المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

33- ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله قتلها إلا قتلا يكون للحق ، بأن تكون النفس مستحقة للقتل قصاصاً أو عقوبة ، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لأقرب قرابته سلطاناً على القاتل بطلب القصاص من القاضي ، فلا يجاوز الحد في القتل ، بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل اثنين بواحد ، فإن الله نصره وأوجب له القصاص والدية ، فلا يصح أن يتجاوز الحد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

{ 33 } { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا }

وهذا شامل لكل نفس { حَرَّمَ اللَّهُ } قتلها من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد ومسلم وكافر له عهد .

{ إِلَّا بِالْحَقِّ } كالنفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة والباغي في حال بغيه إذا لم يندفع إلا بالقتل .

{ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا } أي : بغير حق { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ } وهو أقرب عصباته وورثته إليه { سُلْطَانًا } أي : حجة ظاهرة على القصاص من القاتل ، وجعلنا له أيضا تسلطا قدريا على ذلك ، وذلك حين تجتمع الشروط الموجبة للقصاص كالعمد العدوان والمكافأة .

{ فَلَا يُسْرِفْ } الولي { فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } والإسراف مجاوزة الحد إما أن يمثل بالقاتل أو يقتله بغير ما قتل به أو يقتل غير القاتل .

وفي هذه الآية دليل إلى أن الحق في القتل للولي فلا يقتص إلا بإذنه وإن عفا سقط القصاص .

وأن ولي المقتول يعينه الله على القاتل ومن أعانه حتى يتمكن من قتله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . } .

فهذه وإن كانت فواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية ، يميل إليها الإِنسان بشهوته . بل هى فى نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإِنسان فى نفسه مرارة ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها ، أو فى حكم الكاره . . .

وقوله : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } تعليل للنهى عن الاقتراب منه ، أى : ابتعدوا عن مقدمات الزنا فضلا عن الوقوع فيه ذاته ، لأنه كان - وما زال - فى شرع الله ، وفى نظر كل عقل سليم فعلة فاحشة ظاهرة القبح وبئس الطريق طريقه ، فإنها طريق تؤدى إلى غضب الله - تعالى - وسخطه .

ومما لا شك فيه أن فاحشة الزنا من أقبح الفواحش التى تؤدى إلى شيوع الفساد والأمراض الخبيثة فى الأفراد والمجتمعات ، وما وجدت فى أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا .

ولقد تحدث الإِمام الرازى عن تلك المفاسد التى تترتب على الزنا فقال ما ملخصه :

الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد ، أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإِنسان أن الولد الذى أتت به الزانية ، أهو منه أو من غيره . . .

وثانيا : أنه إذا لم يوجد سبب شرعى لأجله يكون هذا الرجل لتلك المرأة ، لم يبق فى حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل .

وثالثها : أن المرأة إذا باشرت الزنا ، استقذرها كل طبع سليم ، وحينئذ لا تحل الألفة والمحبة ، ولا يتم السكن والازدواج . .

ورابعها : أنه إذا فتح باب الزنا ، فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وحينئذ لا يبقى بين نوع الإِنسان ، وبين سائر البهائم فرق فى هذا الباب .

وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل فى ترتيب المنزل وإعداد مهماته . . وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطمع عن سائر الرجال ، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا .

. . فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضى على الزنا بالقبح .

ولقد سد الإِسلام جميع المنافذ التى تؤدى إلى ارتكاب هذه الفاحشة ، وسلك لذلك وسائل من أهمها :

1- تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء إلا فى حدود الضرورة الشرعية ، ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ، ما رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم " .

" وروى الشيخان - أيضا - عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والدخول على النساء " . فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو - بفتح الحاء وسكون الميم - وهو قريب الزوج كأخيه وابن عمه فقال صلى الله عليه وسلم : " الحمو الموت " " أى : دخوله قد يؤدى إلى الموت .

2- تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية . ووجوب غض البصر .

قال - تعالى - : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ . . } وقال - سبحانه - : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ . . } وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة : العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام . . . والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " .

3- وجوب التستر والاحتشام للمرأة ؛ فإن التبرج والسفور يغرى الرجال بالنساء ، ويحرك الغريزة الجنسية بينهما .

قال - تعالى - : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ . . } 4- الحض على الزواج ، وتيسير وسائله ، والبعد عن التغالى فى نفقاته ، وتخفيف مؤنه وتكاليفه . . فإن الزواج من شأنه أن يحصن الإِنسان ، ويجعله يقضى شهوته فى الحلال . .

فإذا لم يستطع الشاب الزواج ، فعليه بالصوم فإنه له وقاية - كما جاء فى الحديث الشريف - .

5- إقامة حدود الله بحزم وشدة على الزناة سواء أكانوا من الرجال أم من النساء ، كما قال - تعالى - : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } وهذا الجلد إنما هو بالنسبة للبكر ذكرا كان أو أنثى ، أما بالنسبة للمحصن وهو المتزوج أو الذى سبق له الزواج ، فعقوبته الرجم ذكرا كان أو أنثى ، وقد ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة .

" ففى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى زان لم يتزوج وزانية متزوجة ، بقوله لوالد الرجل : " على ابنك مائة جلدة وتغريب عام " ثم قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه واسمه أنيس : " اغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها " .

ومما لا شك أنه لو تم تنفيذ حدود الله - تعالى - على الزناة ، لمحقت هذه الفاحشة محقا ، لأن الشخص إن لم يتركها خوفا من ربه - عز وجل - لتركها خوفا من تلك العقوبة الرادعة ، ومن فضيحته على رءوس الأشهاد .

هذه بعض وسائل الوقاية من تلك الفاحشة القبيحة ، ولو اتبعها المسلمون ، لطهرت أمتهم من رجسها ، ولحفظت فى دينها ودنياها .

ثم نهى - سبحانه - عن قتل النفس المعصومة الدم ، بعد نهيه عن قتل الأولاد ، وعن الاقتراب من فاحشة الزنا فقال - تعالى - : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } .

أى : ولا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلها ، إلا بالحق الذى يبيح قتلها شرعا ، كردة ، أو قصاص ، أو زنا يوجب الرجم .

قال الإِمام ابن كثير : يقول - تعالى - ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعى ، كما ثبت فى الصحيحين - عن عبد الله بن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزانى المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .

وفى السنن : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم " .

وقوله : { إلا بالحق } متعلق بلا تقتلوا ، والباء للسببية ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أى : لا تقتلوها فى حال من الأحوال ، إلا فى حال ارتكابها لما يوجب قتلها .

وذلك : لأن الإِسلام ينظر إلى وجود الإِنسان على أنه بناء بناه الله - تعالى - فلا يحل لأحد أن يهدمه إلا بحق .

وبهذا يقرر الإِسلام عصمة الدم الإِنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة ، فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا . قال - تعالى - : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً . . } وقوله - سبحانه - : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } إرشاد لولى المقتول إلى سلوك طريق العدل عند المطالبة بحقه .

والمراد بوليه : من يلى أمر المقتول ، كأبيه وابنه وأخيه وغيرهم من أقاربه الذين لهم الحق فى المطالبة بدمه . فإن لم يكن للمقتول ولى ، فالحاكم وليه .

والمراد بالسلطان : القوة التى منحتها شريعة الله - تعالى - لولى المقتول على القاتل ، حيث جعلت من حق هذا الولى المطالبة بالقصاص من القاتل ، أو أخذ الدية منه ، أو العفو عنه ، ولا يستطيع أحد أن ينازعه فى هذا الحق ، أو أن يجبره على التنازل عنه .

والمعنى : ومن قتل مظلوما ، أى : بدون سبب يوجب قتله ، فإن دمه لم يذهب هدرا ، فقد شرعنا { لوليه سلطانا } على القاتل ، لأنه - أى الولى - إن شاء طالب بالقصاص منه ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء عفا عنه . وبذلك يصير الولى هو صاحب الكلمة الأولى فى التصرف فى القاتل ، حتى لكأنه مملوك له .

وما دامت شريعة الله - تعالى - قد أعطت الولى هذا السلطان على القاتل ، فعليه أن لا يسرف فى القتل ، وأن لا يتجاوز ما شرعه الله - تعالى - .

ومن مظاهر هذا التجاوز : أن يقتل اثنين - مثلا - فى مقابل قتيل واحد أو أن يقتل غير القاتل ، أو أن يمثل بالقاتل بعد قتله .

قال الآلوسى ما ملخصه : كان من عادتهم فى الجاهلية ، أنهم إذا قتل منهم واحدا ، قتلوا قاتله ، وقتلوا معه غيره . . .

وأخرج البيهقى فى سننه عن زيد بن أسلم أنه قال : إن الناس فى الجاهلية كانوا إذا قتل من ليس شريفا شريفا ، لم يقتلوه به ، وقتلوا شريفا من قومه ، فنهوا عن ذلك ، كما نهوا عن المثلة بالقاتل .

وقرأ حمزة والكسائى : { فلا تسرف } بالخطاب للولى على سبيل الالتفات .

وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } تذييل المقصود به تعليل النهى عن الإِسراف فى القتل . والضمير يعود إلى الولى - أيضا - .

أى : فلا يسرف هذا الولى فى القتل ، لأن الله - تعالى - قد نصره عن طريق ما شرعه له من سلطان عظيم ، من مظاهره : المطالبة بالقصاص من القاتل ، أو بأخذ الدية ، ومن مظاهره - أيضا - وقوف الحاكم وغيره إلى جانبه حتى يستوفى حقه من القاتل ، دون أن ينازعه منازع فى هذا الحق .

ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { إنه } يعود إلى المقتول ظلما ، على معنى : أن الله - تعالى - قد نصره فى الدنيا بمشروعية القصاص والدية حتى لا يضيع دمه ، ونصره فى الآخرة بالثواب الذى يستحقه ، وما دام الأمر كذلك فعلى وليه أن لا يسرف فى القتل .

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب . لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .

قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك : وأشبه ذلك بالصواب عندى ، قول من قال : عنى بها - أى بالهاء فى إنه - الولى ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ووليه المقتول ، وهى إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور - أيضا - لأن الله - جل ثناؤه - قضى فى كتابه المنزل ، أن سلطه على قاتل وليه ، وحكمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ، واستبقاءه على الدية إن أحب ، والعفو عنه إن رأى . وكفى بذلك نصرة له من الله - تعالى - ، فلذلك هو المعنى بالهاء التى فى قوله { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } .

والمتأمل فى هذه الآية الكريمة التى هى أول آية نزلت فى شأن القتل كما قال الضحاك : يراها قد عالجت هذه الجريمة علاجا حكيما .

فهى أولا : تنهى عن القتل ، لأنه من أكبر الكبائر التى تؤدى إلى غضب الله - تعالى - وسخطه ، قال - تعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .

وجاء النهى عنه فى بعض الآيات بعد النهى عن الإِشراك بالله - عز وجل - . قال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . } كما جاء النهى عنه فى كثير من الأحاديث النبوية ، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن ابن مسعود - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء " .

وفى حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم : " الآدمى بنيان الرب ، ملعون من هدم بنيان الرب " .

وفى حديث ثالث : " لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله فى النار " .

وهذا النهى الشديد عن قتل النفس من أسبابه ، أنه يؤدى إلى شيوع الغل والبغض والتقاتل . . . بين الأفراد والجماعات ؛ إذ النفس البشرية فى كل زمان ومكان ، يؤلمها ، ويثير غضبها وانتقامها ، أن ترى قاتل عزيز لديها يمشى على الأرض . .

وهى ثانيا : تسوق لولى المقتول من التوجيهات الحكيمة ، ما يهدئ نفسه ، ويقلل من غضبه ، ويطفئ من نار ثورته المشتعلة .

وقد أجاد صاحب الظلال - رحمه الله - فى توضيح هذا المعنى فقال :

" وفى تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وتجنيد الحاكم لنصرته ، تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذى تستشعره نفس الولى ، الغليان الذى قد يجرفه ويدفعه غلى الضرب يمينا وشمالا ، فى حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل . وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ، ونفسه تسكن ، ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ " .

والإِنسان إنسان ، فلا يطالب بغير ما ركب فى فطرته من الرغبة العميقة فى القصاص . لذلك يعترف الإِسلام بهذه الفطرة ويلبيها فى الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ، ويحبب فيه ، ويأجر عليه ، ولكن بعد أن يعطى الحق . فلولى الدم أن يقتص أو يصفح .

وشعور ولى الدم بأنه قادر على كليهما ، قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ، ويدفع به إلى الغلو والجموح .

هذا ، والذى نعتقده وندين الله - تعالى - عليه ، أنه لا علاج لجريمة القتل - وغيرها - إلا بتطبيق شريعة الله - تعالى - التى جمعت بين الرحمة والعدل .

وبالرحمة والعدل : تتلاقى القلوب بعد التفرق ، وتلتئم بعد التصدع ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

22

ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق :

( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصورا ) . .

والإسلام دين الحياة ودين السلام ، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله ، فالله واهب الحياة ، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها . وكل نفس هي حرم لا يمس ، وحرام إلا بالحق ، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه ، وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى . وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال : " لا يحل دم امرى ء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .

فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس ( ولكم في القصاص حياة ) . حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء . وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل ، بل يمضوا في الثأر ، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء . وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص ، فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة .

وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة ، وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه .

وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة ، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها ، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة . والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه ، ودخل في جسم الجماعة المسلمة ، واطلع على أسرارها ، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها . ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام . بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين . وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة .

( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصورا ) . .

تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل ، فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب ، فقد جعل الله لوليه - وهو أقرب عاصب إليه - سلطانا على القاتل ، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية ، وإن شاء عفا عنه بلا دية . فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل ، لأن دمه له .

وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه . والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم - كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل - ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل ، والولي مسلط على دمه بلا مثلة . فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها .

( فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) يقضي له الله ، ويؤيده الشرع ، وينصره الحاكم . فليكن عادلا في قصاصه ، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه .

وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي . الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل ، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادى ء .

والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص . لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه ، ويأجر عليه . ولكن بعد أن يعطي الحق . فلولي الدم أن يقتص أو يصفح . وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

يقول تعالى ناهيًا عن قتل النفس بغير حق شرعي ، كما ثبت في الصحيحين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " {[17474]} .

وفي السنن : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم{[17475]} " .

وقوله : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } أي : سلطة على القاتل ، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَودًا ، وإن شاء عفا عنه على الدية ، وإن شاء عفا عنه مجانًا ، كما ثبتت السنة بذلك . وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة ، وأنه سيملك ؛ لأنه كان ولي عثمان ، وقد قتل عثمان مظلومًا ، رضي الله عنه ، وكان معاوية يطالب عليًا ، رضي الله عنه ، أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم ؛ لأنه أموي ، وكان علي ، رضي الله عنه ، يستمهله في الأمر{[17476]} حتى يتمكن ويفعل ذلك ، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى{[17477]} معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة ، وأبى أن يبايع عليًا هو وأهل الشام ، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه كما تفاءل{[17478]} ابن عباس واستنبط من هذه الآية الكريمة . وهذا من الأمر العجب وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال :

حدثنا يحيى بن عبد الباقي ، حدثنا أبو عمير بن النحاس ، حدثنا ضَمْرَةُ بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوراق ، عن زَهْدَم الجَرْمي قال : كنا في سمر ابن عباس فقال : إني محدثكم حديثا ليس بسر ولا علانية ؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان - يعني عثمان - قلت لعلي : اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج ، فعصاني ، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية ، وذلك أن الله تعالى يقول : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } الآية{[17479]} وليحملنكم{[17480]} قريش على سنة فارس والروم وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس ، فمن أخذ منكم يومئذ بما يُعْرَف نجا ، ومن ترك وأنتم تاركون ، كنتم كقرن من القرون ، هلك فيمن هلك{[17481]} .

وقوله [ تعالى ]{[17482]} { فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } قالوا : معناه : فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل .

وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } أي أن الولي منصور على القاتل شرعًا ، وغالبًا قدرًا .


[17474]:صحيح البخاري برقم (6878) وصحيح مسلم برقم (1676) من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه.
[17475]:في أ: "المسلم".
[17476]:في ت: "الأمور".
[17477]:في ف: "فأبى".
[17478]:في ت، ف، أ: "قال".
[17479]:في ت، ف، أ: (إنه كان منصورا) "
[17480]:في ت: "يتحملنكم".
[17481]:المعجم الكبير (10/320) وقال الهيثمي في المجمع (7/235): "وفيه من لم أعرفهم".
[17482]:زيادة من ت.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

القول في تأويل قوله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً } .

يقول جل ثناؤه : وقضى أيضا أن لا تَقْتُلُوا أيها الناس النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ قتلها إلاّ بالحَقّ وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قود نفس ، وإن كانت كافرة لم يتقدّم كفرها إسلام ، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَلا تقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وإنا والله ما نعلم بحلّ دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث ، إلا رجلاً قتل متعمدا ، فعليه القَوَد ، أو زَنى بعد إحصانه فعليه الرجم أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهريّ ، عن عُروة أو غيره ، قال : قيل لأبي بكر : أتقتل من يرى أن لا يؤدي الزكاة ، قال : لو منعوني شيئا مما أقروا به لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم . فقيل لأبي بكر : أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا : لا إلَه إلاّ اللّهُ ، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنّي دِماءهُمْ وأمْوالُهم إلاّ بِحَقّها ، وحِسابُهُمْ عَلى اللّهِ » فقال أبو بكر : هذا من حقها .

حدثني موسى بن سهل ، قال : حدثنا عمرو بن هاشم ، قال : حدثنا سليمان بن حيان ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النّاسِ حتى يقُولُوا لا إلَه إلاّ اللّهُ ، فإذَا قالُوها عَصمُوا مِنّى دِماءهُمْ وأمْوالهُمْ إلاّ بِحَقّها وحِسابُهمْ عَلى اللّهِ » قيل : وما حقها ؟ قال : «زِنا بَعْد إحْصانٍ ، وكُفْرٌ بَعْد إيمَانٍ ، وقَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِها » .

وقوله : ومَنْ قُتِل مَظْلُوما يقول : ومن قتل بغير المعاني التي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلاً بحقّ فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا يقول : فقد جعلنا لوليّ المقتول ظلما سلطانا على قاتل وليه ، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه ، وإن شاء عفا عنه ، وإن شاء أخذ الدية .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى السلطان الذي جُعل لوليّ المقتول ، فقال بعضهم في ذلك ، نحو الذي قُلنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ولا تَقْتَلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَمَنْ قُتِل مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لوليّه سُلْطانا قال : بيّنة من الله عزّ وجلّ أنزلها يطلبها وليّ المقتول ، العَقْل ، أو القَوَد ، وذلك السلطان .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن جُويبر ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا قال : إن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية .

وقال آخرون : بل ذلك السلطان : هو القتل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ قُتِل مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا وهو القَوَد الذي جعله الله تعالى .

وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك : أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس ، من أن لوليّ القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء العفو ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة : «ألا وَمن قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُو بِخَيْرِ النّظَريْنِ بينِ أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة » وقد بيّنت الحكم في ذلك في كتابنا : كتاب الجراح .

وقوله : فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفة : «فلا تُسْرِفْ » بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به هو والأئمة من بعده ، يقول : فلا تقتل بالمقتول ظُلْما غير قاتله ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلاً عمد وليّ القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل ، فقتله بوليه ، وترك القاتل ، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده ، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام : قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف ، فلا تقتل به غير قاتله ، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثّل به . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة : فَلا يُسْرِفْ بالياء ، بمعنى فلا يسرف وليّ المقتول ، فيقتل غير قاتل وليه . وقد قيل : عنى به : فلا يسرف القاتل الأول لأولي المقتول .

والصواب من

القول في ذلك عندي ، أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهى في أحكام الدين ، قضاء منه بذلك على جميع عباده ، وكذلك أمره ونهيه بعضهم ، أمر منه ونهى جميعهم ، إلا فيما دلّ فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض ، فإذا كان ذلك كذلك بما قد بيّنا في كتابنا ( كتاب البيان ، عن أصول الأحكام ) فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان موجّها إليه أنه معنّى به جميع عباده ، فكذلك نهيه وليّ المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل ، والتعدّي فيه نهى لجميعهم ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك نحو اختلاف القرّاء في قراءتهم إياه . ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن طلق بن حبيب ، في قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا تقتل غير قاتله ، ولا تمثّل به .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير . عن منصور ، عن طلق بن حبيب ، بنحوه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا تقتل اثنين بواحد .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ إنّهُ كان مَنْصُورا كان هذا بمكة ، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم بها ، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تبارك وتعالى : من قتلكم من المشركين ، فلا يحملنّكم قتله إياكم عن أن تقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا من عشيرته ، وإن كانوا مشركين ، فلا تقتلوا إلا قاتلكم وهذا قبل أن تنزل براءة ، وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين ، فذلك قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ يقول : لا تقتل غير قاتلك ، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين ، لا يحلّ لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم . ذكر من قال : عُنِي وليّ المقتول :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا قال : كان الرجل يُقتل فيقول وليه : لا أرضى حتى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبيلته .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا تقتل غير قاتلك ، ولا تمثّل به .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا يقتل غير قاتله من قَتَل بحديدة قُتل بحديدة ومن قَتَل بخشبة قُتِل بخشبة ومن قَتل بحجر قُتل بحجر . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إنّ منْ أعْتَى النّاسِ على اللّهِ جَلّ ثَناؤُهُ ثَلاَثَةً : رَجُلٌ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ فِي الجاهِلِيّةِ ، أوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللّهِ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته ، يعني ابن زيد ، يقول في قول الله جلّ ثناؤه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيّهِ سُلْطانا قال : إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتيل ، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم ، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله ، فقال الله جلّ ثناؤه فَقَدْ جَعَلَنا لِوَلِيّهِ سُلْطانا ينصره وينتصف من حقه فلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ يقتل بريئا . ذكر من قال عُنِي به القاتل :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ قال : لا يسرف القاتل في القتل .

وقد ذكرنا الصواب من القراءة في ذلك عندنا ، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابا ، فكذلك جميع أوجه تأويله التي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب ، لاحتمال الكلام ذلك وإن في نهي الله جلّ ثناؤه بعض خلقه عن الإسراف في القتل ، نهى منه جميعَهم عنه .

وأما قوله : إنّهُ كانَ مَنْصُورا فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُنِي بالهاء التي في قوله إنّهُ وعلى ما هي عائدة ، فقال بعضهم : هي عائدة على وليّ المقتول ، وهو المعنيّ بها ، وهو المنصور على القاتل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إنّهُ كانَ مَنْصُورا قال : هو دفع الإمام إليه ، يعني إلى الوليّ ، فإن شاء قتل ، وإن شاء عفا .

وقال آخرون : بل عُنِي بها المقتول ، فعلى هذا القول هي عائدة على «مَن » في قوله : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد إنّهُ كانَ مَنْصُورا إن المقتول كان منصورا .

وقال آخرون : عُنِي بها دم المقتول ، وقالوا : معنى الكلام : إن دم القتيل كان منصورا على القاتل .

وأشبه ذلك بالصواب عندي . قول من قال عُنِي بها الوليّ ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ، ووليه المقتول ، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور أيضا ، لأن الله جلّ ثناؤه قضى في كتابه المنزل ، أن سلّطه على قاتل وليه ، وحكّمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ، واستبقاءه على الدية إن أحبّ ، والعفو عنه إن رأى ، وكفى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه ، فلذلك قلنا : هو المعنيّ بالهاء التي في قوله : إنّهُ كانَ مَنْصُورا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

{ ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق } إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان : وزنا بعد إحصان ، وقتل مؤمن معصوم عمدا . { ومن قُتل مظلوما } غير مستوجب للقتل . { فقد جعلنا لوليّه } للذي يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث . { سلطانا } تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه ، أو بالقصاص على القاتل فإن قوله تعالى { مظلوما } بدل على أن القتل عمدا عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلما . { فلا يُسرف } أي القاتل . { في القتل } بأن يقتل من لا يستحق قتله ، فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة ، أو قتل غير القاتل ويؤيد الأول قراءة أبي " فلا تسرفوا " . وقرأ حمزة والكسائي " فلا تسرف " على خطاب أحدهما . { إنه كان منصورا } علة النهي على الاستئناف والضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب ، وإما لوليه فإن الله تعالى نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته ، وإما للذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص أو التعزيز والوزر على المسرف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

وقوله { ولا تقتلوا } وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا } [ الإسراء : 23 ] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في { النفس } هي للجنس ، و { الحق } الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله : «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى »{[7547]} .

قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى : { مظلوماً } نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و «الولي » القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و «السلطان » الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قال ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : «السلطان » القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف » بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة : رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بدخن الجاهلية ، أو قتل في حرم الله »{[7548]} ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فلا يسرف } القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل » بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل .

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية{[7549]} ، «فلا يسرفُ » بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط .

قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً{[7550]} ، والضمير في قوله { إنه } عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام : » ونصر المظلوم وإبرار القسم{[7551]} « ، وكقوله » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً{[7552]} « ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية .


[7547]:أخرجه البخاري في تفسير المائدة، وفي الديات، وأخرجه مسلم وأبو داود في الحدود، والنسائي في التحريم، وابن ماجه في الحدود، وأحمد في مسنده (1-61)، ولفظه كما جاء في مسند أحمد، عن أبي أمامة بن سهل قال: كنا مع عثمان رضي الله عنه وهو محصور في الدار، فدخل مدخلا كان إذا دخله يسمع كلامه من على البلاط، قال: فدخل ذلك المدخل وخرج إلينا فقال: إنهم يتوعدوني بالقتل آنفا، قال: قلنا يكفيكم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلونني؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا فيقتل بها)، فوالله ما أحببت أن لي بدلا منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا قتلت نفسا، فيم يقتلونني؟
[7548]:الحديث أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، والدخن: الفساد والاختلاف.
[7549]:هو أبو مسلم الخرساني، عبد الرحمن بن مسلم، اتصل في شبابه بإبراهيم بن الإمام محمد (من بني العباس)، فأرسله إلى خراسان داعية، فأقام فيها واستعمل أهلها، ثم وثب على والي نيسابور (علي بن الكرماني) فقتله واستولى على نيسابور، ثم سير جيشا لمقاتلة مروان ابن محمد آخر ملوك بني أمية، فلما هزمت جيوش مروان فر إلى مصر، وقتل هناك، وصفا الجو للسفاح العباسي، فلما مات خلفه أخوه المنصور الذي خاف من أبي مسلم فقتله، وكان أبو مسلم فصيحا بالعربية والفارسية، فارسا، داهية، حازما، كان أسمر قصير القامة، رقيق= =البشرة، حلو المعشر، وهو صاحب الفضل في قيام الدولة العباسية. وفي هامش النسخة التونسية بالخط الكبير أمام قوله: أبو مسلم السراج عنوان كبير يقول: أبو مسلم الخراساني، وقال الزمخشري: "أبو مسلم صاحب الدولة".
[7550]:قال أبو حيان في (البحر المحيط): "الأولى حمل قوله: (إن ولي المقتول) على التفسير لا على القراءة؛ لمخالفته السواد، ولأن المستفيض عنه {إنه كان منصورا} كقراءة الجماعة.
[7551]:أخرج هذا الحديث البخاري في الجنائز والنكاح والأشربة والأدب والاستئذان، وأخرجه مسلم في اللباس، والترمذي في الأدب، والنسائي في الإيمان، وأحمد في مسنده (4 – 284، 299) ، ولفظه كما في كتاب الجنائز في البخاري، عن البراء رضي الله عنه قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، نهانا عن سبع، أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير والديباج والقسي والإستبرق، (القسي: نوع من الحرير).
[7552]:ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: كيف أنصره ظالما؟ قال: أخرجه أحمد، والبخاري والترمذي، وهو عن أنس رضي الله عنه، ثم رمز له بالصحة، ثم ذكر رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه، أخرجها الدارمي وابن عساكر، ورمز لها السيوطي بالحسن، ولفظها: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، إن يك ظالما فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوما فانصره).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية . ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة . وهذه هي الوصية التاسعة .

والنفس هنا الذات كقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وقوله : { أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] وقوله : { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] . وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة .

والقتل : الإماتة بفعل فاعل ، أي إزالة الحياة عن الذات .

وقوله : { حرم الله } حُذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير . والتقدير : حرمها الله . وعلق التحريم بعين النفس ، والمقصود تحريم قتلها .

ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهوراً من قبلِ هذا النهي ، إما لأنه تقرر من قبلُ بآيات أخرى نَزلت قبل هذه الآية وقبلَ آية الأنعام حكماً مفرقاً وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام ، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضاً بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه ، تنويهاً بهذا الحكم . وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمرُ به الأرض ، كما قال تعالى : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] ، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه ، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام ، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله ، أي عُرفت بمضمون هذه الصلة .

واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق ، أي الذي يشهد الحق أن نفساً معينة استحقت الإعدام من المجتمع ، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القَود على وجه الإجمال .

ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعاراً بأن سيَكون في الأمة قضاء وحُكم فيما يستقبل أبقي مجملاً حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد ، مثل آية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إلى قوله : { وأعد له عذاباً عظيماً } [ النساء : 92 93 ] .

فالباء في قوله : { بالحق } للمصاحبة ، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء ، أي إلا قتلاً ملابساً للحق .

والحق بمعنى العدل ، أو بمعنى الاستحقاق ، أي حَق القتل ، كما في الحديث : » " فإذا قالوها ( أي لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " .

ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولاً إلى من لهم تعيين الحقوق .

ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل ، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا : { ومن قتل مظلوماً } الآية .

وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلاً للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة ، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلماً أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلِم ، فقال : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي قد جَعل لولي المقتول تصرفاً في القاتل بالقود أو الدية .

والسلطان : مصدر من السلطة كالغُفران ، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود .

وكونه حقاً لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أوْ يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجْن يداه قتلاً . وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد ، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضاً .

فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهلَ الجاهلية من عادة القود .

والقود من جملة المستثنى بقوله : { إلا بالحق } ، لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق . وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية ، فأمر الله المسلمين بقبول القود . وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي ، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره ، وتلك عادة جاهلية . قال الشميذر الحارثي :

فلسنا كمن كنتم تصيبون سَلّة *** فنقبَلَ ضيماً أو نحكم قاضيــــا

ولكن حكم السيف فينا مسلط *** فنرضَى إذا ما أصبح السيف راضيا

فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالاً سيئاً يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود ، ولذلك قال : { فلا يسرف في القتل } .

والسرف : الزيادة على ما يقتضيه الحق ، وليس خاصاً بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة . فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل ، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المُهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب :

كل قتيل في كليب غُرّة *** حتى يعُمّ القتلُ آلَ مُرّة

وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل . وكانوا يتكايلون الدماء ، أي يجعلون كيلها متفاوتاً بحسب شرف القتيل ، كما قالت كبشة بنتُ معديكرب :

فيقتلَ جَبْرا بامرىءٍ لم يكن له *** بَواءً ولكن لا تكايُل بالدم

البواء : الكفء في الدم . تريد فيقتلَ القاتلَ وهو المسمّى جبراً ، وإن لم يكن كفؤاً لعبد الله أخيها ، ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم .

وضمير { يسرف } بياء الغيبة ، في قراءة الجمهور ، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بتاء الخطاب أي خطاب للولي .

وجملة { إنه كان منصوراً } استئناف ، أي أن ولي المقتول كان منصوراً بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل . حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطاناً على القاتل .

وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام ( كانَ ) الدال على أن الخبر مستقر الثبوت . وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر .

ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ ( سلطان ) هنا الظاهر في معنى المصدر ، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان ، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدَى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة . ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة ، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان .

وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان ، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة ، وهو الجهاد ، فله أحكام أخرى . وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] وما عطف عليه من الضمائر .

واعلم أن جملة { ومن قتل مظلوماً } معطوفة على جملة { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق } عطف قصة على قصة اهتماماً بهذا الحكم بحيث جعل مستقلاً ، فعُطف على حكم آخر ، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة ، إما استئنافاً لبيان حكم حالة تكثر ، وإما بدل بعضضٍ من جملة { إلا بالحق } .

و ( مَن ) موصولة مبتدأ مراد بها العموم ، أي وكل الذي يقتل مظلوماً . وأُدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره .

وقوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يُطمئِن نفسَ ولي المقتول . والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى : { فلا يسرف في القتل } ، فكان تقديم قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } تمهيداً لقبول النهي عن السرف في القتل ، لأنه إذا كان قد جُعل له سلطان فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاءً لغليله .

ومن دلالة الإشارة أن قوله : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتلَ القاتل دون حكم من السلطان ، لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل ، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل ، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة ، فضمير { فلا يسرف } عائد إلى « وليه » .

وجملة { إنه كان منصوراً } تعليل للكف عن الإسراف في القتل ، والضمير عائد إلى « وليه » .

و ( في ) من قوله : { في القتل } للظرفية المجازية ، لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه ، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه .

ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية ، وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة .