكان على السبيل والسنة ، { وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي : فداء { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب } ولا يقبل منهم ذلك { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : يدفع عنهم المكروه ، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه ، فقوله : { لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } هذا في تحصيل المنافع ، { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } هذا في دفع المضار ، فهذا النفي للأمر المستقل{[89]} به النافع .
{ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض ، كالعدل ، أو بغيره ، كالشفاعة ، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين ، لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع ، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ، ويدفع المضار ، فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته .
{ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ . . . }
بعد أن ذكرهم - سبحانه - في الآية السابعة بنعمة عظمى من نعمه حذرهم في هذه الآية الكريمة من التقصير في العمل الصالح ، وذلك لأن وصفهم بالتفضيل على عالمي زمانهم قد يحملهم على الغرور ، ويجعلهم يتوهمون أنهم مغفور لهم لو أذنبوا . فجاءت هذه الآية الكريمة لتقتلع من أذهانهم تلك الأوهام بأحكم عبارة وأجمع بيان .
والمراد باتقاء اليوم ، وهو يوم القيامة ، الحذر مما يحدث فيه من أهوال وعذاب ، والحذر منه يكون بالتزام حدود الله - تعالى - وعدم تعديها ، فهو من إطلاق الزمان على ما يقع فيه كما تقول " مكان مخيف " وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفس . أي : لا تقضى فيه نفس كائنة من كانت عن نفس أخرى شيئاً من الحقوق .
ووصف اليوم بهذا الوصف ، ولم يقل " يوم القيامة " مثلا ، للإِشعار بأن التصرف في ذلك اليوم لله وحده ، فليس فيه ما اعتاد الناس في هذه الدنيا من دفاع بعضهم عن بعض .
والمعنى : احذروا - يا بني إسرائيل - يوماً عظيماً أمامكم ، سيحصل فيه من الحساب والجزاء مالا منجاة من هوله إلا بتقوى الله في جميع الأحوال والإِخلاص له في كل الأعمال ، فهو يوم لا تقضى فيه نفس مهما كان قدرها عظيما عن نفس شيئاً ما ، مهما يكن ذنباً صغيراً .
ثم وصف القرآن الكريم ذلك اليوم بوصف آخر يناسب المقام . فقال تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } الضمير في ( منها ) يعود إلى النفس المحاسبة في ذلك اليوم . والشفاعة : من الشفع ضد الوتر ، وهي انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ، أي لا يقبل منها أن تأتي يشفيع ليحصل لها نفعاً ، أو يدفع عنها ضرراً .
والآية الكريمة قد نفت قبول الشفاعة من أحد نفياً مطلقاً ، ولكن هنالك آيات كريمة تنفى قبول الشفاعة إلا ممن أذن له الرحمن في ذلك ، من هذه الآيات قوله تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } وللجمع بين هذه الآيات ، تحمل الآيات التي تنفى الشفاعة نفياً مطلقاً على أنها واردة في شأن النفوس الكافرة ، وتحمل الآيات التي تبيح الشفاعة على أنها واردة في شأن المؤمنين إذا أذن الله فيها للشافعين ، وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي في أن النبي صلى الله عليه وسلم ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن أقوام المؤمنين ، وتخفيفه عن أهل الكبائر من المسلمين ، من ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وجعلت أمتي خير الأمم ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
قال الإِمام ابن جرير : ( وهذه الآية وإن كان مخرجها عاماً في التلاوة فإن المراد بها خاص في التأويل ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنه قال : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، وأنه قال : ليس من نبي إلا وقد أعطى دعوة ، وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئاً . فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم ، وأن قوله { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله - عز وجل - " اه .
ثم وصف اليوم بوصف ثالث فقال تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } .
العدل : العوض والفداء . سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدي بمثله في القيمة أو العين .
ويسويه به . يقال : عدل كذا بكذا : أي سواه به .
والمعنى : لا يؤخذ منها فداء أو بدل في ذلك اليوم إن هي استطاعت إحضاره على سبيل الفرض والتقدير .
ثم وصفه بوصف رابع فقال تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } والنصر هو الإِعانة في الحرب وغيره بقوة الناصر ، وقدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق . فضلا عما استفيد من نفي العفل وإسناده للمجهول وجاء الضمير في قوله تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } جمعاً مع أنه عائد على النفس وهو قوله تعالى : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ } ؛ لأن النكرة إذا وقعت في سياق النفي تناولت كل فرد من أفرادها ، وبهذا صارت في معنى الجمع ، وصح أن يعود عليها ضمير الجمع وهو ( هم ) .
والمعنى : أنهم لا يجدون من يعينهم ويمنعهم من عذاب الله يوم القيامة .
ولما كان اليهود يعتقدون أنهم شعب مميز ، وأن نسبتهم إلى الأنبياء ستجعلهم في مأمن من العقاب رغم عصيانهم وفسوقهم ، وأن آباءهم سيشفعون لهم . . . لما كانوا كذلك جاءت هذه الآية الكريمة لتبطل ما اعتقدوه ، وتقطع ما أمَّلوه ، ولتنقض كل ما يحتمل أن يكون وسيلة للنجاة يوم القيامة سوى الإِيمان والعمل الصالح .
فقد نفت الآية الكريمة وجود من ينوب عنهم بقولها { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } .
ونفت انتفاعهم بشفاعة الشافعين يوم الحساب بقولها { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } .
ونفت قبول البدل أو الفداء عما ارتكبوه من خطايا بقولها { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } .
ونفت وجود من ينتصر لهم أو يدافع عنهم بقولها { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } .
وهكذا سدت عليهم الآية الكريمة كل منفذ يتوهمون نجاتهم من عذاب الله بسببه ، ما داموا مصرين على كفرهم وجحودهم .
ومع الإطماع في الفضل والنعمة ، التحذير من اليوم الذي يأتي وصفه :
( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) . .
فالتبعة فردية ، والحساب شخصي ، وكل نفس مسؤولة عن نفسها ، ولا تغني نفس عن نفس شيئا . . وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم . مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان ، وعلى العدل المطلق من الله . وهو أقوم المباديء التي تشعر الإنسان بكرامته ، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره . وكلاهما عامل من عوامل التربية ، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام .
( ولا يقبل منها شفاعة . ولا يؤخذ منها عدل ) .
فلا شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيمانا وعملا صالحا ؛ ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره ومعصيته .
فما من ناصر يعصمهم من الله ، وينجيهم من عذابه . . وقد عبر هنا بالجمع باعتبار مجموع النفوس التي لا تجزي نفس منها عن نفس ، ولا يقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، وانصرف عن الخطاب في أول الآية إلى صيغة الغيبة في آخرها للتعميم . فهذا مبدأ كلي ينال المخاطبين وغير المخاطبين من الناس أجمعين .
لما ذكرهم [ الله ]{[1708]} تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول نقمه بهم يوم القيامة فقال : { وَاتَّقُوا يَوْمًا } يعني : يوم القيامة { لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } أي : لا يغني أحد عن أحد كما قال : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] ، وقال : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] ، وقال { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [ لقمان : 33 ] ، فهذه{[1709]} أبلغ المقامات : أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا ، وقوله تعالى : { وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } يعني عن الكافرين ، كما قال : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، وكما قال عن أهل النار : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 110 ، 111 ] ، وقوله : { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي : لا يقبل منها فداء ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } [ آل عمران : 91 ] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] وقال تعالى : { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } [ الأنعام : 70 ] ، وقال : { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية [ الحديد : 15 ] ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه ، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ، ولا يقبل منهم فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا ، كما قال تعالى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 254 ] ، وقال { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [ إبراهيم : 31 ] .
[ وقال سنيد : حدثني حجاج ، حدثني ابن جريج ، قال : قال مجاهد : قال ابن عباس : { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } قال : بدل ، والبدل : الفدية ، وقال السدي : أما عدل فيعدلها من العذاب يقول : لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ] {[1710]} . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } يعني : فداء .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي مالك ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن علي ، رضي الله عنه ، في حديث طويل ، قال : والصرف والعدل : التطوع والفريضة .
وكذا قال الوليد بن مسلم ، عن عثمان بن أبي العاتكة{[1711]} ، عن عمير بن هانئ .
وهذا القول غريب هنا ، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية ، وقد ورد حديث يقويه ، وهو ما قال ابن جرير : حدثني نَجِيح بن إبراهيم ، حدثنا علي بن حكيم ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عَمْرو بن قيس الملائي{[1712]} ، عن رجل من بني أمية - من أهل الشام أحسن عليه الثناء - قال : قيل : يا رسول الله ، ما العدل ؟ قال : " العدل الفدية " {[1713]} .
وقوله تعالى : { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء . هذا كله من جانب التلطف ، ولا لهم ناصر من أنفسهم ، ولا من غيرهم ، كما قال : { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] أي : إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يجيره منه أحد ، كما قال تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] . وقال { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25 26 ] ، وقال { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 25 ، 26 ] ، وقال { فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } الآية [ الأحقاف : 28 ] .
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ } ما لكم اليوم لا تمانعون منا ؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم .
قال{[1714]} ابن جرير : وتأويل قوله : { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } يعني : أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر ، كما لا يشفع لهم شافع ، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بَطَلت هنالك{[1715]} المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات ، وارتفع من القوم التعاون والتناصر ، وصار الحكم إلى عدل{[1716]} الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة{[1717]} أضعافها وذلك نظير قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 24 - 26 ] .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 48 )
وقوله عز وجل : { واتقوا يوماً } نصب يوماً ب { اتقوا } على السعة ، والتقدير عذاب يوم ، أو هول يوم ، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه ، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى ، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل ، ولكن معناه : جيئوا متقين يوماً . و { لا تجزي } معناه : لا تغني .
وقال السدي : معناه لا تقضي ، ويقويه قوله { شيئاً }( {[572]} ) وقيل المعنى : لا تكافىء ، ويقال : جزى وأجزأ بمعنى واحد( {[573]} ) ، وقد فرق بينهما قوم ، فقالوا : جزى بمعنى : قضى وكافأ ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى .
وقرأ أبو السمال «تُجزىءُ » بضم التاء والهمز ، وفي الكلام حذف( {[574]} ) .
وقال البصريون : التقدير لا تجزي فيه ، ثم حذف فيه .
وقال غيرهم : حذف ضمير متصل ب { تجزي } تقديره لا تجزيه ، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر ، وإنما يحسن في الصلة .
وقال بعض البصريين : التقدير لا تجزي فيه ، فحذف حرف الجر واتصل الضمير ، ثم حذف الضمير بتدريج .
وقوله تعالى : { ولا تقبل منها شفاعة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالتاء ، وقرأ الباقون : بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيت الشفاعة ليس بحقيقي ، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع ، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم .
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة ، و { لا تجزي نفس عن نفس } ، وهذا إنما هو في الكافرين ، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين( {[575]} ) .
وقوله تعالى : { ولا يؤخذ منها عدل } ، قال أبو العالية : «العدل الفدية » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدراً وإن لم يكن من جنسه ، «والعِدل » بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه .
وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية ، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير ، والضمير في قوله { ولا هم } عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية ، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما ، لأن اثنين جمع( {[576]} ) ، أو لأن النفس للجنس وهو جمع ، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا ، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى .
عَطَفَ التحذير على التذكير ، فإنه لما ذكرهم بالنعمة وخاصة تفضيلهم على العالمين في زمانهم وكان ذلك منشأ غرورهم بأنه تفضيل ذاتي فتوهموا أن التقصير في العمل الصالح لا يضرهم فعقب بالتحذير من ذلك .
والمراد بالتقوى هنا معناها المتعارف في اللغة لا المعنى الشرعي . وانتصاب { يوماً } على المفعولية به وليس على الظرفية ولذلك لم يقرأ بغير التنوين .
والمراد باتقائه اتقاؤه من حيث ما يحدث فيه من الأهوال والعذاب فهو من إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه كما تقول مكان مخوف .
و { تجزي } مضارع جزى بمعنى قضى حقاً عن غيره ، وهو متعد بعن إلى أحد مفعوليه فيكون { شيئاً } مفعوله الأول ، ويجوز أيضاً أن يكون مفعولاً مطلقاً إذا أريد شيئاً من الجزاء ويكون المفعول محذوفاً .
وجملة : { لا تجزي نفس } صفة لـ{ يوماً } وكان حق الجملة إذا كانت خبراً أو صفة أو حالاً أو صلة أن تشتمل على ضمير ما أجريت عليه ، ويكثر حذفه إذا كان منصوباً أو ضميراً مجروراً فيحذف مع جاره ولا سيما إذا كان الجار معلوماً لكون متعلقه الذي في الجملة لا يتعدى إلا بجار معين كما هنا تقديره فيه وإنما جاز حذفه لأن المحذوف فيه متعين من الكلام وقد يحذف لقرينة كما في حذف ضمير الموصول إذا جر بما جر به الموصول . ونظير هذا الحذف قول العريان الجرمي من جرم طيء :
فقلت لها لاَ والذي حجَّ حاتم *** أُخونُكِ عهداً إنني غير خوّان
وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس أي لا يغني أحد كائناً من كان فلا تغني عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غَناء أولئك عنهم ، فالمقصود نفي غنائهم عنهم بأن يحولوا بينهم وبين عقاب الله تعالى ، أي نفي أن يجزوا عنهم جزاء يمنع الله عن نوالهم بسوء رعياً لأوليائهم ، فالمراد هنا الغناء بحرمة الشخص وتوقع غضبه وهو غناء كفء العدو الذي يخافه العدو على ما هو معروف عند الأمم يومئذ من اتقائهم بطش مولى أعدائهم وإحجامهم عما يوجب غضبه تقية من مكره أو ضره أو حرمان نفعه قال السموأل :
وما ضرنا أنا قليل وجارنا *** عزيز وجار الأكثرين ذليل
لو كنتُ من مازن لم تَستبِحْ إبلي *** بنُو الشقيقة من ذُهل بن شيبان
وبهذا يتبين أن مفاد قوله : { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } مغاير لمفاد ما ذكر بعده بقوله : { ولا يقبل منها شفاعة } إلخ فقوله : { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } ، هو بمعنى قوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } [ الانفطار : 19 ] .
وقوله : { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } الضميران عائدان للنفس الثانية المجرورة بعن أي لا يقبل من نفس شفاعة تأتي بها ولا عدل تعتاض به لأن المقصود الأصلي إبطال عقيدة تنصل المجرم من عقاب الله ما لم يشأ الله ؛ ليكون الضمير في قوله : { ولا هم ينصرون } راجعاً إلى مرجع الضميرين قبله .
وهذا التأييس يستتبع تحقير من توهمهم الكفرة شفعاء وإبطال ما زعموه مغنياً عنهم من غضب الله من قرابين قربوها ومجادلات أعدوها وقالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] . { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } [ النحل : 111 ] .
ومن المفسرين من فسر قوله : { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } بما يعم الإجزاء فجعل ما هو مذكور بعده من عطف الخاص على العام ولذلك قال الشيخ ابن عطية : « حصرت هذه الآية المعاني التي اعتاد بها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في شدة لا يتخلص إلا بأن يُشفع له أو يفتدى أو ينصر » اهـ وألغى جمعها لحالة أن يتجنب الناس إيقاعه في شدة اتقاء لمواليه ، وما فسرنا به أرشق . وقد جمع كلام شيوخ بني أسد مع امرىء القيس حين كلموه في دم أبيه حجر فقالوا : فأَحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث : أما إن اخترت من بني أسد أشرفها بيتاً فقدناه إليك بنسعه تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته ، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف ، وإما وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتُسْدل الأزر وتُعقد الخمر فوق الرايات » اهـ .
وقرأ الجمهور { ولا يقبل } بياء تحتية ياء المضارع المسند إلى مذكر لمناسبة قوله بعده : { ولا يؤخذ منها عدل } ، ويجوز في كل مؤنث اللفظ غير حقيقي التأنيث أن يعامل معاملة المذكر لأن صيغة التذكير هي الأصل في الكلام فلا تحتاج إلى سبب ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بمثناة فوقية رعياً لتأنيث لفظ { شفاعة } .
والشفاعة : السعي والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها أم كانت بمجرد سعي المتوسط ويقال لطالب الشفاعة مستشفع . وهي مشتقة من الشفع لأن الطالب أو التائب يأتي وحده فإذا لم يجد قبولاً ذهب فأتى بمن يتوسل به فصار ذلك الثاني شافعاً للأول أي مصيّره شفعاً .
والعدل بفتح العين العوض والفداء ، سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدى بمثله في القيمة أو العين ويسويه به ، يقال عدل كذا بكذا أي سواه به .
والنصر هو إعانة الخصم في الحرب وغيره بقوة الناصر وغلبته . وإنما قدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق زيادة على ما استفيد من نفي الفعل مع إسناده للمجهول كما أشرنا إليه آنفاً .
وقد كانت اليهود تتوهم أو تعتقد أن نسبتهم إلى الأنبياء وكرامة أجدادهم عند الله تعالى مما يجعلهم في أمن من عقابه على العصيان والتمرد كما هو شأن الأمم في إبان جهالتها وانحطاطها وقد أشار لذلك قوله تعالى :
{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم } [ المائدة : 18 ] .
وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية للاحتجاج لقولهم بنفي الشفاعة في أهل الكبائر يوم القيامة لعموم { نفس } في سياق النفي المقتضي أن كل نفس لا يقبل منها شفاعة وهو عموم لم يرد ما يخصصه عندهم . والمسألة فيها خلاف بين المعتزلة وأصحاب الأشعري .
واتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة يوم القيامة للطائعين والتائبين لرفع الدرجات ، لم يختلف في ذلك الأشاعرة والمعتزلة فهذا اتفاق على تخصيص العموم ابتداء ، والخلاف في الشفاعة لأهل الكبائر فعندنا تقع الشفاعة لهم في حط السيئات وقت الحساب أو بعد دخول جهنم لما اشتهر من الأحاديث الصحيحة في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " لكل نبيء دعوة مستجابة وقد ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي " وغير ذلك . قال القاضي أبو بكر الباقلاني : إن الأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر المعنوي كما أشار إليه القرطبي في نقل كلامه .
وعند المعتزلة لا شفاعة لأهل الكبائر لوجوه منها الآيات الدالة على عدم نفع الشفاعة كهاته الآية ، وقوله : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [ المدثر : 48 ] . { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } [ البقرة : 253 ] { ما للظامين من حميم ولا شفيع } [ غافر : 18 ] قالوا والمعصية ظلم . ومنها قوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] وصاحب الكبيرة ليس بمرتضى ، ومنها قوله : { فاغفر للذين تابوا } [ غافر : 7 ] .
والجواب عن الجميع أن محل ذلك كله في الكافرين جمعاً بين الأدلة وأن قوله : { لمن ارتضى } يدل على أن هنالك إذناً في الشفاعة كما قال : { إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وإلا لكان الإسلام مع ارتكاب بعض المعاصي مساوياً للكفر وهذا لا ترضى به حكمة الله وأما قوله : { فاغفر للذين تابوا } فدعاء لا شفاعة .
والظاهر أن الذي دعا المعتزلة إلى إنكار الشفاعة منافاتها لخلود صاحب الكبيرة في العذاب الذي هو مذهب جمهورهم الذين فسروا قول واصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين بمعنى إعطاء العاصي حكم المسلم في الدنيا وحكم الكافر في الآخرة ولا شك أن الشفاعة تنافي هذا الأصل ، فما تمسكوا من الآيات إنماهو لقصد التأبيد ومقابلة أدلة أهل السنة أمثالها . ولم نر جوابهم عن حديث الشفاعة ، وأحسب أنهم يجيبون عنه بأن أخبار الآحاد لا تنقض أصول الدين ولذلك احتاج القاضي أبو بكر إلى الاستدلال بالتواتر المعنوي .
والحق أن المسألة أعلق بالفروع منها بالأصول لأنها لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته ولو جاريناهم في القول بوجوب إثابة المطيع وتعذيب العاصي ، فإن الحكمة تظهر بدون الخلود وبحصول الشفاعة بعد المكث في العذاب ، فلما لم نجد في إثبات الشفاعة ما ينقض أصولهم فنحن نقول لهم : لم يبق إلا أن هذا حكم شرعي في تقدير تعذيب صاحب الكبيرة غير التائب وهو يتلقى من قبل الشارع وعليه فيكون تحديد العذاب بمدة معينة أو إلى حصول عفو الله أو مع الشفاعة ، ولعل الشفاعة تحصل عند إرادة الله تعالى إنهاء مدة التعذيب .
وبعد فمن حق الحكمة أن لا يستوي الكافرون والعصاة في مدة العذاب ولا في مقداره ، فهذه قولة ضعيفة من أقوالهم حتى على مراعاة أصولهم ، وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع الأمة قبل حدوث البدع على ثبوت الشفاعة في الآخرة ، وهو حق فقد قال سواد بن قارب يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكُن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة *** بمغنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب
وأما الشفاعة الكبرى العامة لجميع أهل موقف الحساب الوارد فيها الحديث الصحيح المشهور فإن أصول المعتزلة لا تأباها .
وقوله : { ولا يؤخذ منها عدل } والعدل بفتح العين يطلق على الشيء المساوي شيئاً والمماثل له ولذلك جعل ما يفتدي به عن شيء عدلاً وهو المراد هنا كما في قوله تعالى : { أو عدل ذلك صياماً } [ المائدة : 95 ] فالمعنى : ولا يقبل منها ما تفتدي به عوضاً عن جرمها .
والنصر هو إعانة العدو على عدوه ومحاربه إما بالدفاع معه أو الهجوم معه فهو في العرف مراد منه الدفاع بالقوة الذاتية وأما إطلاقه على الدفاع بالحجة نحو { من أنصاري إلى الله } [ آل عمران : 52 ] وعلى التشيع والاتباع نحو { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] فهو استعارة .