102- ولقد صدَّقوا ما تَتَقَوَّله شياطينهم وفجرتهم على ملك سليمان ، إذ زعموا أن سليمان لم يكن نبياً ولا رسولاً ينزل عليه الوحي من الله ، بل كان مجرد ساحر يستمد العون من سحره ، وأن سحره هذا هو الذي وطَّد له الملك وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح ، فنسبوا بذلك الكفرَ لسليمان ، وما كفر سليمان ، ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا ، إذ تقوَّلوا عليه هذه الأقاويل ، وأخذوا يعلِّمون الناس السحر من عندهم ومن آثار ما أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت ، مع أن هذين الملكين ما كانا يعلِّمان أحداً حتى يقولا له : إنما نعلِّمك ما يؤدى إلى الفتنة والكفر فاعرفه واحذره وتَوَقَّ العمل به . ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة ، فاستخدموا ما تعلَّموه منهما فيما يفرقون به بين المرء وزوجه . نعم كفر هؤلاء الشياطين الفجرة إذ تقوَّلوا هذه الأقاويل من أقاويلهم وأساطيرهم ذريعة لتعليم اليهود السحر ، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد ، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء ، وأن ما يؤخذ عنهم من سحر سيضر من تعلَّمه في دينه ودنياه ولا يفيده شيئاً ، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخرة ، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت بهم بقية من علم .
ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه ، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع ، ابتلي بالاشتغال بما يضره ، فمن ترك عبادة الرحمن ، ابتلي بعبادة الأوثان ، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه ، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه ، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ، ومن ترك الذل لربه ، ابتلي بالذل للعبيد ، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل .
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر ، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم .
وهم كذبة في ذلك ، فلم يستعمله سليمان ، بل نزهه الصادق في قيله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي : بتعلم السحر ، فلم يتعلمه ، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك .
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم ، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق ، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر .
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه ، و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي : لا تتعلم السحر فإنه كفر ، فينهيانه عن السحر ، ويخبرانه عن مرتبته ، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام ، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة .
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه .
ثم ذكر مفاسد السحر فقال : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما ، لأن الله قال في حقهما : { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة ، وأنه يضر بإذن الله ، أي : بإرادة الله ، والإذن نوعان : إذن قدري ، وهو المتعلق بمشيئة الله ، كما في هذه الآية ، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير ، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير ، ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد ، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة ، فأخرجوها عن قدرة الله ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين .
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة ، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي ، كما قال تعالى في الخمر والميسر : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة ، فليس له داع أصلا ، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة ، أو شرها أكبر من خيرها .
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها .
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي : اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي : رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة .
{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي : نصيب ، بل هو موجب للعقوبة ، فلم يكن فعلهم إياه جهلا ، ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة .
{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه .
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على نبذهم لكتابه فقال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } .
اتبعوا : من الاتباع وهو الاقتداء ، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم .
وتتلو : من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة ، وقال الراغب : تلا عليه كذب عليه .
والشياطين : جمع شيطان ، وهو كائن حي خلق من النار ، ويطلق على الممتلئ شراً من الأنس .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله ، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان ، وفي زمانه ، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر ، وأنه ارتد في أواخر حياته ، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه والوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به - عليه السلام - وهو برئ منها .
قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي على عهد ملكه وفي زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس ، وفشا ذلك في زمان سليمان - عليه السلام - حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإِنس والجن والريح التي تجري بأمره .
وقوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } معناه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم ، وصرفهم عن عبادة - الله - تعالى - إلى عبادة غيره من المخلوقات .
ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان - عليه السلام - عن الردة والشرك وتبرئه له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زوراً وبهتاناً ، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر .
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان ، وأنه ارتد في آخر عمره ، وعبد الأصنام وبني لها المعابد ، وكانوا عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحراً يركب الريح .
فإن قال قائل : ما الحكمة في نفي الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحداً نسب إليه ذلك .
فالجواب : أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله ، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان ، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإِنس والريح ، فأكذبهم الله - تعالى - بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } كما بينا .
وللضمير في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } : وجهان :
أحدهما : أنه متصل بقوله تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } أي : أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر .
والثاني : وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى { كَفَرُواْ } وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهوراً في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم ، أي أن فريقاً من اليهود نبذوا كتاب الله اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } .
ونفي الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض ، فعلم أيضاً - أنهم اتبعوا الشياطين بهذه القرية ، وإنما كان القصد إلى صوف اليهود بتعلم السحر ، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ، ويضرون بها الناس خداعاً وتمويها وتلبساً .
وإنما أضاف الله - تعالى - إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفاً قبل سليمان - عليه السلام - كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون ، وإنما أضاف ذلك إليهم ، لأن هذا كان هو الواقع منهم ، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان ، كان مدوناً في صحف اليهود من قديم ، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن صول إلى من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم منهم ولأن سليمان - عليه السلام - أعطاه الله تعالى ملكاً واسعاً وسخر له الإِنس والجن والريح ، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر .
و { مَآ } في قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } موصولة ، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } أي يعلمون الناس السحر ، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين .
والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وما هيته وكيفية الاحتيال به . ليعرفاه الناس فيجتنبوه على حد قول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه . . . ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
فالشياطين عرفوه فعملوا به ، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرر والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه .
هذا ، واختصت بابل بالإِنزال ، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر ، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم ، وعمت الأباطيل فألهم الله - تعالى - هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه ، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم ، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم .
واللام في { الملكين } مفتوحة في القراءات العشر المتواترة ، وقرئ شاذاً { الملكين } بكسر اللام .
قال بعض المفسرين : المراد بالملكين - بفتح اللام - رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة ، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين ، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما ، ويؤيد هذا الرأي قراءة الملكين - بكسر اللام - وإن كانت شاذة :
وقال جمهور المفسرين : إنما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله - تعالى - ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم ، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله ، { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر ، وهما بدل أو عطف بيان للملكين .
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما . والجملة حالية من هاروت وماروت .
والفتنة ، المراد هنا الابتلاء والاختبار ، تقول : فتنت الذهب في النار ، أي : اختبرته لتعرف جودته ورداءته .
والمعنى : أن الملكين لا يعلمان أحداً من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الابتلاء والاختبار لتمييز المطيع من العاصي . فمن عمل به ضل وقوي ، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله ، ولإِظهار الفرق بين المعجزة والسحر . فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين : كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات .
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر ، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام ، وادعو ما لم يأذن به الله ، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك ، وإنما هم أفاكون ، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعاً ولا ضراً لأحد ، وإنما هما فتنة محضة ، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي .
ثم بين - سبحانه - لوناً من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } أي فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه .
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } لأنه يقتضي أن التعليم حاصل ، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين .
وخصص سبحانه ها اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده . وعلى شناعة ذنب من يقوم به . لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة .
والضمير في قوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ } راجع لأحد ، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد ، لوقوعه في سياق النفي ، والنكرة إذا وردت بعد نفي كانت في معنى أفراد كثيرة ، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك .
ثم نفى - سبحانه - أن يكون السحر مؤثراً بذاته فقال تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحداً بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته ، فالسحر سبب عادي لما ينشأ عنه من الأضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك .
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضراً بذاته ، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر .
والمراد { بِإِذْنِ الله } هنا . تخليته - سبحانه - بين السحور وضرر السحر ، أي : إن شاء حصل الضرر بسبب السحر ، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى .
وعبر - سبحانه - عن هذا المعنى بطريق القصر ، مبالغة في نفي أي تأثير للسحر بذاته ، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوي غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات ، وإرشاداً لهم إلى حسن الاعتقاد ، وسلامة اليقين .
ثم بين - سبحانه - أن أولئك المتعليمن السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، فقال تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي : أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم ، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل ، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم ، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم ، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر .
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم ، لأن الساحر - مهما بلغت براعته - فلن يستطيع أن يمنع شيئاً أراده الله ، ولا أن يأتي بشيء منعه الله ما دام الأمر كذلك فالمشتغل به ، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين .
وقد أفادت الجملة الكريمة يجمعهها بين إثبات الضر ونفي النفع مفاد الحصر فكأنه - سبحانه - يقول : ويتعلمون ما ليس إلا ضرراً بحتاً .
ثم بين - سبحانه - مآل أولئك اليهود التاركين للحق ، والمتبعين للباطل فقال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } أي : ولقد علم أولئك اليهود الذين بنذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر ، أن من استبدل السحر بكتاب الله بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة ، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى ، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر ، وشددت العقوبة على مرتكبه ، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان .
فالضمير في { عَلِمُواْ } يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر .
والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره ، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة ، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة ، لإقبالهم على التمويه والكذب ، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير .
وأكد - سبحانه - علمهم بضرر السحر بقوله { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } للإِشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره ، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة .
ثم قال تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
شروا : بمعنى باعوا ، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة . ونعيمها .
والمعنى : ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به ، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك .
وأثبت لهم العلم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } ثم نفاه عنه في قوله تعالى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جرياً على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفي عنه العلم كما ينفي عن الجاهلين .
وإلأى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله .
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قلت : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسخلون عنه .
ثم ماذا ؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ؟ ؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه ؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه ؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه ؟ كلا . . لا شيء من هذا كله . إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة .
( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ، ولكن الشياطين كفروا . يعلمون الناس السحر ، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه - وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله - ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) . .
لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم ؛ وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان ، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان ، إذ يقولون : إنه كان ساحرا ، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه .
والقرآن ينفي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان ساحرا ، فيقول :
فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان - عليه السلام - ويثبته للشياطين :
( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .
ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين : هاروت وماروت . اللذين كان مقرهما بابل :
( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . .
ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما ، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس ، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما ! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا . فرية تنزيل السحر على الملكين .
ثم يبين الحقيقة ، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة . وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء اليهما ، طالبا منهما أن يعلماه السحر :
( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) . .
ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا ؛ ويذكر هذا على لسان الملكين : هاروتوماروت .
وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما ، على الرغم من تحذيره وتبصيره . وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين :
( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) . .
وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان . .
وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية ، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله :
( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) . .
فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقق نتائجها . . وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما . وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام ، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق . ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله . فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها ؛ كما وقع لإبراهيم - عليه السلام - وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، ينشىء هذا الأثر بإذن الله . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها . . وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار . . كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله ، فهو يعمل بهذا الإذن ، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء . .
ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون ، وما يفرقون به بين المرء وزوجه . . إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير :
( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) . .
ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه !
( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) . .
ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة ، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب . .
فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة :
وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع{[2292]} اللهُ إلى سليمان ملكَه ، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان ، عليه السلام ، حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل{[2293]} على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا . فأنزل الله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } واتبعوا الشهوات ،
[ أي ] :{[2294]} التي كانت [ تتلو الشياطين ]{[2295]} وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم " الأعظم " ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجه{[2296]} الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل بها{[2297]} . قال : فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه ، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه ، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }{[2298]} .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب سلم{[2299]} بن جنادة السوائي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئًا من نسائه ، أعطى الجرادة - وهي امرأة - خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان ، عليه السلام ، بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه ، فجاء {[2300]} الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي . فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس . قال : فجاءها سليمان ، فقال : هاتي خاتمي فقالت : كذبت ، لست سليمان . قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر . ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها وقرؤوها{[2301]} على الناس ، وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال : فبرئ الناس من سليمان ، عليه السلام ، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران ، وهو ابن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس - رضي الله عنهما{[2302]} - إذ جاء{[2303]} رجل فقال له : مِنْ أين جئت ؟ قال : من العراق . قال : من أيِّه ؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر ؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم . ففزع ثم قال : ما تقول ؟ لا أبا لك ! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه ، أما إني سأحدثكم{[2304]} عن ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة ، قال : فَتَشْرَبُها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان . عليه السلام ، فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان ، عليه السلام ، قام شيطانُ الطريق ، فقال : أفلا أدلكم على كنزه الممنَّع{[2305]} الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي . فأخرجوه ، فقالوا هذا سحره {[2306]}فتناسخا الأمم - حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق - وأنزل الله عز وجل{[2307]} { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن أبي زكريا العَنْبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير ، به{[2308]} .
وقال السدي في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : على عهد سليمان . قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو غيب{[2309]} أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم . فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم . وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب . فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق . ثم دفنها تحت كرسيه . ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق . وقال : لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل ، فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدًا ؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي . وذهب معهم وأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فَادْنُ . قال{[2310]} لا ولكنني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب . فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين{[2311]} والطير بهذا السحر . ثم طار وذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا . واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها{[2312]} ؛ فذلك حين يقول الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال الربيع بن أنس : إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم{[2313]} ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عز وجل : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وإن الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان [ سليمان ]{[2314]} عليه السلام ، لا يعلم الغيب . فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد{[2315]} الناس عليه . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم .
وقال مجاهد في قوله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } قال : كانت الشياطين تستمع{[2316]} الوحي فما سمعوا من كلمة [ إلا ]{[2317]} زادوا فيها مائتين مثلها . فأرسِل سليمان ، عليه السلام ، إلى ما كتبوا من ذلك . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [ به ]{[2318]} وهو السحر .
وقال سعيد بن جبير : كان سليمان ، عليه السلام ، يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم ، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدبَّت{[2319]} إلى الإنس ، فقالوا لهم : أتدرون ما العلم{[2320]} الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثار به{[2321]} الإنسُ واستخرجوه فعملوا{[2322]} بها . فقال أهل الحجا : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله تعالى على [ لسان ]{[2323]} نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام ، فقال : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال محمد بن إسحاق بن يسار{[2324]} عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ، عليه السلام{[2325]} فكتبوا أصناف السحر : " من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا " . حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب . ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عُنْوانه : " هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ، عليهما السلام{[2326]} من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته{[2327]} بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا . فلما عثروا عليه قالوا : والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس [ وتعلموه وعلموه ]{[2328]} . وليس هو في أحد أكثر{[2329]} منه في اليهود لعنهم الله . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود ، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيًا ، والله ما كان إلا ساحرًا . وأنزل الله [ في ]{[2330]} ذلك من قولهم : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثنا الحجاج{[2331]} عن أبي بكر ، عن شَهْر بن حَوشب ، قال : لما سلب سليمان ، عليه السلام ، ملكه ، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت : " من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ، وليقل كذا وكذا{[2332]} ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ بن داود ]{[2333]} من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، قام إبليس ، لعنه الله ، خطيبًا ، [ ثم ]{[2334]} قال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نَبيًّا ، إنما كان ساحرًا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته . ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه . فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرًا ! هذا {[2335]} سحره ، بهذا تَعَبدنا ، وبهذا قهرنا . وقال المؤمنون : بل كان نبيًا مؤمنًا . فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان . فقالت اليهود [ لعنهم الله ] {[2336]}انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل . يذكر سليمان مع الأنبياء . إنما كان ساحرًا يركب الريح ، فأنزل الله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حُدَير ، عن أبي مِجْلَز ، قال : أخذ سليمان ، عليه السلام ، من كل دابة عهدًا ، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ، خلى عنه . فزاد الناس السجع والسحر ، وقالوا : هذا يعمل به
سليمان . فقال الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }{[2337]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رَوّاد ، حدثنا آدم ، حدثنا المسعودي ، عن زياد مولى ابن مصعب ، عن الحسن : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } قال : ثلث الشعر ، وثلث السحر ، وثلث الكهانة .
وقال : حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي ، حدثني سُرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن :
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } واتبعته اليهود على ملكه . وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان .
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها ، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم ، والله الهادي . وقوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : واتبعت اليهود - الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه{[2338]} الشياطين ، أي : ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان . وعداه بعلى ؛ لأنه تضمن تتلو : تكذب . وقال ابن جرير : " على " {[2339]} هاهنا بمعنى " في " ، أي : تتلو في ملك سليمان . ونقله عن ابن جُرَيج ، وابن إسحاق .
قلت : والتضمن أحسن وأولى ، والله أعلم .
وقول الحسن البصري ، رحمه الله : " قد كان السحر قبل زمان{[2340]} سليمان بن داود " صحيح لا شك فيه ؛ لأن السحرة كانوا في زمان{[2341]} موسى ، عليه السلام ، وسليمان بن داود بعده ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ البقرة : 246 ] ، ثم ذكر القصة بعدها ، وفيها : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ }
[ البقرة : 251 ] . وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، لنبيهم صالح : { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [ الشعراء : 153 ] أي :
[ من ]{[2342]} المسحورين على المشهور .
وقوله تعالى : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن " ما " نافية ، أعني التي في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال القرطبي : " ما " نافية ومعطوفة على قوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ثم قال : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ } أي : السحر
{ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } وذلك أن اليهود - لعنهم الله - كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } بدلا من : { الشياطين } قال : وصح ذلك ، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] أو يكون لهما أتباع ، أو ذكرا من بينهم لتمردهما ، فتقدير الكلام عنده : تعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه .
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } يقول : لم ينزل الله السحر . وبإسناده ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال : ما أنزل الله عليهما السحر .
قال ابن جرير : فتأويل الآية على هذا : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . فيكون قوله : { بِبَابِلَ هَارُوتَ [ وَمَارُوت{[2343]} ] } من المؤخر الذي معناه المقدم . قال : فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } - " من السحر " - { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } وما أنزل الله " السحر " على الملكين ، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين : جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ، عليه السلام ، مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان ، اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ، وردًا عليهم .
هذا لفظه بحروفه{[2344]} .
وقد قال ابن أبي حاتم : حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال : ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر .
حدثنا{[2345]} الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا يعلى - يعني ابن أسد - حدثنا بكر{[2346]} - يعني ابن مصعب - حدثنا الحسن بن أبي جعفر : أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها : " وما أنزل على الملكين داود وسليمان " .
وقال أبو العالية : لم ينزل عليهما السحر ، يقول : علما الإيمان والكفر ، فالسحر من الكفر ، فهما ينهيان عنه أشد النهي . رواه ابن أبي حاتم .
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ، وأن " ما " بمعنى الذي ، وأطال القول في ذلك ، وادعى{[2347]} أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض ، وأذن لهما في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا ، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك ؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به .
وهذا الذي سلكه غريب جدًا ! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [ كما زعمه ابن حزم ]{[2348]} !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده . عن الضحاك بن مزاحم : أنه كان يقرؤها : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } ويقول : هما علجان من أهل بابل .
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنزال بمعنى الخَلْق ، لا بمعنى الإيحاء ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } كما قال تعالى : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] ، { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [ الحديد : 25 ] ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا } [ غافر : 13 ] . وفي الحديث : " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء " . وكما يقال : أنزل الله الخير والشر .
[ وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري : أنهم قرؤوا : " وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ " بكسر اللام . قال ابن أبزى : وهما داود وسليمان . قال القرطبي : فعلى هذا تكون " ما " نافية أيضًا ]{[2349]} .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [ و " ما " نافية ]{[2350]} قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله تعالى : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } قال الرجل : يعلمان الناس السحر ، ما أنزل عليهما{[2351]} أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .
ثم روى عن يونس ، عن أنس بن عياض ، عن بعض أصحابه : أن القاسم قال في هذه القصة : لا أبالي أيّ ذلك كان ، إني آمنت به .
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى . وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصًا لهما ، فلا تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق ، وفي قول : إنه كان من الملائكة ، لقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } [ طه : 116 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك . مع أن شأن هاروت وماروت - على ما ذكر - أخف مما وقع من إبليس لعنه الله .
[ وقد حكاه القرطبي عن على ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وكعب الأحبار ، والسدي ، والكلبي ]{[2352]} .
ذكر الحديث الوارد في ذلك - إن صح سنده ورفعه - وبيان الكلام عليه :
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن [ أبي ]{[2353]} بكير ، حدثنا زهير بن محمد ، عن موسى بن جبير ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن آدم - عليه السلام - لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب{[2354]} { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، قالوا : ربنا ، نحن أطوع لك من بني آدم . قال الله تعالى للملائكة : هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض ، فننظر كيف يعملان ؟ قالوا : برَبِّنا ، هاروتَ وماروتَ . فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما{[2355]} الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك . فقالا والله{[2356]} لا نشرك بالله شيئًا أبدًا . فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي . فقالا لا والله لا نقتله أبدًا . ثم ذهبت فرجعت{[2357]} بقَدَح خَمْر تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر . فشربا فسكرا ، فوقعا عليها ، وقتلا الصبي . فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد{[2358]} فعلتماه حين سكرتما . فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا " .
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن الحسن عن سفيان ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن بكير ، به{[2359]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ، إلا موسى بن جبير هذا ، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء ، رَوَى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ، ونافع ، وعبد الله بن كعب بن مالك . وروى عنه ابنه عبد السلام ، وبكر بن مضر ، وزهير بن محمد ، وسعيد بن سلمة ، وعبد الله بن لَهِيعة ، وعمرو بن الحارث ، ويحيى بن أيوب . وروى له أبو داود ، وابن ماجه ، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا ، فهو مستور الحال{[2360]} وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن مَرْدُويه : حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد ، حدثنا هشام [ بن علي بن هشام ]{[2361]} حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا موسى بن سَرْجِس ، عن نافع ، عن ابن عمر : سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول . فذكره بطوله .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين - وهو سنيد بن داود صاحب التفسير - حدثنا الفرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع ، انظر ، طلعت الحمراء ؟ قلت : لا - مرتين أو ثلاثًا - ثم قلت : قد طلعت . قال : لا مرحبًا بها ولا أهلا ؟ قلت : سبحان الله ! نجم مسخر سامع مطيع . قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا{[2362]} والذنوب ؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك . قال : فاختاروا ملكين منكم . قال : فلم يألوا جهدًا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت " {[2363]} .
وهذان - أيضاً - غريبان جدًّا . وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن كعب الأحبار ، لا عن النبي{[2364]} صلى الله عليه وسلم ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال{[2365]} ذكرت الملائكة أعمال بني آدم ، وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت . فقال{[2366]} لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر . قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه .
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن عبد الرزاق ، به{[2367]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن عصام ، عن مُؤَمَّل ، عن سفيان الثوري ، به{[2368]} .
ورواه ابن جرير أيضًا : حدثني المثنى ، حدثنا المعلى - وهو ابن أسد - حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث ، عن كعب الأحبار ، فذكره{[2369]} .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين ، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع . فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار ، عن كتب بني إسرائيل ، والله أعلم .
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج{[2370]} حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد ، قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : كانت الزُّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها{[2371]} عن نفسها ، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [ المتكلم ]{[2372]} به يُعْرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء . فمسخت كوكبًا !
وهذا الإسناد [ جيد و ]{[2373]} رجاله ثقات ، وهو غريب جداً .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا أبو معاوية ، عن [ ابن أبي ]{[2374]} خالد ، عن عمير بن سعيد ، عن علي قال : هما ملكان من ملائكة السماء . يعني : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }{[2375]} .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده ، عن مغيث ، عن مولاه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي - مرفوعًا . وهذا لا يثبت من هذا الوجه .
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الزّهَرة ، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت " . وهذا أيضًا لا يصح{[2376]} وهو منكر جدًا . والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعًا : لما كثر{[2377]} بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم{[2378]} فأوحى الله إلى الملائكة : إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا . قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة{[2379]} امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت . قال : فوقعا بالخطيَّة{[2380]} . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] .
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختاروا{[2381]} عذاب الدنيا{[2382]} .
وقال : ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، أخبرنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المِنْهال بن عمرو ويونس بن خباب ، عن مجاهد ، قال : كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر ، فلما كان{[2383]} ذات ليلة قال لغلامه : انظر ، هل طلعت الحمراء ، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين . قالت الملائكة : يا رب ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض ! قال : إني ابتليتهم ، فعلَّ{[2384]} إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون . قالوا : لا . قال : فاختاروا من خياركم اثنين . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما : إني مهبطكما إلى الأرض ، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا . فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشَّبَق ، وأهبطت لهما الزُّهرة في أحسن صورة امرأة ، فتعرضت لهما ، فراوداها{[2385]} عن نفسها . فقالت : إني على دين لا يصح{[2386]} لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله . قالا وما دينك ؟ قالت : المجوسية . قالا الشرك ! هذا شيء لا نقر به . فمكثت عنهما ما شاء الله . ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها . فقالت : ما شئتما ، غير أن لي زوجًا ، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ، فإن أقررتما لي بديني ، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت . فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ، ثم صعدا بها إلى السماء . فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ، وقطعت أجنحتهما{[2387]} فوقعا خائفين نادمين يبكيان ، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين ، فإذا كان يوم الجمعة أجيب . فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب{[2388]} لنا التوبة فأتياه ، فقال : رحمكما الله{[2389]} كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء ! قالا إنا قد ابتلينا . قال : ائتياني{[2390]} يوم الجمعة . فأتياه ، فقال : ما أجبت فيكما بشيء ، ائتياني في الجمعة الثانية . فأتياه ، فقال : اختارا ، فقد خيرتما ، إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة ، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله . فقال أحدهما : إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل . وقال الآخر : ويحك ؟ إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن ، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى . وإننا يوم القيامة على حكم الله ، فأخاف أن يعذبنا . قال : لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا . قال : فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار ، عَاليهُمَا سافلَهما{[2391]}
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر . وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح ، عن نافع ، عنه رفعه . وهذا أثبت وأصح إسنادًا . ثم هو - والله أعلم - من رواية ابن عمر عن كعب ، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه . وقوله : إن الزُّهَرة نزلت في صورة امرأة حسناء ، وكذا في المروي عن علي ، فيه غرابة جدًّا .
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن روّاد ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[2392]} قال : لما وقع الناس من بعد آدم ، عليه السلام ، فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : يا رب ، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام ، والزنا والسرقة وشرب الخمر . فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم ، فقيل : إنهم في غَيْب . فلم يعذروهم . فقيل لهم : اختاروا منكم من أفضلكم ملكين ، آمرهما وأنهاهما . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وجعل لهما شهوات بني آدم ، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام ، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر . فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس عليه السلام . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزُّهرة في سائر الكواكب ، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها ، فسألاها{[2393]} عن دينها ، فأخرجت لهما صنمًا فقالت : هذا أعبده . فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فغَبَرا ما شاء الله . ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ، ففعلت مثل ذلك . فذهبا ، ثم أتيا عليها فراوداها{[2394]} على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، وإما أن تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذا الخمر . فقالا كل هذا لا ينبغي ، وأهون هذا شرب الخمر . فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا{[2395]} المرأة ، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه{[2396]} فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، وحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه ، فعجبوا كل العجب ، وعَرَفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فنزل في ذلك : { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } [ الشورى : 5 ] فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان{[2397]} .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق بن راهويه ، عن حكام بن سلم{[2398]} الرازي ، وكان ثقة ، عن أبي جعفر الرازي ، به . ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . فهذا أقرب ما روي في شأن الزُّهرة ، والله أعلم{[2399]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني{[2400]} حدثنا يزيد - يعني الفارسي - عن ابن عباس
[ قال ]{[2401]} أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي{[2402]} فقالوا : يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي ! فقال الله : أنتم معي ، وهم غُيَّب عني . فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة ، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض ، على أن يحكموا بين أهل الأرض ، وجعل فيهم شهوة الآدميين ، فأمروا ألا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسا ، ولا يزنوا ، ولا يسجدوا لوثن . فاستقال منهم واحد ، فأقيل . فأهبط اثنان إلى الأرض ، فأتتهما امرأة من أحسن الناس{[2403]} يقال لها : مناهية{[2404]} . فَهَويَاها جميعًا ، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها ، فأراداها فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري ، وتقتلا ابن جاري ، وتسجدا لوثني . فقالا لا نسجد . ثم شربا من الخمر ، ثم قتلا ثم سجدا . فأشرف أهل السماء عليهما . فقالت{[2405]} لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما . فأخبراها فطارت فمسخت جمرة . وهي هذه الزهَرة . وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فاختارا عذاب الدنيا . فهما مناطان بين السماء والأرض{[2406]} .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ، والله أعلم بالصواب .
وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : قال قتادة والزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم ، فحاكمت إليهما امرأة ، فحافا لها . ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . وقال مَعْمَر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ }{[2407]} .
وقال أسباط عن السدي أنه قال : كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات ، فبها{[2408]} يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل . فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دَنْباوَند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما{[2409]} حسنها - واسمها بالعربية " الزّهَرة " ، وبالنبطية " بيذخت " وبالفارسية " أناهيد " - فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . قال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال : نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر : إنا لنرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي . فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك . فلما أراد الذي يواقعها قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به ، فبقيت{[2410]} مكانها ، وجعلها{[2411]} الله كوكبًا . فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها ، فقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ، فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل ، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر .
وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد : أما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم تعالى : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا فلم يألوا [ إلا ]{[2412]} هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : أعجبتما{[2413]} من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [ والبينات ]{[2414]} من وَرَاء وَرَاء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا ، فأمرهما بأمر ونهاهما ، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما ، فحكما فعدلا . فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم ، فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدتَ مثل الذي وجدتُ ؟ قال : نعم . فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك . فلما رجعت قالا وقضيا لها ، فأتتهما فتكشفا لها عن عورتيهما ، وإنما كانت شهوتهما{[2415]} في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها . فلما بلغا ذلك واستحلا افتُتنا ، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما . فاستغاثا برجل من بني آدم
فأتياه ، فقالا ادع لنا ربك . فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يومًا ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما ، فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقال : ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثَمَّ عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ، كمجاهد والسدي والحسن [ البصري ]{[2416]} وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال .
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ، قال : الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، حدثني هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ رضي الله عنها وعن أبيها ]{[2417]} أنها قالت : قدمت امرأة عليَّ من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك ، تسأله عن شيء{[2418]} دخلت فيه من أمر السحر ، ولم تعمل به . قالت عائشة ، رضي الله عنها ، لعُرْوَة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت . كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك . فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبتُ أحدهما{[2419]} وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما . فقالا ما جاء بك ؟ فقلتُ : أتعلم{[2420]} السحر . فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري ، فارجعي . فأبيت وقلت : لا . قالا فاذهبي{[2421]} إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت ففزعتُ ولم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا أفعلت ؟ فقلت : نعم . فقالا هل رأيت شيئًا ؟ فقلت : لم أر شيئًا . فقالا لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [ فإنك على رأس أمري ]{[2422]} . فأرْبَبْت وأبيت{[2423]} . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت فاقشعررت [ وخفت ]{[2424]} ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت . فقالا فما رأيت ؟ فقلت : لم أر شيئًا . فقالا كذبت ، لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري{[2425]} ؛ فإنك على رأس أمرك . فأرببتُ وأبيتُ . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسًا مقنعًا{[2426]} بحديد خَرَج مني ، فذهب في السماء وغاب [ عني ]{[2427]} حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت . فقالا فما رأيت ؟ قلت : رأيت فارسًا مقنعًا خرج مني فذهب في السماء ، حتى ما أراه . فقالا صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي . فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا . فقالت : بلى ، لم تريدي شيئًا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي{[2428]} فأطلعت{[2429]} وقلت : أحقلي فأحقلت {[2430]} ثم قلت : أفْركي فأفرَكَتْ . ثم قلت : أيبسي فأيبست{[2431]} . ثم قلت : أطحني فأطحنت{[2432]} . ثم قلت : أخبزي فأخبزت{[2433]} . فلما رأيتُ أني لا أريد شيئًا إلا كان ، سقط في يدي وندمت - والله - يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا{[2434]} .
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ، به مطولا كما تقدم{[2435]} . وزاد بعد قولها : ولا أفعله أبدًا : فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يومئذ متوافرون ، فما دَرَوا ما يقولون لها ، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه ، إلا أنه قد قال لها ابن عباس - أو بعض من كان عنده - : لو كان أبواك حيين أو أحدهما [ لكان يكفيانك ]{[2436]} .
قال هشام : فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [ قال ]{[2437]} : قال ابن أبي الزناد : وكان هشام يقول : إنهم كانوا أهل الورع والخشية{[2438]} من الله . ثم يقول هشام : لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم .
فهذا إسناد جيد إلى عائشة ، رضي الله عنها .
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن{[2439]} الساحر له تمكن في قلب الأعيان ؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال .
وقال آخرون : بل ليس له قدرة إلا على التخييل ، كما قال [ الله ]{[2440]} تعالى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] وقال تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 ] .
واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق ، لا بابل دُنْباوَنْد{[2441]} كما قاله السدي وغيره . ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال{[2442]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثني ابن وهب ، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه [ مر ببابل وهو يسير ، فجاء المؤذن يُؤْذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ ] قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي [ بأرض المقبرة ، ونهاني أن أصلي ] ببابل فإنها ملعونة{[2443]} .
وقال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري : أن عليا مر ببابل ، وهو يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي بأرض بابل ، فإنها ملعونة .
حدثنا أحمد بن صالح : حدثنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة ، عن الحجاج بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن علي ، بمعنى حديث سليمان بن داود ، قال : فلما " خرج " مكان " برز " {[2444]} .
وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود ، لأنه رواه وسكت عنه{[2445]} ؛ ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل ، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم ، إلا أن يكونوا باكين .
قال أصحاب الهيئة : وبُعْدُ ما بين بابل ، وهي من إقليم العراق ، عن البحر المحيط الغربي ، ويقال له : أوْقيانُوس{[2446]} سبعون درجة ، ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب ، وهو المسامت لخط الاستواء ، اثنان{[2447]} وثلاثون درجة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن قيس{[2448]} بن عباد ، عن ابن عباس ، قال : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي ، وقالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان ، فعرفا أن السحر من الكفر{[2449]} . [ قال ]{[2450]} فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه ، فإذا تعلم خرج منه النور ، فنظر{[2451]} إليه ساطعًا في السماء ، فيقول : يا حسرتاه ! يا ويله ! ماذا أصنع{[2452]}
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم ، أنزل الملكان بالسحر ، ليعلما{[2453]} الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } رواه ابن أبي حاتم ، وقال قتادة : كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } - أي : بلاء ابتلينا به - { فَلا تَكْفُرْ }
وقال [ قتادة و ]{[2454]} السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر ، وعظاه ، وقالا له : لا تكفر ، إنما نحن فتنة . فإذا أبى قالا له : ائت هذا الرماد ، فبُلْ عليه . فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء ، وذلك الإيمان . وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلِّ شيء [ منه ]{[2455]} . وذلك غضب الله . فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } الآية .
وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج في هذه الآية : لا يجترئ على السحر إلا كافر .
وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ، ومنه قول الشاعر :
وقد فُتن النَّاسُ في دينهم *** وخَلَّى ابنُ عفان شرًا طويلا{[2456]} وكذلك{[2457]} قولُه تعالى إخبارًا عن موسى ، عليه السلام ، حيث قال : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك { تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } [ الأعراف : 155 ]{[2458]} .
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ، ويُستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، عن عبد الله ، قال : من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا إسناد جيد{[2459]} وله شواهد أخر .
وقوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي : فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة ، ما إنهم ليفَرِّقُون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف . وهذا من صنيع الشياطين ، كما رواه مسلم في صحيحه ، من حديث الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه{[2460]} عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا . فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئًا . ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله{[2461]} قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ، ويقول : نِعْم أنت{[2462]} .
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر : ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر ، أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو بَغْضه ، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة .
والمرء عبارة عن الرجل ، وتأنيثه امرأة ، ويثنى كل منهما ولا يجمعان ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله . وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد . وقال الحسن البصري : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال : نَعَم ، من شاء الله سلطهم عليه ، ومن لم يشأ الله لم يسلط ، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله ، كما قال الله تعالى ، وفي رواية عن الحسن أنه قال : لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه .
وقوله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } أي : يضرهم في دينهم ، وليس له نفع يوازي ضرره .
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول{[2463]} صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك ، أنه ما له في الآخرة من خلاق .
قال ابن عباس ومجاهد والسدي : من نصيب . وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : ما له في الآخرة من جهة عند الله{[2464]} وقال : وقال الحسن : ليس له دين .
وقال سعد{[2465]} عن قتادة : { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } قال : ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة .
وقوله تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
يقول تعالى : { ولبئس } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ، ومتابعة الرسل{[2466]} لو كان لهم علم بما وعظوا به/خ103
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }( 102 )
وقوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين } الآية ، يعني اليهود ، قال ابن زيد( {[1017]} ) والسدي : المراد من كان في عهد سليمان ، وقال ابن عباس : المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل الجميع( {[1018]} ) ، و { تتلو } قال عطاء : معناه تقرأ من التلاوة( {[1019]} ) ، وقال ابن عباس : { تتلو } تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً ، وتتلو بمعنى تلت ، فالمستقبل وضع موضع الماضي ، وقال الكوفيون : المعنى ما كانت تتلو( {[1020]} ) ، وقرأ الحسن والضحاك : «الشياطون » بالواو .
وقوله : { على ملك سليمان } أي على عهد ملك سليمان ، وقيل المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره ، وقال الطبري :
{ اتبعوا } بمعنى فضلوا( {[1021]} ) ، و { على ملك سليمان } أي على شرعه ونبوته وحاله ، والذي تلته الشياطين : قيل إنهم كان يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم ، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه ، فلما مات قالت الشياطين : إن ذلك كان علم سليمان ، وقيل : بل كان الذي تلته الشياطين سحراً وتعليماً فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم ، وقيل إن سليمان عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه ، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطراً من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان ، وقيل إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن يكتبوا سحراً وينسبوه إلى سليمان بعد موته ، وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه ، وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علماً ، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها ، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل ، هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح ، هو هذا السحر ، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم ، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً .
وقوله تعالى : { وما كفر سليمان } تبرئة من الله تعالى لسليمان ، ولم يتقدم في الآيات أن أحداً نسبه إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر( {[1022]} ) ، والسحر والعمل به كفر( {[1023]} ) ، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفراً ، ولا يستتاب كالزنديق ، وقال الشافعي : يسأل عن سحره فإن كان كفراً استتيب منه فإن تاب وإلا قتل ، وقال مالك : فيمن يعقد الرجال عن النساء يعاقب ولا يقتل ، واختلف في ساحر أهل الذمة( {[1024]} ) فقيل : يقتل ، وقال مالك : لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه ، وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من «لكنّ » ونصب الشياطين ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطينُ » ، قال بعض الكوفيين : التشديد أحب اليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل ، وبل لا تدخل عليها الواو ، وقال أبو علي : ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد ، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت ، وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر ، وإما بعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، وكل ذلك كان ، والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل ، و { السحر } مفعول ثان ب { يعلمون } ، وموضع { يعلمون } نصب على الحال ، أو رفع على خبر ثان .
وقوله تعالى : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } : { ما } عطف على { السحر } فهي مفعولة( {[1025]} ) ، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتعبه ويؤمن من تركه ، أو على قول مجاهد وغيره : إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر( {[1026]} ) ، أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه ، وقيل إن { ما } عطف على { ما } في قوله : { ما تتلو } ، وقيل : { ما } نافية ، رد( {[1027]} ) على قوله : { وما كفر سليمان } ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك ، وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملِكين » بكسر اللام( {[1028]} ) ، وقال ابن أبزى : هما داود وسليمان ، وعلى هذا القول أيضاً ف { ما } نافية ، وقال الحسن : هما علجان( {[1029]} ) كانا ببابل ملكين ، { فما } على هذا القول غير نافية ، وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي ، وقال : هما { هاروت وماروت } ، فهذا كقول الحسن .
و { بابل } لا ينصرف للتأنيث والتعريف ، وهي قطر من الأرض ، واختلف أين هي ؟ فقال قوم : هي بالعراق( {[1030]} ) وما والاه ، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل ، وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين ، وقال قوم : هي بالمغرب .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ضعيف( {[1031]} ) ، وقال قوم : هي جبل دماوند( {[1032]} ) ، و { هاروت وماروت } بدل من
{ الملكين } على قول من قال : هما ملكان ، ومن قرأ «ملِكين » بكسر اللام وجعلهما داود سليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل ، جعل
{ هاروت وماروت } بدلاً من { الشياطين } في قوله { ولكن الشياطين كفروا } ، وقال هما شيطانان ، ويجيء { يعلمون } : إما على أن الاثنين جمع ، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس ، ومن قال كانا علجين قال : { هاروت وماروت } بدل من قوله { الملكين } ، وقيل هما بدل من { الناس } في قوله { يعلمون الناس } ، وقرأ الزهري { هاروتُ وماروتُ } بالرفع ، وجهه البدل من { الشياطين } في قوله { تتلو الشياطين } أو من { الشياطين } الثاني على قراءة من خفف «لكنْ » ورفع ، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره هما { هاروت وماروت } .
وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله( {[1033]} ) لأطاعت حق الطاعة ، فقال الله لهم : اختاروا ملكين يحكمان بين الناس ، فاختاروا هاروت وماروت ، فكانا يحكمان ، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها ، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا ، ففعلا ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه ، فتكلمت به فعرجت ، فمسخت كوكباً فهي الزهرة ، وكان ابن عمر يلعنها( {[1034]} ) .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا كله ضعيف وبعيد ابن عمر رضي الله عنهما ، وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر ، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت ، فتعجبوا ، وبقيا في الأرض لأنهما خُيِّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا ، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما ، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك ، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض ، ولا يقطع منه بشيء ، فلذلك اختصرته .
ذكر ابن الأعرابي( {[1035]} ) في الياقوتة أن { يعلمان } بمعنى يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير [ الطويل ] .
تَعَلَّمْ رسولَ اللَّهِ أنَّك مدركي . . . وأنّ وعيداً منك كالأخذِ باليدِ
وحمل( {[1036]} ) هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه ، وقال الجمهور : بل التعليم على عرفه ، و «لا تكفر » قالت فرقة : بتعلم السحر ، وقالت فرقة : باستعماله ، وحكى المهدوي أن قولهما : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله ، و { من } في قوله { من أحد } زائدة بعد النفي .
وقوله تعالى : { فيتعلمون } : قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، وقيل هو معطوف على قوله { يعلمون الناس } ، ومنعه الزجاج( {[1037]} ) ، وقيل : هو معطوف على موضع { وما يعلمان } لأن قوله { وما يعلمان } وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم( {[1038]} ) ، وقيل التقدير فيأتون فيتعلمون( {[1039]} ) ، واختاره الزجاج ، والضمير في { يعلمان } هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم ، والضمير في { منهما } قيل : هو عائد عليهما ، وقيل : على { السحر } وعلى الذي أنزل على الملكين ، و { يفرقون } معناه فرقة العصمة ، وقيل معناه : يؤخِّذون( {[1040]} ) الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضاً فرقة .
وقرأ الحسن والزهري وقتادة : «المرءِ » براء مكسورة خفيفة ، وروي عن الزهري تشديد الراء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «المُرء » بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل ، وقرأ الأشهب العقيلي «المِرء » بكسر الميم وهمزة ، ورويت عن الحسن ، وقرأ جمهور الناس «المَرء » بفتح الميم وهمزة ، والزوج هنا امرأة الرجل ، وكل واحد منهما زوج الآخر ، ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق . [ الطويل ]
وإن الذي يسعى ليفسِدَ زوجتي . . . كساعٍ إلى أُسْد الشرى يسْتبيلها
وقرأ الجمهور «بضارين به » ، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد » فقيل : حذفت النون تخفيفاً ، وقيل : حذفت للإضافة إلى { أحد } وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور( {[1041]} ) ، و { بإذن الله }( {[1042]} ) معناه . بعلمه وتمكينه ، و { يضرهم } معناه في الآخرة { ولا ينفعهم } فيها أيضاً ، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة ، والضمير في { علموا } عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة ، وقيل : على { الشياطين } ، وقيل على { الملكين } وهما جمع( {[1043]} ) ، وقال { اشتراه } لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا ، والخلاق النصيب والحظ ، وهو هنا بمعنى الجاه والقدر ، واللام في قوله { لمن } المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط ، وتقدم القول في «بئسما »( {[1044]} ) ، و { شروا } معناه باعوا ، وقد تقدم مثله ، والضمير في { يعلمون } عائد على بني إسرائيل باتفاق ، ومن قال إن الضمير في { علموا } عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز( {[1045]} ) ، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون ، ومن قال إن الضمير في { علموا } عائد على { الشياطين } أو على { الملكين } قال : إن أولئك علموا أن لا خلاق لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة ، وقال مكي : الضمير في { علموا } لعلماء أهل الكتاب( {[1046]} ) ، وفي قوله { لو كانوا يعلمون } للمتعلمين منهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ} الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم، تجاهلاً منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تَلَتْه الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ}؛
فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً، تأمره من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان...
{واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ}: اتبعوا السحر.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان.
والصواب من القول في تأويل قوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوّته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله، واتّباعهم واتّباع أوائلهم وأسلافهم ما تَلَتْهُ الشياطين في عهد سليمان.
وإنما اخترنا هذا التأويل لأن المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحقّ وأمر السحر لم يزل في اليهود، ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: واتبعوا بعضا منهم دون بعض، إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله:"واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ" إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدلّ عليه، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا.
{مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ}: الذي تتلو. فتأويل الكلام إذا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
واختلف في تأويل قوله: "تَتْلُوا"؛
فقال بعضهم: "تَتْلُوا": تحدّث وتروي وتتكلم به وتخبر، نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم.
وقال آخرون: معنى قوله: "ما تَتْلُوا": ما تتبعه وترويه وتعمل به.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين. ولقول القائل: «هو يتلو كذا» في كلام العرب معنيان: أحدهما الاتباع، كما يقال: تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره. والاَخر: القراءة والدراسة، كما تقول: فلان يتلو القرآن، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه...
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأيّ معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر، وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسةً وروايةً وعملاً، فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته.
"على مُلْكِ سُلَيْمَانَ": في ملك سليمان؛ وذلك أن العرب تضع «في» موضع «على» و«على» في موضع «في»، من ذلك قول الله جل ثناؤه: {ولأصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ} يعني به: على جذوع النخل...
{وما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِين كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ}.
إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام من قوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ولا خبر معنا قبلُ عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟ قيل: وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود، وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجنّ والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسّنوا بذلك من ركوبهم ما حرّم الله عليهم من السحر أَنْفُسَهم عند من كان جاهلاً بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان من سليمان، وهو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم منهم بشرٌ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولاً، وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه...فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاءً بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: {وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ} من السحر {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فتضيفه إلى سليمان، {وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ} فيعمل بالسحر {وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ}... {ما تَتْلُوا}: الذي تتلو وهو السحر.
ولعلّ قائلاً أن يقول: أَوَ ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ قيل له: بلى قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نَحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الاَثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عْما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك.
{وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ}، اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: "وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ"؛
فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى «لم»...عن ابن عباس قوله: {وَما أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} فإنه يقول: لم ينزل الله السحر.
فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله: {وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} إلى: ولم ينزل على الملكين، {واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان} من السحر، {وما كفر سليمان} ولا أنزل الله السحر على الملكين {ولكنّ الشّياطينَ كفرُوا يعلمونَ الناسَ السحرَ} ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذ قوله: ببابل وهاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم.
فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون معنيّا بالملكين: جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود. فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الاَخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم.
وقال آخرون: بل تأويل «ما» التي في قوله: "وَما أُنْزلَ على المَلَكَيْنِ":«الذي».
فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وهما ملكان من ملائكة الله.
وقالوا: إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟ قلنا له: إن الله عزّ وجلّ قد أنزل الخير والشرّ كله. وبيّن جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحلّ لهم مما يحرم عليهم؛ وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عَرّفهموها ونهاهم عن ركوبها، فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها.
قالوا: ليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب، وإنما الإثم في عمله وتسويته.
قالوا: وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل به، وأن يضرّ به من لا يحلّ ضرّه به.
قالوا: فليس في إنزال الله إياه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس إثم، إذا كان تعليمهما من علّماه ذلك بإذن الله لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر، وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذْ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به.
قالوا: ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حَرِجا، كما لم يكونا حَرِجَيْن لعلمهما به، إذْ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما.
وقال آخرون: معنى «ما» معنى «الذي»، وهي عطف على «ما» الأولى، غير أن الأولى في معنى السحر والاَخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وقال آخرون: جائز أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، وجائز أن تكون «ما» بمعنى «لم».
والصواب من القول في ذلك عندي: قول من وجّه «ما» التي في قوله: {وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} إلى معنى «الذي» دون معنى «ما» التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك من أجل أن «ما» إن وجهت إلى معنى الجحد، فتنفي عن الملكين أن يكونا منزلاً إليهما. ولم يَخْلُ الاسمان اللذان بعدهما أعني هاروت وماروت من أن يكونا بدلاً منهما وترجمة عنهما، أو بدلاً من الناس في قوله: {يعلّمون النّاسَ السّحْرَ} وترجمة عنهما. فإن جُعلا بدلاً من الملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله: {وَما يُعَلّمانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولا إنّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرّق به بين المرء وزوجه، فما الذي يَتَعَلّم منهما مَنْ يفرّق بين المرء وزوجه؟.
وبعد، فإن «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} عن سليمان أن يكون السحر من عمله، أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه، وهاروت وماروت هما الملكان، فمن المتعلم منه إذا ما يفرّق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: "وَما يُعَلّمَانِ مِنْ أحَدٍ حتى يَقُولاَ إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ"؟ إن خطأ هذا القول لواضح بَيّنٌ. وإن كان قوله «هاروت وماروت» ترجمة من الناس الذين في قوله: {وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ}، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو هاروت وماروت عند قائل هذه المقالة من أحد أمرين: إما أن يكونا مَلَكين، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب، وفي خبر الله عزّ وجلّ عنهما أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا: "إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ "ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلين من بني آدم، فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل من بني آدم لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما، وفي وجود السحر في كل زمان ووقت أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس. فيدعي ما لا يخفى بُطُولُهُ.
فإذا فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبين أن معنى: (ما) التي في قوله: {وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} بمعنى «الذي»، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لأنهما في موضع خفض على الردّ على الملكين، ولكنهما لما كانا لا يجرّان فتحت أواخر أسمائهما.
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه عرّف عباده جَميعَ ما أمرهم به وجميعَ ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: "إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه وعن السحر، فيمحّص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويُخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما، ويكون الملكان في تعليمهما من علّما ذلك لله مطيعين، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان. وقد عُبد من دون الله جماعةٌ من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذْ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناهٍ، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعِظَتهما له بقولهما: "إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" إذ كانا قد أدّيا ما أُمر به بقيلهما ذلك... وأما قوله: "بِبابِلَ": فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم: إنها بابل دنباوند.
وقال بعضهم: بل ذلك بابل العراق.
{وما يُعَلّمانِ مِنْ أحَدٍ حتى يَقُولا إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم فلا تكفر بربك.
{فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ}.
وقوله جل ثناؤه: {فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا} خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله: {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بل هو خبر مستأنف ولذلك رُفع، فقيل: فيتعلمون.
فمعنى الكلام إذا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة. فيأبون قبول ذلك منهما فيتعلمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه.
وقد قيل: إن قوله: {فَيَتَعَلّمُونَ} خبر عن اليهود معطوف على قوله: {وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم.
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ما كان للتأويل وجه صحيح أَوْلى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام. والهاء والميم والألف من قوله: "مِنْهُمَا" من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه. و«ما» التي مع «يفرّقون» بمعنى «الذي». وقيل معنى ذلك: السحر الذي يفرّقون به، وقيل: هو معنى غير السحر... وأما "المرء": فإنه بمعنى رجل من أسماء بني آدم، والأنثى منه المرأة يوحد ويثنى، ولا يجمع ثلاثيه على صورته...
وأما الزوج، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: هي زوجه، بمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: "أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ" وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: هي زوجته.
فإن قال قائل: وكيف يفرّق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى السحر تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، فتفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخصَ الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حُسْن وجمال حتى يقبحه عنده فينصرف بوجهه ويعرض عنه حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه... وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: {فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا} إلى «فيتعلمون» مكان ما علماهم ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا، أي مكان كذا.
{وما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ}: وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، بضارّين بالذي تعلموه منهما من المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه من أحد من الناس، إلاّ من قد قضى الله عليه أن ذلك يضرّه، فأما من دفع الله عنه ضرّه وحفظه من مكروه السحر والنفث والرّقَى، فإن ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه.
وللإذن في كلام العرب أوجه: منها الأمر على غير وجه الإلزام، وغير جائز أن يكون منه قوله: {وَما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإذْنِ اللّهِ} لأن الله جل ثناؤه قد حرّم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر، فكيف به على وجه السحر على لسان الأمة. ومنها التخلية بين المأذون له والمخلّى بينه وبينه. ومنها العلم بالشيء، يقال منه: قد أذنت بهذا الأمر، إذا علمت به... ومنه قوله جل ثناؤه: {فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ} وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وَما هُمْ بِضَارّينَ بالذي تعلموا من الملكين من أحد إلا بعلم الله، يعني بالذي سبق له في علم الله أنه يضرّه...عن سفيان في قوله: {ومَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ} قال: بقضاء الله.
{وَيَتَعَلّمُونَ ما يَضُرّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}.
{وَيَتَعَلّمُونَ}: أي الناس الذين يتعلمون من الملكين، {ما أنزل عليهما} من المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
يعني بقوله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون من يهود بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلاً منهم، التاركون العمل بما فيه، من اتّباعك يا محمد واتّباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ماله في الاَخرة من خلاق... فالنار مثواه ومأواه.
" لَمَنِ اشْتَرَاهُ": فإن «من» في موضع رفع، وليس قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} بعامل فيها لأن قوله: عَلِمُوا بمعنى اليمين فلذلك كانت في موضع رفع، لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر، ما له في الاَخرة من خلاق. ولكون قوله: قَدْ عَلِمُوا بمعنى اليمين حققت بلام اليمين، فقيل: "لَمَنِ اشُتَرَاهُ" كما يقال: أُقسم لَمَنْ قام خير ممن قعد. وأما «من» فهو حرف جزاء...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}؛
فقال بعضهم: الخلاق في هذا الموضع: النصيب.
وقال بعضهم: الخَلاق ههنا: الحجة.
وقال آخرون: الخلاق ههنا: القِوَام.
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الخلاق في هذا الموضع: النصيب، وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لَيُؤَيّدَنّ اللّهُ هَذَا الدّينَ بأقْوَامٍ لا خَلاَقَ لَهُمْ» يعني لا نصيب لهم ولا حظّ في الإسلام والدين...
فكذلك قوله: "مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ": ما له في الدار الآخرة حظّ من الجنة من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظّ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: {ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دلّ ذمه جل ثناؤه أفعالهم التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب على مراده من الخير، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى شروا: باعوا؛ فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقد قال قَبْلُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارّون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاَخرة من خلاق. فقوله: {لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذمّ من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عِوَضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم، إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون: وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُو الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ، وما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ. فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين، والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم وبغيا على رسله، وتعديّا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب، فذلك تأويل قوله.
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} يعني به الشياطين، وأن قوله: "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف، وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَرَاهُ} معنيّ به اليهود دون الشياطين. ثم هو مع ذلك خلاف ما دلّ عليه التنزيل، لأن الآيات قبل قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَرَاهُ} وبعد قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جاءت من الله بذمّ اليهود، وتوبيخهم على ضلالهم، وذمّا لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أحد تلك الأخبار عنهم.
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: {وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا، وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالما: لو علمت لأقصرت...وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجهٌ فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب. أعني بقوله: "وَلَقَدْ عَلِمُوا" وقوله: "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفيّ الباطن منه، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن أَوْلَى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}
والآية في موضع الاحتجاج على اليهود لأنهم ادعوا أن الذي هم عليه أخذ عن سليمان عليه السلام، فإن كان كفرا فقد كفر سليمان. فأخبر الله عز وجل نبيه أن سليمان ما {كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} بما علموا الناس من السحر.
ويحتمل: أتباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر وعملهم به بتعليم الشياطين، فنسب ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا كما نسبت عبادة الأصنام بما بهم عبدوا، والله أعلم... فلا ندري كيف كانت القصة. غير أن اليهود تركت كتب الأنبياء والرسل، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر، وبالله التوفيق...
وفيه دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبرهم عن قصتهم على ما كان، فدل أنه كان عرف ذلك بالله عز وحل وفي ذلك أن قد نسب إلى سليمان عليه السلام ما برأه الله من غير أن يبين ماهيته؛
ذكره الله عز وجل لوجهين: دلالة لرسوله وتكذيبا للذين نحلوه بما هو كفر. وقوله: {على ملك سليمان} أي في ملكه، إذ كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم، ثم سخرهم عز وجل لسليمان، فأمكن ذلك منهم؛ ألقاه على ألسن المعاندين لسليمان في السر، فرووه عنه بعد الوفاة، فكذبهم الله عز وجل وبرأ نبيه عليه السلام من ذلك، وبين كيف كان بدؤه. فإنما بينها للخلق لئلا يتبعوا في الرواية كل من لقي النبي؛ إذ قد يكون من أمثالهم اختراع الرواية وإلزام السامعين الأمور غير المعتادة من الرسل ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية. ولذلك أبطل أصحابنا خبر الخاص في ما يبلى به العام...
ثم السحر يكون على وجهين. سحر يكفر به صاحبه؛ فإن كان ذلك منه بعد الإسلام يقتل به صاحبه لأنه ارتداد منه، وسحر لا يكفر به صاحبه فلا يقتل به إلا أن يسعى في الأرض بالفساد من قتل الناس وأخذ الأموال، فهو كقاطع الطريق يحكم بحكمهم من القتل وسائر العقوبات، وإذا تاب قبلت توبته.
ألا ترى أن سحرة فرعون لما رأوا الآيات آمنوا بالله تعالى، وتابوا توبة لا يطمع في مثل تلك التوبة من المسلم الذي نشأ على الإسلام؛ حين أوعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب وأنواع العذاب، فقالوا: {لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون}؟ [الشعراء: 50]...
وقال بعض [الناس]: لا تقبل توبة الساحر، وهو غلط، وأحق من تقبل توبته الساحر؛ إذ هو أبلغ في تمييز ما هو حجة مما لا حجة. وهذا هو الأصل: إن المدعي لشيء على عهد الأنبياء، إذا استقبلهم بمثلة الأنبياء عليهم السلام فهو أحق من يلزمهم الإيمان به لعلمهم بالحق منه، والعوام لا يعرفون إلا ظاهر ما يلزمهم من تصديق الحجج، والله أعلم...
الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلاً عن العامة، ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام، فنقول: إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لَطُفَ وخَفِيَ سَبَبُهُ، والسَّحَرُ عندهم بالفتح هو الغذاءُ لخفائه ولطف مجاريه،والسَّحْرُ الرئة وما يتعلق بالحلقوم، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء، ومنه قول عائشة:"توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْرِي ونَحْرِي". وقوله تعالى {إنما أنت من المسحرين} [الشعراء: 153، 185] يعني من المخلوق الذي يُطْعم ويُسقَى؛ ويدل عليه قوله تعالى {وما أنت إلا بشر مثلنا} [الشعراء: 154]؛ وكقوله تعالى: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]. ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا. وإنما يُذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقّتها وبها مع ذلك قَوَامُ الإنسان، فمن كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج؛ وهذا هو معنى السحر في اللغة، ثم نقل هذا الاسم إلى كل أمر خَفِيَ سَبَبُهُ؛ وتُخُيِّلَ على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخِداع، ومتى أُطلق ولم يُقَيَّدْ أفاد ذمّ فاعله. وقد أجري مقيداً فيما يُمتدح ويُحمد كما روي: "إِنَّ منَ البَيَانِ لَسِحْراً". فسمى النبي عليه السلام بعض البيان سحراً، لأن صاحبه بين أن ينبئ عن حق فيوضحه ويجليه بحسن بيانه بعد أن كان خفياً -فهذا من السحر الحلال الذي أقرّ النبي عليه السلام عمرو بن الأهتم عليه ولم يَسْخَطْهُ منه.
ومتى أُطلق فهو اسم لكل أمر مُمَوَّهٍ باطل لا حقيقة له ولا ثبات، قال الله تعالى: {سحروا أعين الناس} [الأعراف: 116] يعني مَوَّهُوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعِصِيَّهم تسعى. وقال: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 166] فأخبر أن ما ظنوه سَعياً منها لم يكن سعياً وإنما كان تخييلاً. وقد قيل: إنها كانت عِصِيّاً مجوفة قد مُلئت زئبقاً، وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم محشوَّة زئبقاً، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً وجعلوا آزاجاً وملؤوها ناراً، فلما طُرحت عليه وحَمِي الزئبقُ حَرّكها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموّهاً على غير حقيقته. والعرب تقول لضرب من الحلي "مسحور "أي مُمَوَّهٌ على من رآه مسحور به عينُه. فما كان من البيان على حق ويوضحه فهو من السحر الحلال، وما كان منه مقصوداً به إلى تمويه وخديعة وتصويرِ باطلٍ في صورة الحق فهو من السحر المذموم.
واسم السحر إنما أُطلق على البيان مجازاً لا حقيقةً، والحقيقةُ ما وصفنا، ولذلك صار عند الإطلاق إنما يتناول كل أمرٍ مموَّهٍ قد قُصد به الخديعة والتلبيس وإظهار ما لا حقيقة له ولا ثبات.
ثم قوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} يدّل على أن ما أخبرت به الشياطين وادّعته من السحر على سليمان كان كفراً، فنفاه الله عن سليمان وحَكَمَ بكفر الشياطين الذين تعاطوه وعملوه،
ثم عطف على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ ببَابِلَ هَاروتَ ومَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فلا تَكْفُرْ} فأخبر عن الملكين أنهما يقولان لمن يعلمانه ذلك: لا تكفر بعمل هذا السحر واعتقاده! فثبت أن ذلك كفر إذا عمل به واعتقده.
ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ في الآخرة من خلاق} يعني، والله أعلم: من استبدل السحر بدين الله ما له في الآخرة من خلاقٍ، يعني من نصيب.
ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ}؛ فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر؛ لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر.وإنما خصّ الملكين بالذكر وإن كانا مأمورين بتعريف الكافة، لأن العامة كانت تَبعاً للملكين، فكان أبلغ الأشياء في تقرير معاني السحر والدلالة على بطلانه تخصيص الملكين به ليتبعهما الناس، كما قال لموسى وهارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44] وقد كانا عليهما السلام رسولين إلى رعاياه كما أُرسلا إليه، ولكنه خصّه بالمخاطبة لأن ذلك أنفع في استدعائه واستدعاء رعيته إلى الإسلام... 75]. قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بإِذْنِ الله}؛ الإذن هنا العلم فيكون اسماً إذا كان مخففاً، وإذا كان محركاً كان مصدراً، كما يقول: حَذِرَ الرجل حَذَراً فهو حَذِرٌ؛ فالحذرُ الاسم والحَذَرُ المصدر. ويجوز أيضاً أن يكون مما يقال على وجهين كشِبْهٍ وشَبَهٍ ومِثْلٍ ومَثَلٍ. وقيل فيه {إلاّ بإِذْنِ اللهِ} أي بتخليته. وقال الحسن: "من شاء الله منعه فلم يضره السحر ومن شاء خلّى بينه وبينه فضره".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولَمَّا قال الله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ} عَلِم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم -وإن كان صفةَ مدح- ففيه غيرُ مرغوبٍ فيه، بل هو مستعاذٌ منه قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعوذ بك من علم لا ينفع".
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. لو علم المغبونُ ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسراتٍ، ولكن سيعلم: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] الذي فاته من الكرائم...
اعلم أن هذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو اشتغالهم بالسحر وإقبالهم عليه ودعاؤهم الناس إليه...
أما قوله: {على ملك سليمان}... الأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم، فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان...
اختلفوا في المراد بملك سليمان... والأصح عندي أن يقال: إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان...
السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه.
(أحدها): أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره وترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم،
(وثانيها): أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر.
(وثالثها): أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسرارا عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم...
أما قوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفرا لا يوجب الكفر، فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر أيضا كفر.
ولمن منع ذلك أن يقول: لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر،
فإن قيل: هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر، فلو كان تعليم السحر كفرا لزم تكفير الملكين، وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضا فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحرا فهو كفر.
قلنا: اللفظ المشترك لا يكون عاما في جميع مسمياته، فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر، وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات، فهذا السحر كفر، والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام...
أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة في السحر، وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد،
وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر، فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله،
ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما لأن الذي لا يكون متصورا امتنع النهي عنه،
وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن، وسادسها: يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم...
قوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}... أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر، لكن ذكر هذه الصورة تنبيها على سائر الصور، فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة، فنبه الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى...
أما قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد} فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر، ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه، فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه...
{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}... فيه مسائل: [منهاكونه] إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه،
أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله،
وثانيها: أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.
وثالثها: أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال...
بقي في الآية سؤال: وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: {ولقد علموا} ثم نفاه عنهم في قوله: {لو كانوا يعلمون} والجواب من وجوه،
أحدها: أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون، وهذا جواب الأخفش وقطرب.
وثانيها: لو سلمنا كون القوم واحدا ولكنهم علموا شيئا وجهلوا شيئا آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها.
وثالثها: لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار: {عميا وبكما وصما} إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس. ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه: صنعت ولم تصنع...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
إن قوله: {يعلمون الناس السحر} نمنع أنه تفسير لقوله:"كفروا"، بل إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر، وإنما يتم المقصود إذا كانت الجملة الثانية مفسرة للأولى، سلمنا أنها مفسرة لها، لكن يتعين حمله على أن ذلك السحر كان مشتملا على الكفر، وكانت الشياطين تعتقد موجب تلك الألفاظ كالنصراني إذا علم المسلم دينه فإنه يعتقد موجبه، وأما الأصولي إذا علم تلميذه المسلم دين النصراني ليرد عليه ويتأمل فساد قواعده فلا يكفر المعلم و ولا المتعلم. وهذا التقييد على وفق القواعد.
وأما جعل التعلم والتعليم مطلقا كفرا فهو خلاف القواعد. ولأن السحر لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه بقدرته على تغيير الأجسام، والجزم بذلك كفر. أو نقول: هو علامة الكفر بإخبار الشرع، فلو قال الشارع: من دخل موضع كذا فهو كافر، اعتقدنا كفر الداخل وإن لم يكن الدخول كفرا، وإن أخبرنا هو أنه مؤمن لم نصدقه.
قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} الاستثناء في هذه الآية واقع في الأسباب، لأن الباء في المستثنى للسببية. وتقدير الكلام: ما هم بضارين بالسحر من أحد إلا بسبب من الأسباب إلا بإذن الله، أي: إلا بقدرة الله تعالى وإرادته. فهذا هو السبب الذي إذا تيسر حصل الضرر بالسحر، وإلا فلا يحصل أصلا. ويكون الاستثناء متصلا لحصول شرائطه، وهي الاستثناء من الجنس، والحكم بالنقيض على ما بعد "إلا". فإن المتقدم قبلها عدم الضرر، وبعدها الضرر إذا حصل السبب المذكور.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{واتبعوا ما تتلوا الشياطين} عطف على نبذ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرأها، أو تتبعها الشياطين من الجن، أو الإنس، أو منهما.
{وما كفر سليمان} تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيا كان معصوما منه.
{يعلمون الناس السحر} إغواء وإضلالا، والجملة حال من الضمير، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس. فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم، وتسميته سحرا عمل التجوز، أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه.
{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} فمعناه
على الأول ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به. وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور، وإنما المنع من اتباعه والعمل به.
وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا.
{لمن اشتراه} أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى، والأظهر أن اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل {ما له في الآخرة من خلاق} نصيب {ولبئس ما شروا به أنفسهم} يحتمل المعنيين على ما مر.
{لو كانوا يعلمون} يتفكرون فيه، أو يعلمون قبحه على التعيين، أو حقية ما يتبعه من العذاب، والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل؛ معناه لو كانوا يعملون بعلمهم، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن [البصري] وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
قال عياض: وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسِّرون في قصَّة هَارُوت ومَارُوت، وما رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما- في خَبَرِهما وابتلائهما، فاعلم -أكرمك اللَّه- أن هذه الأخبار لم يُرْو منها سقيمٌ ولا صحيحٌ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وليس هو شَيْئاً يؤخذ بقياسٍ، والذي منه في القرآن، اختلف المفسِّرون في معناه، وأنكَرَ ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم، كما نصَّه اللَّه أول الآيات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت سنة الله جارية بأنه ما أمات أحد سنة إلا زاد في خذلانه بأن أحيى على يده بدعة، أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء فقال تعالى:
{واتبعوا ما تتلوا} أي تقرأ أو تتبع، وعبر بالمضارع إشارة إلى كثرته وفشوه واستمراره
{سليمان} من السحر الذي هو كفر.
قال الحرالي: من حيث إن حقيقته أمر يبطل بذكر اسم الله ويظهر أثره فيما قصر عليه من التخييل والتمريض ونحوه بالاقتصار به من دون اسم الله الذي هو كفر وكأن السحر كان في تلك الأيام ظاهراً عالياً على ما يفهمه التعبير بعلى، وأحسن من هذا أن يضمن {تتلوا} تكذب، فيكون التقدير: تتلو كذباً على ملكه والحاصل أنهم مع تركهم للكتب المصدقة لما معهم، الكفيلة بكل هدى وبركة، الآتية من عند الله المتحبب إلى عباده بكل جميل، على ألسنة رسله الذين هم أصدق الناس وأنصحهم وأهداهم، لا سيما هذا الكتاب المعجز الذي كانوا يتباشرون بقرب زمن صاحبه، اتبعوا السحر الذي هو أضر الأشياء وأبشعها، الآتي به الشياطين الذين هم أعدى الأعداء وأفظعها، وأعجب ما في ذلك أنهم نسبوا السحر إلى سليمان عليه السلام كذباً وفجوراً وكفروه به ثم كانوا هم أشد الناس تطلباً له ومصاحبة علماً وعملاً وأكثر ما يوجد فيهم، فكانوا بذلك شاهدين على أنفسهم بالكفر؛
ومن المحاسن أيضاً أنه لما كان قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] وما بعده في الكتب والأنبياء والرسل من البشر والملائكة كانت فذلكته أن الكفرة من أهل الكتاب نبذوا ذلك كله ونابذوه وأقبلوا على السحر الذي كان إبطاله من أول معجزات نبيهم وأعظمها؛ فهو أشد شيء منافاة لشرعهم مع علمهم بأن ذلك يضرهم في الدارين ولا ينفعهم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
الخلاصة: أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا: أن اليهود كذبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه. وزعموا أنه كفَر، وهو لم يكفر. ولكن شياطينهم هم الذين كفروا، وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت، اللذين سمَّوْهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير، ويحذرانهم من الكفر. وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين، ويحلون به عقد المتحدين. فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت. والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله، غير الوحي إلى الأنبياء، ونص نصا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم* فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون}، وقال منكرا على من طلب إنزال الملك {وقالوا لولا أنزل عليه ملك* ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون}، وقال في سورة الفرقان: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا –إلى قوله- فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا}.
{وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله} قال الراغب: الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة، ويقال للعلم، ومنه آذنته بكذا، ويقال للأمر الحتم.
وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان:
أحدهما: الإذن لقاصد الفعل في مباشرته. نحو قولك: أذن الله لك أن تصل الرحم.
والثاني: الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله، والترياق في تخليصه من أذيته. فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني، وذلك هو المشار إليه بالقضاء، وعلى هذا يقال: (الأشياء كلها بإذن الله وقضائه) ولا يقال: الأشياء كلها بأمره ورضاه
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(قال الأستاذ الإمام ما مثاله): بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية، ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح. وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله {كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} وكقوله {بلغ مطلع الشمس}.
وهذا الأسلوب مألوف فإننا نرى كثيرا من كتاب العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنية. ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئي...
(قال الأستاذ الإمام): في قوله تعالى {يعلمون الناس السحر} وجهان؛
(أحدهما) أنه متصل بقوله {ولكن الشياطين كفروا} أي إن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
(والثاني) وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وإن الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم. وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم. أي إن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني (يعلمون الناس السحر) الخ، ونفي الكفر عن سليمان. وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض فعلم أيضا أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضا.
وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعليم السحر لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ويضرون به الناس خداعا وتمويها وتلبيسا...
ثم قال {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصة كانوا يتحدثون بها كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو؟ أشعوذة وتخييل؛ أم خواص طبيعية، وتأثيرات نفسية؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز انفرد به القرآن – يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الاعتبار به فينظمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده لذلك الشيء في تفصيله، ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها من يدعي أن السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك مما ذكرناه ولا يستطيع أن يردها من يدعي أنه من خوارق العادات؟ والحكمة في ذلك أن الله عز وجل قد وكل معرفة هذه الحقائق الكونية إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم لأنه من الأمور الكسبية، ولو بين مسائلها بالنص القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب فإننا نرى من الناس من يطعن في كتب الوحي لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم وإن تكن نصا ولا ظاهرا فيه، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفا للعلم وإن كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيا أو فرضيا...
{وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي أنهم ليس لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات فهم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منعوا من القوى والقدر، فإذا اتفق أن أصيب أحد بضرر من أعمالهم فإنما ذلك بإذن الله أي بسبب من الأسباب التي جرت العادة بأن تحصل المسببات من ضر ونفع عند حصولها بإذن الله تعالى. وهذا الحكم التوحيدي هو المقصد الأول من مقاصد الدين فالقرآن لا يترك بيانه عند الحاجة بل يبينه عند كل مناسبة وربما ترد في القرآن قصة مثل هذه القصة لأجل بيان الحق في مسألة اعتقادية كهذه المسألة لأن إيراد الأحكام في سياق الوقائع أوقع في النفس وأعصى على التأويل والتحريف...
ثم قال بعد نفي القوة التي وراء الأسباب عنهم {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يضرهم لأنه سبب في الإضرار بالناس وهو محرم يعاقب الله تعالى عليه في الآخرة ومن عرف بإيذاء الناس يمقته الناس ويكونون عليه.
و [لما] كان بعض الضار من جهة نافعا من جهة أخرى وربما كانت منفعته أكبر من إثمه نفى المنفعة بعد إثبات المضرة، فهذا النفي واجب في قانون البلاغة لا بد منه. وقد صدق الله تعالى فإننا نرى منتحلي السحر وما في معناه أفقر الناس وأحقرهم، ولو عقل السفهاء الذين يختلفون إليهم يلتمسون المنافع لأنفسهم والإيقاع لأعبائهم لعلموا أن الشقي في نفسه لا يمكن أن يهب السعادة لغيره، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. هذه حالهم في الدنيا فكيف يكونون في الآخرة يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. لا جرم أنها تكون سوءى،
واليهود يعلمون ذلك كما قال {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} أي إنهم يعلمون أن من اختار هذا واستبدله بما آتاه الله من أصول الدين الحق وأحكام الشريعة العادلة الموصلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فليس له نصيب في نعيم الآخرة، وذلك أن التوراة قد حظرت تعليم السحر وجعلته كعبادة الأوثان وشددت العقوبة على فاعله وعلى اتباع الجن والشياطين والكهان، ولا ينافي هذا العلم قوله {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فإن العلم علمان – علم تفصيلي متمكن من النفس متسلط على إرادتها يحركها إلى العمل. وعلم إجمالي يلوح في الذهن مبهما عند ما يعرض ما يذكر به ككتاب وإلقاء سؤال، وهو يقبل التحريف والتأويل، وليس له منفذ إلى الإرادة ولا سبيل، فقد كانوا يستحلون أكل السحت كالرشوة والربا بالتأويل كما يفعل غيرهم اليوم وقبل اليوم. ولو كانوا يعلمون حرمة ما ذكر علما تفصيليا يستغرق جميع جزيئات المحرم ويفقهون علة التحريم وسره ويصدقون بما توعد الله مرتكبه من العقوبة في الآخرة تصديقا جازما ويتذكرونه وقت العمل بما للعقيدة من السلطان على الإرادة لما ارتكبوا ما ارتكبوه مع الإصرار عليه، ولكنهم فقدوا هذا النوع من العلم ولم يغن عنهم تصور أن السحر والخداع كلاهما حرام كالربا والرشوة لأن في الكتاب عبارة تدل على ذلك فإن العبارة تحتمل ضروبا من التأويل ككون النهي خاصا بمعاملة شعب إسرائيل وكانوا يقولون (ليس علينا في الأميين سبيل) إذا أكلنا أموالهم بالباطل، وكاشتراط الضرر في السحر مع ادعاء أن ما يأتونه منه نافع غير ضار وغير ذلك...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم...
ثم ذكر مفاسد السحر فقال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما، لأن الله قال في حقهما: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله...
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فهذا السحر مضرة محضة، فليس له داع أصلا، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة، أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ماذا؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم؟؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه؟
كلا.. لا شيء من هذا كله. إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة...
(فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه).. وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان.. وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله).. فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشئ آثارها وتحقق نتائجها.. وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما. وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق. ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله. فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها؛ كما وقع لإبراهيم -عليه السلام- وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، ينشئ هذا الأثر بإذن الله. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها.. وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار.. كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله، فهو يعمل بهذا الإذن، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكن حال السحر أهو حقيقة ثابتة أم هو تخييل وتصوير للأمور بغير صورتها فيخيل إليه أنه يرى؟.
ونقول في الجواب عن ذلك: جاء السحر في القرآن ووصف بأوصاف، نتعرف حقيقته من هذه الأوصاف..
[و] أول وصف جاء من أخبار موسى عليه السلام مع فرعون، فقد قال تعالى في سحر آل فرعون: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116)} [الأعراف] ونرى أنه يتصف بأنه سحر أعين الناس، أي أنهم لم يجعلوا الحبال أفاعي بل إن تأثيره أنه كان في الأعين لا في الوقائع، فتأثيرهم في الرؤية لا في تغيير الحقيقة وتحويلها من حبال إلى ثعابين، وفي سورة طه قال الله تعالى حكاية عنهم عندما التقوا يوم الزينة: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66)} [طه]. ونرى أن السحر تأثير في الأعين المبصرة وليس تغييرا للحقائق الواقعة فلا يكون تغييرا، ولكن يكون تأثيرا في العيون، ولكنه تأثير نفسي قبل أن يؤثر في العين؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من سورة الأعراف {استرهبوهم} أي اتجهوا إلى إلقاء الرهبة في قلوبهم؛ ولذا جاء في سحر بابل أرض السحر أنه لا يؤثر في النفوس إلا بما يسبق إليها من تصديقه...
{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فاليهود كانوا يعلمون ما أنزل على الملكين هاروت وماروت، فهل هما ملكان حقيقيان نزلا لتعليم الناس السحر، أو طرق الوقاية منه، ولا يمكن أن نعرف طرق الوقاية إلا بمعرفة طريقة التأثير. الظاهر أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى سماهما ملكين، ولأن الله تعالى سمى ما كان يقومان به أنزله تعالى عليهما، ولم يبين المدة التي أقاماها في بابل، لتعليم الوقاية منه وإنذار الناس منه، كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وإن نزول الملك للتعليم كما ثبت بنزول جبريل في حديث الإيمان الذي رويناه آنفا. وإننا نسير فيما نكتب في فقه الإسلام وعلم القرآن على أساس أننا لا نعدل عن الظاهر إلا إذا تعذر تحقيق الظاهر، ولا ننتقل منه إلى غيره إلا مهتدين بنص؛ ولذا نرى أنهما ملكان نزلا لبيان السحر في ذاته والتضليل به وطريق الوقاية منه فهما منذران كما قال الإمام علي...
ونحن نقول إن نزوله ليس مستحيلا، والله لم يرد عليهم بأنه مستحيل، ولكن علم أنهم متعنتون، وقد طلبوا غير ذلك، وقالوا في طلبهم آيات أخرى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)} [الإسراء]. فهم طلبوا هذه الآيات الحسية الكونية كما طلبوا أن ينزل ملك بقرطاس من السماء، وذلك كله كفر بالقرآن الذي تحداهم فعجزوا. فهل هذا كله مستحيل أن يأتي الله به، أم أن الله تعالى لا يريد أن يأتي بآية أخرى وهو يعلم أنهم لن يؤمنوا؛ ولهذا نقول إنه لا يوجد دليل على استحالة أن ينزل الله تعالى ملكا إلى الأرض، وقد نزل جبريل عليه السلام في سورة رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإيمان الذي رواه البخاري. لهذا نحن نرى كما ذكرنا أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى ذكر أنهما ملكان، وسماهما وذكر أنه أنزل عليهما، وأنهما كانا يحتاطان في بيان السحر، ويقولان {إنما نحن فتنة فلا تكفر}. كان هذان الملكان غير مضلين للناس، إنما جاءا لإنقاذ الناس من فتنة السحر إذ كانا يعلمان الحيل والتمويهات، وطرق الاستهواء التي أشرنا إليها من قبل آخذين لها من القرآن أدلة، كانا يعلمان الناس ذلك حتى لا يضلوا بالسحر، وقد اشتد ظلامه، وطم سيله
{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة}، أي إن ما نعلمه فتنة يختبر الناس به.
{فلا تكفر}، أي فلا تأخذ به لأنه كفر، وإنما علمناك هذا لتتخذ منه وقاية، ولتحذره، وليكون ذلك إنذارا حتى لا تصدقه بعد ذلك، ولتعلم أنه يضل السحر والساحر...
[و لقد] اتبع اليهود ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر، وأخذوا يعلمونه، وجاء الملكان ليبينا زيفه وطرق التمويه فبدل أن يحذروه تعلموه منهما. وهكذا هم دائما يأخذون من كل شيء ما يضر ويتركون ما ينفع، فهم دائما يأخذون من التحذير طريق الوقوع في المحظور، كما أخذ إخوة يوسف من قول أبيهم يعقوب: {وأخاف أن يأكله الذئب} [يوسف 13]، فقالوا عندما ألقوه في غيابة الجب: أكله الذئب...
ولقد بين سبحانه وتعالى أن اليهود الذين اختاروا السحر على علم الكتاب يتعلمون ما يضرهم ولا نفع فيه فقال تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} والضرر في السحر واضح لأنه يفسد العقول، فالساحر الدائب على السحر، ينتهي سحره بذهاب عقله، فيضطرب وتسارع إليه الوساوس، فلا يكون عنده ميزان عقلي سليم، يدرك منه الحق من الباطل، ويكون في وسواس مستمر، ويضر المجتمع؛ إذ به تفسد القلوب وتضطرب الأفهام، ولا يكون حق واضح، ولقد كان لنا صديق كان يتخذ السحر والتنويم المغناطيسي، وكان عالما رياضيا منظم العقل مستقيم الفكر، فلما أكثر من هذا التنويم الذي هو السحر، اضطربت موازين تقديره، وصار يصدق ما لا يقبل التصديق ويقبل من القول ما لا يصدقه. وآخر كان مؤمنا أشد الإيمان، وأكثر من هذا التنويم الذي هو السحر حتى فسد التقدير عنده، وصار يهرف بقول لا يصدر عن مؤمن عاقل، فيفضل الرسول على رب العالمين...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ينتقل الحديث بعد ذلك إلى وصف ما اشتهر به بنو إسرائيل بين الأمم من إقبال على السحر وتهالك عليه، واستغلال لبسطاء العقول بواسطته، ولا سيما بين مشركي العرب الأميين. ويشير القرآن الكريم إلى أن بني إسرائيل كانوا يذيعون بين الناس أن السحر إنما هو تراث أخذوه عن سليمان عليه السلام، كما كانوا ينسبونه إلى الملكين هاروت وماروت، وقصدهم من ذلك أن يجعلوا للسحر سندا صحيحا مرفوعا إلى الأنبياء ومقام الملائكة جميعا. وهكذا ينفي القرآن الكريم تهمة السحر عن سليمان، كما ينفيها عن الملكين هاروت وماروت، وبذلك يهدم الأساس المزور الذي يبني عليه بنو إسرائيل سحرهم، ويثبت القرآن الكريم في نفس الوقت أن السحر إنما هو في الحقيقة من صنع الشياطين ووحيهم، وأن سند بني إسرائيل من السحر إنما مرده إلى الشياطين وحدهم أولا وأخيرا {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}. أي ما تكذب به الشياطين عليه، وتنسبه إليه.
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وواضح أن كلمة (الشياطين) كما تطلق على شياطين الجن تطلق على شياطين الإنس، على حد قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِئٍ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُمُ إلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً}. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {هَل أنَبِّئُكُم عَلَى من تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلَّ أَفَّاكٍ أثِيمِ، يُلقُونَ السَّمعَ وَأَكثَرُهُم كَاذِبُونَ}...
ومن هذه الآيات الكريمة تتضح للمسلمين أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن تعلم السحر لاستعماله يضر ولا ينفع {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}.
الأمر الثاني: أن عمل السحر واستعماله كفر أو يؤدي إلى الكفر {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ، ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} – {إنَّمَا نَحنُ فِتنَةُ فَلاَ تَكفُر} وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد".
الأمر الثالث: أن الضرر الذي يراد إلحاقه بالمسحور عن طريق السحر لا يتحقق إلا إذا كان أمره قدرا مقدورا {وَمَا هُم بضارين بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}...
يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين.. لأن النبذ يقابله الاتباع.. واتبعوا يعني اقتدوا وجعلوا طريقهم في الاهتداء هو ما تتوله الشياطين على ملك سليمان..
وكان السياق يقتضي أن يقال ما تلته الشياطين على ملك سليمان.. ولكن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن هذا الاتباع مستمر حتى الآن كأنهم لم يحددوا المسألة بزمن معين. إنه حتى هذه اللحظة هناك من اليهود من يتبع ما تلته الشياطين على ملك سليمان، ونظرا لأن المعاصرين من اليهود قد رضوا وأخذوا من فعل أسلافهم الذين اتبعوا الشياطين فكأنهم فعلوا. الحق سبحانه يقول: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} ولكن الشياطين تلت وانتهت.. واستحضار اليهود لما كانت تتلوه الشياطين حتى الآن دليل على أنهم يؤمنون به ويصدقونه..
[و] الشياطين هم العصاة من الجن.. والجن فيهم العاصون والطائعون والمؤمنون.. واقرأ قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً "11 "} (سورة الجن). وقوله سبحانه عن الجن: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} (من الآية 14 سورة الجن). إذن الجن فيهم المؤمن والكافر.. المؤمنون من الجن فيهم الطائع والعاصي.. والشياطين هم مردة الجن المتمردون على منهج الله.. وكل متمرد على منهج الله نسميه شيطانا.. سواء [أكان] من الجن [أم كان] من الإنس.. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} (من الآية 112 سورة الأنعام). إذن فالشياطين هم المتمردون على منهج الله..
{واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}.. يعني ما كانت تتلو الشياطين أيام ملك سليمان...
ما هو السحر؟ الكلمة مشتقة من سحر وهو آخر ساعات الليل وأول طلوع النهار.. حيث يختلط الظلام بالضوء ويصبح كل شيء غير واضح.. هكذا السحر شيء يخيل إليك أنه واقع وهو ليس بواقع.. إنه قائم على شيئين..
سحر العين لترى ما ليس واقعا على أنه حقيقة.. ولكنه لا يغير طبيعة الأشياء.. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في سحرة فرعون: {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيمٍ} (من الآية 116 سورة الأعراف). إذن فالساحر يسيطر على عين المسحور ليرى ما ليس واقعا وما ليس حقيقة.. وتصبح عين المسحور خاضعة لإرادة الساحر.. ولذلك فالسحر تخيل وليس حقيقة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى "66 "} (سورة طه) إذن مادام الله سبحانه وتعالى قال: {يخيل إليه}.. فهي لا تسعى..
إذن فالسحر تخيل.. وما الدليل على أن السحر تخيل؟.. الدليل هو المواجهة التي حدثت بين موسى وسحرة فرعون.. ذلك أن الساحر يسحر أعين الناس ولكن عينيه لا يسحرهما أحد.. حينما جاء السحرة و موسى.. اقرأ قوله سبحانه: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى "65" قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى "66 "} (سورة طه). عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم خيل للموجودين إنها حيات تسعى.. ولكن هل خيل للسحرة إنها حيات؟ طبعا لا.. لأن أحدا لم يسحر أعين السحرة.. ولذلك ظل ما ألقوه في أعينهم حبالا وعصيا.. حين ألقى موسى عصاه واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى" 69 "فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى" 70 "} (سورة طه). هنا تظهر حقيقة السحر.. لماذا سجد السحرة؟ لأن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي حبالا وعصيا.. ذلك أن أحدا لم يسحر أعينهم.. ولكن عندما ألقى موسى عصاه تحولت إلى حية حقيقية.. فعرفوا أن هذا ليس سحرا ولكنها معجزة من الله سبحانه وتعالى لماذا؟ لأن السحر لا يغير طبيعة الأشياء، وهم تأكدوا أن عصا موسى قد تحولت إلى حية.. ولكن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي وإن كان قد خيل إلى الناس أنها تحولت إلى حيات. إذن فالسحر تخيل والساحر يرى الشيء على حقيقته لذلك فإنه لا يخاف.. بينما المسحورون الذين هم الناس يتخيلون أن الشيء قد تغيرت طبيعته.. ولذلك سجد السحرة لأنهم عرفوا أن معجزة موسى ليست سحرا.. ولكنها شيء فوق طاقة البشر. السحر إذن تخيل والشياطين لهم قدرة التشكل بأي صورة من الصور، ونحن لا نستطيع أن ندرك الشيطان على صورته الحقيقية، ولكنه إذا تشكل نستطيع أن نراه في صورة مادية.. فإذا تشكل في صورة إنسان رأيناه إنسانا، وإذا تشكل في صورة حيوان رأيناه حيوانا، وفي هذه الحالة تحكمه الصورة.. فإذا تشكل كإنسان وأطلقت عليه الرصاص مات، وإذا تشكل في صورة حيوان ودهمته بسيارتك مات، ذلك لأنه الصورة تحكمه بقانونها.. وهذا هو السر في إنه لا يبقى في تشكله إلا لمحة ثم يختفي في ثوان.. لماذا؟ لأنه يخشى ممن يراه في هذه الصورة أن يقتله خصوصا أن قانون التشكل يحكمه.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشكل له الشيطان في صورة إنسان قال: {ولقد هممت أن أربطه في سارية المسجد ليتفرج عليه صبيان المدينة ولكني تذكرت قول أخي سليمان: "رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي". فتركته)...
ومن رحمة الله بنا أنه إذا تشكل الشيطان فإن الصورة تحكمه.. وإلا لكانوا فزعونا وجعلونا حياتنا جحيما.. فالله سبحانه وتعالى جعل الكون يقوم على التوازن حتى لا يطغى أحد على أحد.. بمعنى أننا لو كنا في قرية وكلنا لا نملك سلاحا وجد التوازن.. فإذا ملك أحدنا سلاحا وادعى أنه يفعل ذلك ليدافع عن أهل القرية، ثم بعد ذلك استغل السلاح ليسيطر على أهل القرية ويفرض عليهم إتاوات وغير ذلك، يكون التوازن قد اختل وهذا مالا يقبله الله. السحر يؤدي لاختلال التوازن في الكون.. لأن الساحر يستعين بقوة أعلى في عنصرها من الإنسان وهو الشيطان وهو مخلوق من نار خفيف الحركة قادر على التشكل وغير ذلك.. الإنسان عندما يطلب ويتعلم كيف يسخر الجن.. يدعي أنه يفعل ذلك لينشر الخير في الكون، ولكنها ليست حقيقة.. لأن هذا يغريه على الطغيان.. والذي يخل بأمن العالم هو عدم التكافؤ بين الناس.. إنسان يستطيع أن يطغى فإذا لم يقف أمامه المجتمع كله اختل التوازن في المجتمع. والله سبحانه وتعالى يريد تكافؤ الفرص ليحفظ أمن وسلامة الكون.. ولذلك يقول لنا لا تطغو وتستعينوا بالشياطين في الطغيان حتى لا تفسدوا أمن الكون. ولكن الله جل جلاله شاءت حكمته أن يضع في الكون ما يجعل كل مخلوق لا يغتر بذاتيته.. ولا يحسب أنه هو الذي حقق لنفسه العلو في الأرض...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: أن اليهود أخذوا السحر عن الشياطين؛ لقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين}؛ ويدل على هذا أن أحدهم. وهو لبيد بن الأعصم. سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن السحر من أعمال الشياطين؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين]...
ومنها: أن الشياطين كانوا يأتون السحر على عهد سليمان مع قوة سلطانه عليهم؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}...
ومنها: أن سليمان لا يقر ذلك؛ لقوله تعالى: {وما كفر سليمان}؛ إذ لو أقرهم على ذلك. وحاشاه. لكان مُقراً لهم على كفرهم...
ومنها: أن تعلم السحر، وتعليمه كفر؛ وظاهر الآية أنه كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}، وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}؛ وهذا فيما إذا كان السحر عن طريق الشياطين؛ أما إذا كان عن طريق الأدوية، والأعشاب، ونحوها ففيه خلاف بين العلماء.. واختلف العلماء. رحمهم الله. هل تقبل توبته، أو لا؟ والراجح أنها تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل؛ أما قتله فيرجع فيه إلى القواعد الشرعية، وما يقتضيه اجتهاد الحاكم...
ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد ييسر أسباب المعصية فتنةً للناس. أي ابتلاءً.، وامتحاناً؛ لقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة}؛ فإياك إياك إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تفعلها؛ واذكر قصة بني إسرائيل حين حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت. أعني صيد البحر.؛ فلم يصبروا حتى تحيلوا على صيدها يوم السبت؛ فقال لهم الله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]؛ واذكر قصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين ابتلاهم الله عز وجل وهم محرِمون بالصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ فلم يُقدم أحد منهم عليه حتى يتبين لك حكمة الله. تبارك وتعالى. في تيسير أسباب المعصية؛ ليبلوَ الصابر من غيره...
ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان أن ينصح للناس. وإن أوجب ذلك إعراضهم عنه.؛ لقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما فتنة فلا تكفر}؛ فإذا كانت عندك سلعة رديئة، وأراد أحد شراءها يجب عليك أن تُحذِّره...
ومنها: أنّ من عِظم السحر أن يكون أثره التفريق بين المرء، وزوجه؛ لقوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}؛ لأنه من أعظم الأمور المحبوبة إلى الشياطين، كما ثبت في الحديث الصحيح أن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول:"نِعْم أنت"؛ وفيه سحر مقابل لهذا: وهو الربط بين المرء، وزوجه؛ حتى إنه. والعياذ بالله. يُبتلى بالهيام؛ فلا يستطيع أن يعيش. ولا لحظة. إلا وزوجته أمامه؛ وبعضهم يقضي عليه هذا الأمر. نسأل الله العافية...
ومن فوائد الآية: أن الأسباب. وإن عظمت. لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل؛ لقوله تعالى: (وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله)
ومنها: أن قدرة الله عز وجل فوق الأسباب؛ وأنه مهما وجدت الأسباب. والله لم يأذن. فإن ذلك لا يؤثر؛ وهذا لا يوجب لنا أن لا نفعل الأسباب؛ لأن الأصل أن الأسباب مؤثرة بإذن الله...
ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي اللجوء إلى الله دائماً؛ لقوله تعالى: {إلا بإذن الله}؛ فإذا علمت أن كل شيء بإذن الله فإذاً تلجأ إليه سبحانه وتعالى في جلب المنافع، ودفع المضار...
. ومنها: أنّ تعلم السحر ضرر محض، ولا خير فيه؛ لقوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم}؛ فأثبت ضرره، ونفى نفعه...
ومنها: أن كفر الساحر كفر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} يعني: من نصيب؛ وليس هناك أحد ليس له نصيب في الآخرة إلا الكفار؛ فالمؤمن مهما عذب فإن له نصيباً من الآخرة...
ومنها: أن هؤلاء اليهود تعلموا السحر عن علم؛ لقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}...
ومنها: إثبات الجزاء، وأنه من جنس العمل؛ فإن الكافر لما لم يجعل لله نصيباً في دنياه لم يجعل الله له نصيباً من الآخرة...
ومنها: ذم هؤلاء اليهود بما اختاروه لأنفسهم؛ لقوله تعالى: (ولبئس ما شروا به أنفسهم).
ومنها: أن صاحب العلم الذي يَنتفِع بعلمه هو الذي يحذر مثل هذه الأمور؛ لقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} يعني: لو كانوا ذوي علم نافع ما اشتروا هذا العلم الذي يضرهم، ولا ينفعهم؛ والذي علموا: أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق.