{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات ، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة . بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف ، لأن هذا من الباطل وليس من الحق .
ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع ، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يقتل الإنسان نفسه . ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة ، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود .
وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله : " لا يأكل بعضكم مال بعض " و " لا يقتل بعضكم بعضًا " مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط .
مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد ، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية .
ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم ، على الآكل ، ومن أخذ ماله ، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات ، وأنواع الحرف والإجارات ، فقال : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي : فإنها مباحة لكم .
وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة ، بل مخالف لمقصودها ، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا .
ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما ، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه ، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار ، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده .
وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل ، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد . ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها .
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال ، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهم ومظاهر فضله - سبحانه - بعباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . كَرِيماً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ( 31 )
المراد بالأكل فى قوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ } مطلق الأخذ الذى يشمل سائر التصرفات التى نهى الله عنها .
وخص الأكل بالذكر ؛ لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل .
والباطل : اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغضب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة .
والمعنى . يأيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع ، ولا يرتضيها الدين ، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا فى الأموال التى تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها فى وجوه المعاصى التى نهى الله عنها ؛ فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذى آمنتم به .
وناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهو عنه .
وفى قوله { أَمْوَالَكُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال هى نعمة من الله لنا ، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطة التى لا تبيحها شريعة الله .
وفى قوله { بَيْنَكُمْ } إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن تتصرفوا فى أموالكم بالطرق المحرمة ، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم ؛ لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه .
والتجارة : اسم يقع على عقود المعارضات التى يقصد بها طلب الربح . وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك ؛ لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها .
أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا " .
وكلمة { تِجَارَةً } قرأها عاصم وحمزة والكسائى بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة ، واسم كان ضمير يعود عل الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض منكم . وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى : إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم .
وقوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { تِجَارَةً } ولفظ { عَن } للمجاوزة أى : إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم .
والتراضى : هو الرضا من الجانبين بما بدل عليه من لفظ أو عرف ، وهو أساس العقود بصفة عامة ، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة ، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا .
قال بعضهم : وحقيقة التراضى لا يعلمها إلى الله - تعالى - والمراد هنا أمارته . كالإِيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به . وقد قال - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } فدل ذلك على أن مجرد التراضى هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان ، وبأى إشارة مفيدة حصل .
وقال الآلوسى : والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه فى حال المبايعة وقت الإِيجاب والقبول عندنا . وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضى : التخيير بعد البيع . . .
هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضى بين المتعاقدين ، ولكن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الشارع قد حرم المتاجرة فى أشياء معينة حتى ولو تم التراضى بين المتعاقدين بين المتعاقدين فيها ، وذلك مثل المتاجرة فى الخمر والميتة ولحم الخنزير ، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات .
وقوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } معطوف على ما قبله .
وللعلماء فى تأويله اتجاهات : فمنهم من يرى أن معناه : ولا يقتل بعضكم بعضا ، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم . والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة فى الزجر عن هذا الفعل ، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل .
وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازى فقد قال : اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا . وإنما قال : { أَنْفُسَكُمْ } لقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون كنفس واحدة " ولأن العرب يقولون :
قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم يجرى مجرى قتلهم .
ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإِنسان لنفسه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه فى يده يتحساه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يجأ - أى يطعن - بها فى بطنه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً " .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال : أتى النبى صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص - أى سهام عراض واحدها مشقص - فلم يصل عليه .
ومنهم من يرى أن معناه : لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصى التى نهى الله عنها ، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم ، وذهاب ريحكم ، وتمزق وحدتكم ، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها ، وذهاب ريحها .
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإِمام ابن كثير فقد قال : وقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } أى بارتكاب محارم الله - وتعاطى معاصيه ، وأكل أموالكم بينكم بالباطل .
والذى نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات ، فهى تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه ، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره ، وهى أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى هلاكه .
وقدم - سبحانه - النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثانى أخطر ، للإِشعار بالتدريج فى النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم فى أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم فى القتل .
وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات ، وما أباحه من مباحات ، إنما هو من باب الرحمة بالناس ، وعدم المشقة عليهم . فالله - تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو فى قدرتهم واستطاعتهم .
وهذه الآية الكريمة أصل عظيم فى حرمة الأموال والأنفس . ولقد أكد النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فى خطبته فى حجة الوداع حيث قال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا " .
والفقرة الثانية في هذا الدرس ، تتناول جانبًا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم ، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب ؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة ؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيرًا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام ، لتصفية هذا النظام ، وتخصيص الميراث بالأقارب ؛ ومنع عقود الولاء الجديدة :
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارًا . وكان ذلك على الله يسيرًا . إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ؛ وندخلكم مدخلا كريمًا . ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ، وأسالوا الله من فضله ، إن الله كان بكل شيء عليمًا . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
إنها حلقة في سلسلة التربية ، وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان ؛ أو متداخلان ؛ أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية ؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية ؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر ؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع ، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع ؛ وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معًا - إلى ربط القلب بالله ، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية ، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .
وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس ؛ وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة ، ومس النار ! . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير ، والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض ، والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء . وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا ، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن ، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليمًا . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء ، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوبًا بأن الله كان على كل شيء شهيدًا . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع ، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان ، وتكوينه النفسي ، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .
( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيمًا . ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا ، وكان ذلك على الله يسيرًا ) .
النداء للذين آمنوا ، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : يا أيها الذين آمنوا . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله ؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيدًا للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري :
( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) . .
وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : ( إنما البيع مثل الربا ) . . ورد الله عليهم في الآية نفسها : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) . . فقد كان المرابون يغالطون ، وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا !
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير ؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك ؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معًا . وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .
والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة ؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات ! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال ؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي ؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام ؛ كما حكم عليه الإسلام !
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة ، هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعًا كما يقول النحويون !
( ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيما ) . .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل ؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة ؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها !
وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين ! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار !
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس ؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات !
نهى{[7167]} تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما - قال : هو الذي قال الله عز وجل : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود الأودي عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله [ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ] {[7168]} قال : إنها [ كلمة ]{[7169]} محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف{[7170]} للناس{[7171]} ! فأنزل الله بعد ذلك : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] الآية ، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ]{[7172]} .
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }{[7173]} قرئ : تجارة بالرفع وبالنصب ، وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر{[7174]} المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال . كما قال [ الله ]{[7175]} تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 151 ] ، وكقوله { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [ الدخان : 56 ] .
ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ]{[7176]} على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول ؛ لأنه يدل على التراضي نَصا ، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد ، وخالف{[7177]} الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقَّرات ، وفيما يعده الناس بيعا ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم .
قال مجاهد : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } بيعا{[7178]} أو عطاء يعطيه أحد أحدًا . ورواه ابن جرير [ ثم ]{[7179]} قال :
وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن{[7180]} سليمان الجُعْفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش{[7181]} مسلمًا " . هذا حديث مرسل{[7182]} .
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا " وفي لفظ البخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " {[7183]} .
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي ، وأحمد [ بن حنبل ]{[7184]} وأصحابهما ، وجمهورُ السلف والخلف . ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ]{[7185]} بحسب ما يتبين فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك ، رحمه الله . وصححوا{[7186]} بيع المعاطاة مطلقا ، وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب .
وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي : فيما أمركم به ، ونهاكم عنه .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن{[7187]} بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمْران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ ! " قال : قلت يا رسول الله{[7188]} إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت{[7189]} أن أهلكَ ، فذكرت{[7190]} قول الله [ عز وجل ]{[7191]} { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به . ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عنه ، فذكر نحوه . وهذا ، والله أعلم ، أشبه بالصواب{[7192]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عُبَيد{[7193]} عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفْتُ أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ] }{[7194]} قال : فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم{[7195]} .
ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مُتَرد{[7196]} في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " .
وهذا الحديث{[7197]} ثابت في الصحيحين{[7198]} وكذلك رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وعن أبي قِلابة ، عن ثابت بن الضحاك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة{[7199]} وفي الصحيحين من حديث الحسن ، عن{[7200]} جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان رَجُلٌ ممن{[7201]} كان قبلكم وكان به جُرْح ، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ ، قال الله عز وجل : عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه ، حرَّمت{[7202]} عليه الْجَنَّة " {[7203]} . ولهذا قال الله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا }
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } صَدّقوا الله ورسوله ، { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ } يقول : لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار ، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها ، إلا أن تكون تجارة . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ ، إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم } نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم ، إلا أن تكون تجارة ، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا خالد الطحان ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ } قال : الرجل يشتري السلعة ، فيردّها ويردّ معها درهما .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بعد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب ، فيقول : إن رضيته أخذته ، وإلا رددته ورددت معه درهما ، قال : هو الذي قال الله : { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء ، فأما قِرًى فإنه كان محظورا بهذه الاَية ، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور : { لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَلا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا في قوله : { لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضِ مِنْكُمْ } . . . الاَية ، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الاَية ، فنسخ ذلك بالاَية التي في سورة النور ، فقال : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتَكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أوْ بُيُوتِ أُمّهاتِكُمْ » . . . إلى قوله : { جَمِيعا أوْ أشْتاتا } فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجل من أهله إلى الطعام ، فيقول : إني لأتجنح والتجنح : التحرّج ويقول : المساكين أحقّ مني به . فأحلّ من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحلّ طعام أهل الكتاب .
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي : وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل ، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا ، فإن الله لم يحلّ قَطّ أكل الأموال بالباطل ، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال : كان ذلك نهيا عن أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له ، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الأمة جميعا وجها لها أن قرى الضيف ، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام ، التي حمد الله أهلها عليه وندبهم إليها ، وإن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور ، بل ندب الله عباده ، وحثهم عليه ، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الأكل بالباطل خارج ، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل ، لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ ، ولم يثبت النهي عنه ، فيجوز أن يكون منسوخا بالإباحة . وإذ كان ذلك كذلك ، صحّ القول الذي قلناه ، من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به ، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وشذّ ما خالفه .
واختلفت القراء في قراءة قوله : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فقرأها بعضهم : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجاَرةٌ } رفعا بمعنى : إلا أن توجد تجارة ، أو تقع تجارة عن تراض منكم ، فيحلّ لكم أكلها حينئذٍ بذلك المعنى . ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه «أن تكون » تامة ههنا لا حاجة بها إلى خبر على ما وصفت¹ وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة . وقرأ ذلك آخرون ، وهم عامة قراء الكوفيين : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً } نصبا ، بمعنى : إلا أن تكون الأمْوَلُ التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم ، فيحل لكم هنالك أكلها ، فتكون الأموال مضمرة في قوله : { إلاّ أنْ تَكُونَ } والتجارة منصوبة على الخبر . وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما ، لاستفاضتهما في قراءة الأمصار مع تقارب معانيهما . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إليّ من قراءته بالرفع ، لقوّة النصب من وجهين : أحدهما : أنّ في تكون ذكرا من الأموال¹ والاَخر : أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة ، كان فصيحا في كلام العرب النصب ، إذ كانت مبنية على اسم وخبر ، فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة نصبوا ورفعوا ، كما قال الشاعر :
*** إذَا كانَ طَعْنا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقا ***
ففي هذه الاَية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات ، والله تعالى يقول : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } : اكتسابا أحلّ ذلك لها . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُون تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ } قال : التجارة رزق من رزق الله ، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرّها ، وقد كنا نحدّث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة .
وأما قوله : { عَنْ تَراضٍ } فإن معناه كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن سليمان الجعفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البَيْعُ عَنْ تَراضٍ ، وَالخيارُ بَعْدَ الصّفْقَةِ ، وَلا يَحِلّ لُمسْلمٍ أنْ يَغُشّ مُسْلِما » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : المماسحة بيع هي ؟ قال : لا ، حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع ، إن شاء أخذ وإن شاء ترك .
واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة ، فقال بعضهم : هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه ، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنى أبي ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح قال : اختصم رجلان ، باع أحدهما من الاَخر بُرْنُسا ، فقال : إني بعت من هذا برنسا ، فاسترضيته فلم يرضني . فقال : أرضه كما أرضاك ! قال : إني قد أعطيته دراهم ولم يرض . قال : أرضه كما أرضاك ! قال : قد أرضيته فلم يرض . فقال : البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، عن شريح ، قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن شريج ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن جابر ، قال : ثنى أبو الضحى ، عن شريح أنه قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا . قال : قال أبو الضحى : كان شريح يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
وحدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام ، عن رجل ، عن أبي حوشب ، عن ميمون ، قال : اشتريت من ابن سيرين سابريّا فسام عليّ سَوْمَة ، فقلت : أحسن ! فقال : إما أن تأخذ وإما أن تدع . فأخذت منه ، فلما زنت الثمن وضع الدراهم ، فقال : اختر إما الدراهم وإما المتاع ! فاخترت المتاع فأخذته .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين : إنهما بالخيار ما لم يتفرّقا ، فإذا تصادر فقد وجب البيع .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا سفيان بن دينار ، عن طيسلة ، قال : كنت في السوق ، وعليّ رضي الله عنه في السوق ، فجاءته جارية إلى بَيّعِ فاكهة بدرهم ، فقالت : أعطني هذا ! فأعطاها إياه . فقالت : لا أريده أعطني درهمي ! فأبي ، فأخذه منه عليّ فأعطاها إياه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذونا ووجب له ، ثم إن المبتاع ردّه قبل أن يتفرّقا ، فقضى أنه قد وجب عليه . فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا قضى في مثله أن يرده على صاحبه ، فرجع الشعبي إلى قضاء شريح .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح ، أنه كان يقول في البيعين : إذا ادعى المشترى أنه قد أوجب له البيع ، وقال البائع : لم أوجب له ، قال شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير ، وإلا فيمين البائع : أنكما ( ما ) افترقتما عن بيع ولا تخاير .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : كان شريح يقول : شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير ، وإلا فيمينه بالله ما تفرّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح أنه كان يقول : شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «كُلّ بَيّعَيْنِ فَلا بَيْعَ بَيْنَهُما حتى يَتَفَرّقا إلاّ أنْ يَكُونَ خِيارا » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : ثنى يحيى بن أيوب ، قال : كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً يقو له : خيّرني ! ثم يقول : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَفْتَرِقُ اثْنانِ إلاّ عَنْ رِضا » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أهْلَ البَقِيعِ ! » فسمعوا صوته ، ثم قال : «يا أهْلَ البَقِيعِ ! » فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته ، ثم قال : «يا أهْلَ البَقِيعِ لا يَتَفَرّقَنّ بَيّعانِ إلاّ عَنْ رِضا » .
حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ ، قال : حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بايع رجلاً ثم قال له : «اخْتَرْ ! » فقال : قد اخترت ، فقال : «هَكَذَا البَيْعُ » .
قالوا : فالتجارة عن تراض هو ما كان على بينه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما ، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق ، أو ما تفرّقا عنه بأبدانهما ، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما ، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما .
وقال آخرون : بل التراضي في التجارة تواحب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه ، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا ، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده .
وعلة من قال هذه المقالة : أن البيع إنما هو بالقول ، كما أن النكاح بالقول ، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه ، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما ، الذي جرى ذلك فيه قالوا : فكذلك حكم البيع . وتأوّلوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «البَيّعانِ بالخيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا » على أنه ما لم يتفرقا بالقول . وومن قال هذه المقالة مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ومحمد .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين : ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما ، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه¹ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البَيّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا ، أوْ يَكُونَ بَيْعُ خِيارٍ » وربما قال : «أوْ يَقُولُ أحَدُهُما للاَخَرِ اخْتَرْ » .
فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر ، من أن يكون قبل عقد البيع ، أو معه ، أو بعده . فإن يكن قبله ، فذلك الخلف من الكلام الذي اختر ، من أن يكون قبل عقد البيع ، أو معه ، أو بعده . فإن يكن قبله ، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له ، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه ، ما لم يكن له مالكا ، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم ، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه ، فيقال له : أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء . أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع ، ومعنى التخيير في تلك الحال ، نظير معنى التخيير قبلها ، لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه ، فيكون للتخيير وجه مفهوم . أو يكون ذلك بعد عقد البيع ، إذا فسد هذان المعنيان . وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن المعنى الاَخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعني قوله : «ما لَمْ يَتَفَرَقّا » إنما هو التفرّق بعد عقد البيع ، كما كان التخيير بعده ، وإذا صحّ ذلك ، فسد قول من زعم أن معنى ذلك : إنما هو التفرّق بالقول الذي به يكون البيع . وإذا فسد ذلك صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده ، وصحّ تأويل من قال : معنى قوله : { إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم ، وافترقتم عنها ، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم ، أو يخير بعضكم بعضا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ إنّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيما } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } ولا يقتل بعضكم بعضا ، وأنتم أهل ملة واحدة ، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جلّ ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض ، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه ، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ } يقول : أهلَ ملتكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } قال : قتل بعضكم بعضا .
وأما قوله جل ثناؤه : { إنّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيما } فإنه يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه ، ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون ، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها ، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل ، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه ، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلاً وسلبا وغصبا .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } .
استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة . وعلامة الاستئناف افتتاحه ب { يا أيّها الذين آمنوا } ، ومناسبته لما قبله أنّ أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحقّ في المال حقّه ، كقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] وقوله : { فآتوهن أجورهن فريضة } [ النساء : 24 ] وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } [ النساء : 4 ] الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس .
وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعاً تامّا ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة . وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] وقوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد { بالباطل } ونحوه .
والضمير المرفوع ب ( تأكلوا ) ، والضمير المضاف إليه أموال : راجعان إلى { الذين آمنوا } ، وظاهر أنّ المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلاً ، فالمعنى : لا يأكل بعضهم مال بعض .
والباطل ضدّ الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه ، والباء فيه للملابسة .
والاستثناء في قوله : { إلا أن تكون تجارة } منقطع ، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى : لكنْ كونُ التجارة غيرُ منهي عنه . وموقع المنقطع هنا بَيِّن جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمولُ الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيدُ الاستدراكُ حصراً ، ولذلك فهو مقتضى الحال . ويجوز أن يجعل قيد { الباطل } في حالة الاستثناء مُلغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلاً ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأياماً كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدُّ أنواع أكل الأموال شَبَها بالباطل ، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوِضين عوضاً عمّا بذَله للآخر مساوياً لقيمته في نظره يُطيَّب نفسَه . وأمّا التجارة فلأجْل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائداً على قيمة ما بذله للمشتري قد تُشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء . وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية ، ولولا تصدّي التجّار وجلبُهم السلعَ لما وَجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج . ويشير إلى هذا ما في « الموطأ » عن عمر بن الخطاب أنّه قال : في احتكار الطعام « ولكنْ أيُّما جالب جلب على عَمُود كَبِدِه في الشتاء والصيف فذلك ضيفُ عُمَر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء » .
وقرأ الجمهور : { إلا أن تكون تجارة } برفع تجارة على أنّه فاعل لكانَ مِن كان التامّة ، أي تَقَعَ . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلَف بنصب تجارة على أنّه خبر كان الناقصة ، وتقدير اسمها : إلاّ أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة .
وقوله : { عن تراض منكم } صفة ل ( تجارة ) ، و ( عن ) فيه للمجاوزة ، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليه من لفظ أو عرف . وفي الآية ما يصلح أن يكون مستنداً لقول مالك من نفي خِيار المجلس : لأنّ الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي ، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول .
وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحلّ مالُ امرىء مسلم إلاّ عن طيب نَفس " . وفي خطبة حجّة الوداع " إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام " . وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس ، مع أنّ الثاني أخطر ، إمّا لأنّ مناسبة ما قبله أفْضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحقّ التقديم لذلك ، وإمّا لأنّ المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية ، وكان أكل الأموال أسهل عليهم ، وهم أشدّ استخفافاً به منهم بقتللِ الأنفس ، لأنّه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يَدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأةِ والزوجة . فآكِل أموال هؤلاء في مأمَن من التبِعات بخلاف قتل النفس ، فإنّ تبعاته لا يسلم منها أحد ، وإن بلغ من الشجاعة والعزّة في قومه كلّ مبلغ ، ولا أمنع من كُلَيْب وائل ، لأنّ القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها .
{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }
قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } نهي عن أن يقتل الرجل غيرَه ، فالضميرانِ فيه على التوزيع ، إذ قد عُلم أنّ أحداً لا يقتل نفسَه فيُنهى عن ذلك ، وقَتْل الرجل نفسه داخل في النهي ، لأنّ الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله ، أمّا أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسَه فلا . وأمّا ما في « مسند أبي داود » : أنّ عَمرو بن العاص رضي الله عنه تيمّم في يوم شديد البَرْد ولم يغتسل ، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، وبلَغ ذلك رسولَ الله ، فسأله وقال : يا رسول الله إنّ الله يقولُ : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير ( تقتلوا ) دون خصوص السبب .