ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام ، فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض ، أراد الله تعالى ، أن يبين لهم من فضل آدم ، ما يعرفون به فضله ، وكمال حكمة الله وعلمه ف { عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } أي : أسماء الأشياء ، وما هو مسمى بها ، فعلمه الاسم والمسمى ، أي : الألفاظ والمعاني ، حتى المكبر من الأسماء كالقصعة ، والمصغر كالقصيعة .
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أي : عرض المسميات { عَلَى الْمَلَائِكَةِ } امتحانا لهم ، هل يعرفونها أم لا ؟ .
{ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم وظنكم ، أنكم أفضل من هذا الخليفة .
ثم أخذ - سبحانه - في بيان جانب من حكمة خلق آدم ، وجعله خليفة في الأرض ، بعد أن أجاب الملائكة على سؤالهم بالجواب المناسب الحكيم ، فقال - تعالى - : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
علم : من التعليم وهو التعريف بالشيء . وآدم : اسم لأبي البشر ، قيل إنه عبراني مشتق من أدمه ، وهي لغة عبرانية معناها التراب ، كما أن " حواء " كلمة عبرانية معناها " حي " وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء .
و { الأسمآء } جمع اسم ، والاسم ما يكون علامة على الشيء ، وتأكيد الأسماء بلفظ " كلها " في أنه علمه أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة ، وطير ، وغير ذلك .
ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها ، فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق .
وقوله : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } عرض الشيء : إظهاره وإبانته والضمير في { عَرَضَهُمْ } يعود على المسميات ، وهي مفهومة من قوله : { الأسمآء كُلَّهَا } إذ الأسماء لابد لها من مسميات ، فإذا أجرى حديث عن الأسماء حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها ، أعني المسميات .
ودل على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء فقال : { عَرَضَهُمْ } ولم يقل عرضها ، لأن في جملة هذه المسميات أنواعاً من العقلاء : كالملائكة ، والإِنس ، ومن الأساليب المعروفة بين فصحاء العرب تغليب الكامل على الناقص ، فإذا اشتركا في نحو الجمع أو التثنية أتى بالجمع أو التثنية على ما يطلق حال الكامل منهما .
والأمر في قوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء } ، ليس من قبيل الأوامر التي يقصد بها التكليف ، أي : طلب الإِِتيان بالمأمور به ، وإنما هو وارد على جهة إفحام المخاطب بالحجة .
والمعنى : أن الله - تعالى - ألهم آدم ومعرفة ذوات الأشياء التي خلقها في الجنة ، ومعرفة أسمائها ومنافعها ، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة . فقال لهم على سبيل التعجيز : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أعلم منه وأفضل .
قال ابن جرير : " وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر والذكرى لمن ذكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله في هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ، وذلك أن الله - تعالى - احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن - تعالى - أطلع عليها من خلقه إلا خاصا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإِنباء والإِخبار ليقرر عندهم صدق نبوته ، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عند الله " .
( وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . ) . .
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلمه مقاليد الخلافة . سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر ، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . .
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة ، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم ، وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك ، فأخبرهم [ الله ]{[1510]} تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ؛ ولهذا ذكر تعالى{[1511]} هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم ،
فقال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا }
وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا ، والدواب ، فقيل : هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وسماء ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجمل{[1512]} ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : علمه اسم الصحفة والقِدر ، قال : نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة{[1513]} .
وقال مجاهد : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : علمه اسم كل دابة ، وكل طير ، وكل شيء .
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف : أنه علمه أسماء كل شيء ، وقال الربيع في رواية عنه : أسماء الملائكة . وقال حميد الشامي : أسماء النجوم . وقال عبد الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته كلهم .
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية ؛ لأنه قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } وهذا عبارة عما يعقل . وهذا الذي رجح به ليس بلازم ، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب . كما قال : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ النور : 45 ] .
[ وقد قرأ عبد الله بن مسعود : " ثم عرضهن " وقرأ أبي بن كعب : " ثم عرضها " أي : السماوات ]{[1514]} .
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها : ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفُسَية . يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر ؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا مسلم ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال - : " يجتمع المؤمنون يوم القيامة ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ؟ فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، ويذكر ذنبه فيستحي ؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتونه فيقول : لست هُنَاكُم . ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي . فيقول : ائتوا خليل الرحمن ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكم ؛ فيقول : ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله ، وأعطاه التوراة ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكُمْ ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس ، فيستحي من ربه ؛ فيقول : ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكُم ، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأنطلق حتى أستأذن على ربي ، فيُؤذن لي ، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا ، فيدعني ما شاء الله ، ثم يقال : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل يُسْمَع ، واشفع تُشَفَّع ، فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد{[1515]} يعلمُنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدًّا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود إليه ، وإذا رأيت ربي مثله{[1516]} ، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة{[1517]} ، ثم أعود الرابعة فأقول : ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود " {[1518]} .
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا . وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام ، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي ، عن قتادة ، به{[1519]} . وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد ، وهو ابن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة{[1520]} . ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام : " فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء " ، فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ } يعني : المسميات ؛ كما قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } ثم عرض الخَلْق على الملائكة .
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } عرض أصحاب الأسماء على الملائكة .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة ، عن الحسن - وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة - قالا علمه اسم كل شيء ، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه أمة أمة .
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم تعلمون{[1521]} لم أجعل في الأرض خليفة .
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء .
وقال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ، ومعنى ذلك فقال : أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة القائلون : أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء ، من غيرنا أم منا ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم : إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس ، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين .
{ وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هََؤُلآءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث ربّ العزّة ملك الموت ، فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها ، فخلق منه آدم . ومن ثم سُمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض .
وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن جده ، عن عليّ ، قال : إن آدم خلق من أديم الأرض فيه الطيب والصالح والرديء ، فكل ذلك أنت راء في ولده الصالح والرديء .
وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : خلق آدم من أديم الأرض فسمي آدم .
وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير قال : إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : إن ملك الموت لما بعث ليأخذ من الأرض تربة آدم ، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ، ولذلك سمي آدم ، لأنه أخذ من أديم الأرض .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يحقق ما قال من حكينا قوله في معنى آدم ، وذلك ما :
حدثني به يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عوف ، وحدثنا محمد بن بشار وعمر بن شبة ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عوف ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب الثقفي قالوا : حدثنا عوف ، وحدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا عنبسة ، عن عوف الأعرابي ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ على قَدْرِ الأرْضِ جاءَ مِنْهُمْ أَلاحْمَرُ وَالأسْوَدُ وَالأبْيَضُ وَبَيْنَ ذلكَ وَالسّهْلُ وَالحَزْنُ وَالخَبِيثُ وَالطّيّبُ » .
فعلى التأويل الذي تأول آدم من تأوله بمعنى أنه خلق من أديم الأرض ، يجب أن يكون أصل آدم فعلاً سمي به أبو البشر ، كما سمي أحمد بالفعل من الإحماد ، وأسعد من الإسعاد ، فلذلك لم يجرّ ، ويكون تأويله حينئذٍ : آدم الملك الأرضَ ، يعني به أبلغ أَدَمتها ، وأدمتها وجهها الظاهر لرأي العين ، كما أن جلدة كل ذي جلدة له أدمة ، ومن ذلك سمي الإدام إداما ، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه ، ثم نقل من الفعل فجعل اسما للشخص بعينه .
القول في تأويل قوله تعالى : الأسْمَاءَ كُلّها .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدم ثم عرضها على الملائكة . فقال ابن عباس ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : علم الله آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وحدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال : علمه اسم كل شيء .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَعَلّمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها قال : علمه اسم كل شيء .
وحدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم الحرمي ، عن محمد بن مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : علمه اسم الغراب والحمامة ، واسم كل شيء .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : علمه اسم كل شيء ، حتى البعير والبقرة والشاة .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن عباس ، قال : علمه اسم القصعة والفسوة والفسية .
وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن الحسن بن سعد ، عن ابن عباس : وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّها قال : حتى الفسوة والفسية .
حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن قيس ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن عباس في قول الله : وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال : علمه اسم كل شيء حتى الهنة والهنية والفسوة والضرطة .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم بن كليب ، قال : قال ابن عباس : علمه القصعة من القصيعة ، والفسوة من الفسية .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها حتى بلغ : إنّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه وألجأه إلى جنسه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال : علمه اسم كل شيء : هذا جبل ، وهذا بحر ، وهذا كذا وهذا كذا ، لكل شيء ، ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال : أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ومبارك ، عن الحسن ، وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا : علمه اسم كل شيء : هذه الخيل ، وهذه البغال ، والإبل ، والجنّ ، والوحش وجعل يسمي كل شيء باسمه .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع ، قال : اسم كل شيء .
وقال آخرون : علم آدم الأسماء كلها ، أسماء الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَعَلمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلها قال : أسماء الملائكة .
وقال آخرون : إنما علمه أسماء ذريته كلها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَعَلمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال : أسماء ذرّيته أجمعين .
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ على صحته ظاهر التلاوة قول من قال في قوله : وَعَلّمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها إنها أسماء ذرّيته وأسماء الملائكة ، دون أسماء سائر أجناس الخلق . وذلك أن الله جل ثناؤه قال : ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم ، ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق ، سوى من وصفنا ، فإنها تكني عنها بالهاء والألف ، أو بالهاء والنون ، فقالت : عرضهن ، أو عرضها . وكذلك تفعل إذا كنت عن أصناف من الخلق ، كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم ، وفيها أسماء بني آدم والملائكة ، فإنها تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون ، أو الهاء والألف . وربما كنت عنها إذ كان كذلك بالهاء والميم ، كما قال جل ثناؤه : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على أرْبَعٍ فكني عنها بالهاء والميم ، وهي أصناف مختلفة فيها الاَدميّ وغيره . وذلك وإن كان جائزا فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا من إخراجهم كناية أسماء أجناس الأمم إذا اختلطت بالهاء والألف ، أو الهاء والنون . فلذلك قلت : أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علمها آدم أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة . وإن كان ما قال ابن عباس جائزا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بَطْنِهِ الآية . وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود : «ثم عرضهن » ، وأنها في حرف أبيّ : «ثم عرضها » .
ولعلّ ابن عباس تأوّل ما تأوّل من قوله : علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسية على قراءة أبيّ ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ . وتأويل ابن عباس على ما حكي عن أبيّ من قراءته غير مستنكر ، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب على نحو ما تقدم وصفي ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ .
قال أبو جعفر : قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أوْلى بالآية على قراءتنا ورسم مصحفنا ، وأن قوله : ثُمّ عَرَضَهُمْ بالدلالة على بني آدم والملائكة أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها ، وإن كان غير فاسد أن يكون دالاّ على جميع أصناف الأمم للعلل التي وصفنا .
ويعني جل ثناؤه بقوله : ثُمّ عَرَضَهُمْ ثم عرض أهل الأسماء على الملائكة .
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله : ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلاَئِكَةِ نحو اختلافهم في قوله : وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قول .
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ ثم عرض هذه الأسماء يعني أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف جميع الخلق .
وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ثُمّ عَرَضَهُمْ ثم عرض الخلق على الملائكة .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أسماء ذريته كلها أخذهم من ظهره . قال : ثم عرضهم على الملائكة .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة : ثُمّ عَرَضَهُمْ قال : علمه اسم كل شيء ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ثُمّ عَرَضَهُمْ عرض أصحاب الأسماء على الملائكة .
وحدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن قيس ، عن خصيف عن مجاهد ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ يعني عرض الأسماء الحمامة والغراب .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك عن الحسن ، وأبي بكر عن الحسن ، وقتادة قالا : علمه اسم كل شيء هذه الخيل وهذه البغال وما أشبه ذلك ، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه أمة أمة .
القول في تأويل قوله تعالى : فقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ .
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : أنْبِئُونِي أخبروني ، كما :
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : أنْبِئُونِي يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء . ومنه قول نابغة بني ذبيان :
وأنْبأهُ المُنَبّىء أنّ حَيّا *** حُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أوْ جُذَامِ
يعني بقوله أنبأه : أخبره وأعلمه .
القول في تأويل قوله تعالى : بِأسْماءِ هَولاءِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : بِأسْماءِ هَؤلاءِ قال : بأسماء هذه التي حدثت بها آدم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : أنْبئُونِي بأسماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ يقول : بأسماء هؤلاء التي حدثت بها آدم .
القول في تأويل قوله تعالى : إنْ كُنْتُمِ صَادِقِينَ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك .
فحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة قالا : أنْبِئُونِي بِأسْمَاءِ هَولاَءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية تأويل ابن عباس ومن قال بقوله .
ومعنى ذلك فقال : أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون : أتَجْعَل فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ من غيرنا ، أم منّا ؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته ، وأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء ، وإن جعلتم فيها أطعتموني ، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس . فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم ، وعلمه غيركم بتعليمي إياه ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد ، وبما هو مستتر من الأمور التي هي موجودة عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين ، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم ، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي .
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته الذين قالوا له : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها من جهة عتابه جل ذكره إياهم ، نظير قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه ، إذ قال : رَبّ إنّ ابْنِي مِنْ أهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الحَقّ وَأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمينَ : لا تَسْألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ إنّي أعظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خلفاءه في الأرض يسبحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله في الأرض خليفة ، يفسدون فيها ، ويسفكون الدماء ، فقال لهم جل ذكره : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني بذلك أني أعلم أن بعضكم فاتح المعاصي وخاتمها وهو إبليس منكرا بذلك تعالى ذكره قولهم . ثم عرّفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك ، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانا ، فكيف بما لم يروه ولم يخبروا عنه بعرضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذٍ ، وقيله لهم : أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبحتموني وقدستموني ، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني ذريته ، وأفسدوا وسفكوا الدماء . فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا : سُبحانَكَ لا علمَ لنَا إِلاّ ما علمتنا فسارعوا الرجعة من الهفوة ، وبادروا الإنابة من الزلة ، كما قال نوح حين عوتب في مسألته ، فقيل له : لا تَسألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ : رَبّ إنّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسألَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ وكذلك فعل كل مسدد للحق موفق له ، سريعة إلى الحقّ إنابته ، قريبة إليه أوبته .
وقد زعم بعض نحويي أهل البصرة أن قوله : أنْبِئُونِي بِأسْمَاءِ هَولاَءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا ، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفضله ، فقال : أنبئوني إن كنتم صادقين كما يقول الرجل للرجل : أنبئني بهذا إن كنت تعلم ، وهو يعلم أنه لا يعلم يريد أنه جاهل . وهذا قول إذا تدبره متدبر علم أن بعضه مفسد بعضا ، وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة إذ عرض عليهم أهل الأسماء : أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤلاءِ وهو يعلم أنهم لا يعلمون ، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يوبخوا بهذا القول . وزعم أن قوله : إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ نظير قول الرجل للرجل : أنبئني بهذا إن كنت تعلم ، وهو يعلم أنه لا يعلم يريد أنه جاهل . ولا شك أن معنى قوله : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إنما هو إن كنتم صادقين ، إما في قولكم ، وإما في فعلكم لأن الصدق في كلام العرب إنما هو صدق في الخبر لا في العلم وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال صدق الرجل بمعنى علم . فإذا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية : أنْبِئُونِي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وهو يعلم أنهم غير صادقين ، يريد بذلك أنهم كاذبون . وذلك هو عين ما أنكره ، لأنه زعم أن الملائكة لم تدع شيئا ، فكيف جاز أن يقال لهم : إن كنتم صادقين فأنبئوني بأسماء هؤلاء ؟ هذا مع خروج هذا القول الذي حكيناه عن صاحبه من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير .
وقد حكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأوّل قوله : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بمعنى : إذ كنتم صادقين . ولو كانت «إن » بمعنى «إذ » في هذا الموضع لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها ، لأن «إذ » إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببا له ، وذلك كقول القائل : أقوم إذ قمت ، فمعناه : أقوم من أجل أنك قمت ، والأمر بمعنى الاستقبال . فمعنى الكلام : لو كانت إن بمعنى إذ أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون . فإذا وضعت «إن » مكان ذلك ، قيل : «أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صادقين مفتوحة الألف ، وفي إجماع جميع قرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من «إن » دليل واضح على خطأ تأويل من تأوّل «إنْ » بمعنى «إذ » في هذا الموضع .
{ وعلم آدم الأسماء كلها } إما بخلق علم ضروري بها فيه ، أو إلقاء في روعه ، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا ، ولذلك يقال علمته فلم يتعلم . و{ آدم } اسم أعجمي كآزر وشالخ ، واشتقاقه من الأدمة أو الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة ، أو من أديم الأرض لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم " فلذلك يأتي بنوه أخيافا ، أو من الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة ، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ، ويعقوب من العقب ، وإبليس من الإبلاس . والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن مع الألفاظ والصفات والأفعال ، واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركبا أو مفردا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما . واصطلاحا : في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة . والمراد في الآية إما الأول أو الثاني وهو يستلزم الأول ، لأن العلم بألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني ، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة ، مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات ، والمتخيلات والموهومات . وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها .
{ ثم عرضهم على الملائكة } الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا إذ التقدير أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شيبا } لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأشياء سيما إن أريد به الألفاظ ، والمراد به ذوات الأشياء ، أو مدلولات الألفاظ ، وتذكيره ليغلب ما اشتمل عليه من العقلاء ، وقرئ عرضهن وعرضها على معنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها .
{ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء } تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم عن أمر الخلافة ، فإن التصرف والتدبير إقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة ، والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال ، وليس بتكليف ليكون من باب التكليف بالمحال ، والإنباء : إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما .
{ إن كنتم صادقين } في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة لعصمتكم ، أو أن خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم ، وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالهم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه بفرض ما يلزم مدلوله من الأخبار ، وبهذا الاعتبار يعتري الإنشاءات .
وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 )
وقوله تعالى : { وعلم } معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة .
وقال قوم : بل تعليم بقول ، فإما بواسطة ملك( {[431]} ) ، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض ، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته .
وقرأ اليماني : » وعُلِّم «بضم العين على بناء الفعل للمفعول ، » آدمُ «مرفوعاً .
قال أبو الفتح : » هي قراءة يزيد البربري «و { آدم } أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد ، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر ، ولا ينصرف بوجه ، وقيل { آدم } وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض( {[432]} ) ، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم ، ويلزم قائل المقالة صرفه .
وقال الطبري : «آدم فعل رباعي سمي به » ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث »( {[433]} ) .
واختلف المتأولون في قوله : { الأسماء } فقال جمهور الأمة : «علمه التسميات » وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص » .
قال القاضي أبو محمد والأول أبين ، ولفظة -علمه- تعطي ذلك .
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه ؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها »( {[434]} ) .
وقال حميد الشامي( {[435]} ) : «علمه أسماء النجوم فقط » .
وقال الربيع بن خثيم( {[436]} ) : «علمه أسماء الملائكة فقط » .
وقال عبد الرحمن بن زيد : «علمه أسماء ذريته فقط » .
وقال الطبري : «علمه أسماء ذريته والملائكة » ، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى : { ثم عرضهم على الملائكة( {[437]} ) } .
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء .
وقال آخرون : «علمه أسماء الأجناس ، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك ، دون أن يعين ما سمته ذريته منها » .
وقال ابن قتيبة : «علمه أسماء ما خلق في الأرض » .
وقال قوم : علمه الأسماء بلغة واحدة ، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها .
وقال بعضهم : «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته » وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال : «علم الله تعالى آدم كل شيء ، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه » ، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات( {[438]} ) . وقال أكثر العلماء : «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح »( {[439]} ) .
وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص عند التعليم » .
وقال قوم : «بل وصفها له دون عرض أشخاص » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه كلها احتمالات ، قال الناس بها .
وقرا أبي بن كعب : «ثم عرضها » .
وقرأ ابن مسعود : «ثم عرضهن » واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص ؟ فقال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص .
وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء ، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعاً نوعاً ، ومن قال في الأسماء إنها التسميات( {[440]} ) استقام على قراء ة أبيّ : «عرضها » ، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم » : إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص( {[441]} ) ، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم .
و { أنبئوني } معناه : أخبروني ، والنبأ الخبر ، ومنه النبيء .
وقال قوم : يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق ، ويتقرر جوازه ، لأنه تعالى علم أنهم لا يعملون .
وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف( {[442]} ) .
وقوله تعالى : { هؤلاء } ظاهره حضور أشخاص ، وذلك عند العرض على الملائكة .
وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي ، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصاً استقام له مع لفظ { هؤلاء } ، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة ب { هؤلاء } إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب ، وذلك أسماؤها ، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً ، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم ، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، و { هؤلاء } لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد ، قال الأعشى : [ الخفيف ] .
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيتَ نعالاً محذوة بنعال( {[443]} )
و { كنتم } في موضع الجزم بالشرط ، والجواب عند سيبويه فيما قبله ، وعند المبرد محذوف( {[444]} ) ، والتقدير : إن كنتم صادقين فأنبئوني .
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى عليه السلام ، معنى الآية : { إن كنتم صادقين } في أن الخليفة يفسد ويسفك( {[445]} ) .
وقال آخرون : { صادقين } في إني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي .
وقال الحسن وقتادة : روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه ، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم .
وقال قوم : معنى الآية { إن كنتم صادقين } في جواب السؤال عالمين بالأسماء .