ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم بعد موتهم ، وعند قيام الساعة ، فقال : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } . .
والغدو : أول النهار . والعشى : آخره . وجملة : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا . . } بدل من قوله - تعالى - { سواء العذاب } . بعرض أرواح فرعون وملئه على النار بعد موتهم وهم فى قبورهم فى الصباح والمساء ، { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } يقال الملائكة العذاب : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } وهو عذاب جهنم وبئس المصير مصيرهم .
قال القرطبى : والجمهور على أن هذا العرض فى البرزخ واحتج بعض أهل العلم فى تثبيت عذاب القبر بقوله - تعالى - : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ما دامت الدنيا . .
قال مجاهد وغيره : هذه الآية تدل على عذاب القبر فى الدنيا ألا تراه يقول - سبحانه - عن عذاب الآخرة : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب }
وفى الحديث عن ابن مسعود : إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار ، تعرض على النار بالغداة والعشى ، فيقال : هذه داركم . .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة ، يرى أن القرآن قد ساق على لسان مؤمن آل فرعون ، أسمى الأساليب وأحكمها فى الدعوة إلى الحق ، فقد بدأ نصحه بنهى قومه عن قتل موسى - عليه السلام - ثم ذكرهم بنعم الله عليهم ، وبسوء عاقبة الظالمين ، وبأن نعيم الدنيا زائل ، أما نعيم الآخرة فباق ، وبأن ما يدعوهم إليه هو الحق ، وبأن ما يدعونه إليه هو الباطل .
ثم ختم تلك النصائح الغالية بتفويض أمره إلى الله فقال : { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } فكانت نتيجة هذا التفويض ، أن وقاه الله - تعالى - من سوء مكر أعدائه ، ونجاه من شرورهم ، وأن جعل مكرهم السيئ يحيق بهم .
( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً . ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) .
والنص يلهم أن عرضهم على النار غدواً وعشياً ، هو في الفترة من بعد الموت إلى قيام الساعة . وقد يكون هذا هو عذاب القبر . إذ أنه يقول بعد هذا : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . . فهو إذن عذاب قبل يوم القيامة . وهو عذاب سيئ . عرض على النار في الصباح وفي المساء . إما للتعذيب برؤيتها وتوقع لذعها وحرها - وهو عذاب شديد - وإما لمزاولتها فعلاً . فكثيراً ما يستعمل لفظ العرض للمس والمزاولة . وهذه أدهى . . ثم إذا كان يوم القيامة أدخلوا أشد العذاب !
وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور ، وهي قوله : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } .
ولكن هاهنا سؤال ، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية ، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم - هو ابن القاسم أبو النضر - حدثنا إسحاق بن سعيد {[25515]} - هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص - حدثنا سعيد - يعني أباه - عن عائشة ؛ أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية : وقاك الله عذاب القبر . قالت : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ فقلت : يا رسول الله ، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال : " لا وعم ذلك ؟ " قالت : هذه اليهودية ، لا نصنع إليها شيئا من المعروف إلا قالت : وقاك الله عذاب القبر . قال : " كذبت يهود{[25516]} . وهم على الله أكذب ، لا عذاب دون يوم القيامة " . ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث ، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه ، محمرة عيناه ، وهو ينادي بأعلى صوته : " القبر كقطع الليل المظلم أيها الناس ، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلا . أيها الناس ، استعيذوا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق " {[25517]} .
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، ولم يخرجاه .
وروى أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - قال : سألتها امرأة يهودية فأعطتها ، فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر . فأنكرت عائشة ذلك ، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له ، فقال : " لا " . قالت عائشة : ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : " وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم " .
وهذا أيضا على شرطهما{[25518]} .
فيقال : فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية ، وفيها الدليل على عذاب البرزخ ؟ والجواب : أن الآية دلت على عرض الأرواح إلى النار غدوا وعشيا في البرزخ ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور ، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح ، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه بسببه ، فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها .
وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب ، ومما يدل على هذا ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود ، وهي تقول : أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم ؟ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إنما يفتن يهود " قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ؟ " وقالت عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر .
وهكذا رواه مسلم ، عن هارون بن سعيد وحرملة ، كلاهما عن ابن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري ، به{[25519]} .
وقد يقال : إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها ، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيّته استعاذ منه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد روى البخاري من حديث شعبة ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن أبيه ، عن مسروق ، عن عائشة{[25520]} ، رضي الله عنها ، أن يهودية دخلت عليها فقالت : أعاذك الله من عذاب القبر{[25521]} . فسألت عائشة {[25522]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر ؟ فقال : " نعم عذاب القبر حق " . قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر {[25523]} .
فهذا يدل على أنه بادر إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر ، وقرر عليه . وفي الأخبار المتقدمة : أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي ، فلعلهما قضيتان ، والله أعلم ، وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا .
وقال قتادة في قوله : { غُدُوًّا وَعَشِيًّا } صباحا ومساء ، ما بقيت الدنيا ، يقال لهم : يا آل فرعون ، هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصَغَارا لهم .
وقال ابن زيد : هم فيها اليوم يُغدَى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا ليث ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن هذيل ، عن عبد الله بن مسعود{[25524]} ، رضي الله عنه ، قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا ، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت ، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها ، فذلك عرضها .
وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهُزَيل ابن شرحبيل ، من كلامه في أرواح آل فرعون . وكذلك قال السدي .
وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : " ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله ، رجالٌ كلُّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، مصفدون على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا . { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وآل فرعون كالإبل المسومة{[25525]} يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون " {[25526]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا زيد بن أخْرَم ، حدثنا عامر بن مُدْرِك الحارثي ، حدثنا عتبة - يعني ابن يقظان - عن قيس بن مسلم ، عن طارق ، عن {[25527]} شهاب ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله " . قال : قلنا : يا رسول الله ما إثابة الكافر ؟ فقال : " إن كان قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة ، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك " . قلنا : فما إثابته في الآخرة ؟ قال : " عذابا دون العذاب " وقرأ : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } ورواه البزار في مسنده ، عن زيد بن أخْرَم ، ثم قال : لا نعلم له إسنادًا غير هذا {[25528]} .
وقال ابن جرير : حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال : سمعت{[25529]} الأوزاعي وسأله رجل فقال : رحمك الله . رأينا طيورًا تخرج من البحر ، تأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلا الله ، عز وجل ، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا . قال : وفطنتم إلى ذلك ؟ قال : نعم . قال : إن تلك{[25530]} الطير في حواصلها أرواح آل فرعون ، تعرض على النار غدوا وعشيا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت ريَاشُها وصارت سودا ، فينبت عليها من الليل ريش أبيض ، ويتناثر السود ، ثم تغدو على النار غدوا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكورها . فذلك دأبهم في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } قال : وكانوا
يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل {[25531]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر{[25532]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار . فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله ، عز وجل ، إلى يوم القيامة " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به {[25533]} .
{ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } جملة مستأنفة أو { النار } خبر محذوف و { يعرضون } استئناف للبيان ، أو بدل و { يعرضون } حال منها ، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره { يعرضون } مثل يصلون ، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به ، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة ، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأييد ، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر . { ويوم تقوم الساعة } أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم : { أدخلوا آل فرعون } يا آل فرعون . { أشد العذاب } عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه ، أو أشد عذاب جهنم . وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص { أدخلوا } على أمر الملائكة بإدخالهم النار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{النار يعرضون عليها} وذلك أن أرواح آل فرعون، وروح كل كافر تعرض على منازلها كل يوم مرتين.
ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة فقال: {ويوم تقوم الساعة} يعني القيامة يقال: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} يعني أشد عذاب المشركين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مبينا عن سوء العذاب الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله "النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها "إنهم لها هلكوا وغرّقهم الله... أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوّا وعشيّا...
وقوله: "وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدّ العَذَابِ" اختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والعراق سوى عاصم وأبي عمرو "وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ" بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى: الأمر بإدخالهم النار... وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو: «وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا» بوصل الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ، وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على الساعة... معنى الكلام على قراءته: ادخلو يا آل فرعون أشدّ العذاب.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فمعنى الكلام إذن: ويوم تقوم الساعة يقال لآل فرعون: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب، فهذا على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع، ومعناه على القراءة الأخرى، ويوم تقوم الساعة يقول الله لملائكته "أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدّ العَذَابِ".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{النار} بدل من سوء العذاب. أو خبر مبتدأ محذوف، كأن قائلاً قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار. أو مبتدأ خبره {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها، وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به... وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها، ويجوز أن ينتصب على الاختصاص {غُدُوّاً وَعَشِيّاً} في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فأمّا أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم. ويجوز أن يكون {غُدُوّاً وَعَشِيّاً}: عبارة عن الدوام، هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم: {أَدْخُلُواْ} يا {ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ} عذاب جهنم. وقرئ: «أَدخِلوا آل فرعون» أي: يقال لخزنة جهنم: أدخِلوهم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الجمهور على أن هذا العرض في البرزخ. وخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة).
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كان عليهم في هذا العرض زيادة نكد فوق ما ورد عاماً مما روى مالك والشيخان وغيرهم عن أن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة".
ولعل زيادة النكد أنهم هم المعروضون، فيذهب بهم في الأغلال يساقون لينظروا ما أعد الله لهم، وعامة الناس يقتصر في ذلك على أن يكشف لهم -وهو في محالّهم- عن مقاعدهم، ففي ذلك زيادة إهانة لهم،
وهو مثل: عرض الأمير فلاناً على السيف إذا أراد قتله، هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة {ويوم تقوم الساعة} يقال لهم: {ادخلوا آل} أي يا آل
{فرعون} هو نفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به، وجعله نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص فعل أمر من الإدخال، فالتقدير: نقول لبعض جنودنا: أدخلوا آله لأجل ضلالهم به اليوم {أشد العذاب} وإذا كان هذا لآله لأجله كان له أعظم منه من باب الأولى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
العرض حقيقته: إظهار شيء لمن يراه؛ لترغيب أو لتحذير، وهو يتعدّى إلى الشيء المظْهَر بنفسه وإلى من يُظهَر لأجله بحرف (على)، وهذا يقتضي أن المعروض عليه لا يكون إلا من يَعقل ومنزّلاً منزلة من يعقل، وقد يقلب هذا الاستعمال لقصد المبالغة كقول العرب « عرضتُ الناقةَ على الحوض»، وحقه: عرضت الحوض على الناقة، وهو الاستعمال الذي في هذه الآية وقوله في سورة الأحقاف (20) {ويوم يعرض الذين كفروا على النار} وقد عدَّ علماء المعاني القلب من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ومثلوا له بقول العرب: عرضت الناقة على الحوض. واختلفوا في عدّه من أفانين الكلام البليغ فعدّه منها أبو عبيدة والفارسي والسكاكي ولم يقبله الجمهور، وقال القزويني: إن تضمن اعتباراً لطيفاً قُبِل وإلاّ رُدّ.
وعندي أن الاستعمالين على مقتضى الظاهر وأن العَرض قد كثر في معنى الإمرار دون قصد الترغيب كما يقال: عُرض الجيش على أميره واستعرضه الأمير، ولعلّ أصله مجاز ساوى الحقيقة فليس في الآيتين قلب ولا في قول العرب: عرضت الناقة على الحوض قَلب.
ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تُشاهِد المواضع التي أعدت لها في جهنم، وهو ما يبينه حديث عبد الله بن عُمر في « الصحيح» قال: قال رسول الله:"إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقْعَدُه بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثَك الله يوم القيامة".
{غُدُوّاً وعَشِيّاً} كناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو عن هاذين الوقتين.
{ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة أدْخِلوا ءالَ فِرْعون أشدَّ العَذَابِ} هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد، أي يُقال: أَدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ويعقوب {أدخلوا} بهمزة قطع وكسر الخاء. وقرأ الباقون بهمزة وصل وضم الخاء، على معنى أن القول مُوجّه إلى آل فرعون وأن {ءَالَ فِرْعَونَ} منادى بحذف الحرف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلاّ أنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ الله تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشد إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها، حيث قوله تعالى: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً) ثم: (ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب)...
أوّلا: مؤمن آل فرعون والدرس العظيم في مواجهة الطواغيت:
إنّ القليل من الناس يؤمنون بالأديان الإلهية والمذاهب السماوية في بداية الأمر، ويقومون بتحدي الجبابرة والطواغيت، وإذا توجست هذه القلّة المخلصة خوفاً من أعدائها، أو أنّها شكت بأنّ كثرة دليل على حقانيتهم، فلن يكون بمقدور الأديان الإلهية أن تمتد وتنتشر في الدنيا.
لقد كان مؤمن آل فرعون نموذجاً لهذه المدرسة، وكان من الأوائل في هذا الطريق، وأثبت أنّ الإنسان المؤمن يستطيع بعزمه وإرادته القوية ـ النابعة من إيمانه بالله تعالى ـ التأثير حتى في إرادة الفراعنة الجبابرة؛ بل وأن يوفّر سبل النجاة لنبي كبير من أنبياء أولي العزم.
إنّ تأريخ حياة هذا الرجل الشجاع الذكي، يثبت ضرورة أن تكون خطوات أهل الدعوة والحق على غاية قصوى من الدقة والحذر، إذ يجب أحياناً التكتم على الإيمان وإخفاء القناعات الحقة؛ كما يجب في أحيان اُخرى الجهر بدعوة الحق وإظهار الإيمان...
وكما يعتبر التسلّح بالسلاح المادي الظاهري من ضرورات المنعة وأسباب دحر العدو كذلك فإنّ المنطق القوي والحجّة البالغة هي سلاح ضروري قد يعادل في تأثيره السلاح المادي عدة مرّات، لذا فإنّ العمل الذي قام به (مؤمن آل فرعون) بواسطة منطقه وقوة حجته وحكمة تصرفه لم يكن ليعادله أي سلاح آخر، ثم إنّ قصة هذا الرجل المؤمن تظهر أنّ الله جلّ وعلا لا يترك عباده المؤمنين وحيدين، بل يحميهم بلطفه عن الأخطار...
ثانياً: تفويض الأمور إلى الله فيما يخص التفويض إلى الله تبارك وتعالى.
«التفويض» كما يقول الراغب في مفرداته، يعني «التوكل، لذا فإنّ تفويض الأمر إلى الله يأتي بمعنى توكيل الأعمال إليه، إلا أنّ حقيقة (التوكل) هي أن يعتبر الإنسان الله تبارك وتعالى وكيلا عنه، لكن التفويض يعني التسليم المطلق لله تعالى فلا يبقى أي مجال لإشراف من أي نوع.