قوله سبحانه : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً . . } معطوف على قوله - تعالى - : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن . . } فهو من جملة الموحى به ، وهو من كلام الله - تعالى - لبيان سنة من سننه فى خلقه ، واسم " أن " المخففة ضمير الشأن الخبر قوله ، { وَأَلَّوِ استقاموا . . } والضمير يعود على القاسطين سواء أكانوا من الإِنس أم من الجن .
والماء الغدق : هو الماء الكثير ، يقال : غَدِقَتْ فلان غَدَقاً - كفرح - إذا كثر دمعها فهى غدقة ، ومنه الغيداق للماء الواسع الكثير ، والمراد : لأعطيناهم نعما كثيرة .
أى : ولو أن هؤلاء العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل استقاموا على الطريقة المثلى ، التى هى طريق الإِسلام ، والتزموا بما جاءهم به النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه . .
لو أنهم فعلوا ذلك ، لفتحنا عليهم أبواب الرزق ، ولأعطيناهم من بركاتنا وخيراتنا الكثير . . وخص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش والسعة .
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض . . . } وقوله - تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ثم بين - سبحانه - الحكمة فى هذا العطاء لعباده فقال : { لِّنَفْتِنَهُمْ } وأصل الفتن الامتحان والاختبار . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته لتعرف مقدار جودته .
والمعنى : نعطيهم ما نعطيهم من خيراتنا ، لنختبرهم ونمتحنهم ، ليظهر للخلائق موقفهم من هذه النعم ، أيشكروننا عليها فنزيدهم منها ، أم يجحدون ويبطرون فنمحقها من بين أيديهم . . ؟
والجملة الكريمة معترضة بين ما قبلها ، وبين قوله - تعالى - بعد ذلك : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .
وقوله : { يَسْلُكْهُ } من السلك بمعنى إدخال الشئ فى الشئ ومنه قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } والصَّعَد : الشاق . يقال : فلان فى صَعَد من أمره ، أى : فى مشقة وتعب ، وهو مصدر صَعِد - كفرح - صعداً وصعودا .
أى : ومن يعرض عن طاعة ربه ومراقبته وخشيته . . يدخله - سبحانه - فى عذاب شاق أليم ، لا مفر منه ، ولا مهرب له عنه .
ومن الحقائق والحكم التى نأخذها من هاتين الآيتين ، أن الاستقامة على أمر الله ، تؤدى إلى السعادة التى ليس بعده سعادة ، وأن رخاء العيش وشظافته هما لون من ألوان الابتلاء والاختبار ، كما قال - تعالى - : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير } وأن الإِعراض عن ذكر الله . . عاقبته الخسران المبين ، والعذاب الأليم .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أى لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم .
وقال عمر بن الخطاب فى هذه الآية : أنيما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة فمعنى { لأَسْقَيْنَاهُم } لوسعنا عليهم فى الدنيا ، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ، لأن الخير والرزق كله ، بالمطر يكون ، فأقيم مقامه .
وفى صحيح مسلم ، عن أبى سعيد الخدرى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخوف ما أخاف عليكم ، ما يخرج لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : بركات الأرض . . " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها ، كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " .
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم ؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه ، وذكرها بفحواها لا بألفاظها :
( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) . .
يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا : ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة ، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم ، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء . . ( لنفتنهم فيه ) . . ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون .
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة ، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه . ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني ، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها .
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق ، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن ، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها .
والحقيقة الأولى : هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله ، وبين إغداق الرخاء وأسبابه ؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه . وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة . وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة ، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء . ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية . .
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة . وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف ، حتى استقاموا على الطريقة ، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء ، وتتدفق فيها الأرزاق . ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا . وما يزالون في نكد وشظف ، حتى يفيئوا إلى الطريقة ، فيتحقق فيهم وعد الله .
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على حقيقة الله ، ثم تنال الوفر والغنى ، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها ، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء . وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته [ كما سبق بيانه في سورة نوح ] . .
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية : هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة . ونبلوكم بالشر والخير فتنة . والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة ! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى . . فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها ، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة ؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به ، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره . فأما الرخاء فينسي ويلهي ، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس ، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان !
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة . . نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر ، مع السرف أو مع البخل ، وكلاهما آفة للنفس والحياة . . . ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور ، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس ، والتهجم على حرمات الله . . ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية . . ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين . . وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله . .
والحقيقة الثالثة إن الإعراض عن ذكر الله ، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء ، مؤد إلى عذاب الله . والنص يذكر صفة للعذاب ( يسلكه عذابا صعدا ) . . توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد . وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد . فجاء في موضع : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . وجاء في موضع : سأرهقه صعودا . وهي حقيقة مادية معروفة . والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء !
وقوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين :
أحدهما : وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها ، { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : كثيرًا . والمراد بذلك سَعَة الرزق . كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ المائدة : 66 ] وكقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الأعراف : 96 ] وعلى هذا يكون معنى قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
أي : لنختبرهم ، كما قال مالك ، عن زيد بن أسلم : { لِنَفْتِنَهُمْ } لنبتليهم ، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية ؟ .
ذكر من قال بهذا القول : قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يعني بالاستقامة : الطاعة . وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } قال : الإسلام . وكذا قال سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والسدي ، ومحمد بن كعب القرظي .
وقال قتادة : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا .
وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الحق . وكذا قال الضحاك ، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما ، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنبتليهم به .
وقال مقاتل : فنزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين .
والقول الثاني : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } الضلالة { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا ، كما قال : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] وكقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد ؛ فإنه في قوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الضلالة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس ، وزيد بن أسلم ، والكلبي ، وابن كيسان . وله اتجاه ، وتيأيد بقوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
وقوله : { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } أي : عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن زيد : { عَذَابًا صَعَدًا } أي : مشقة لا راحة معها .
يقول تعالى ذكره : وأن لو استقام هؤلاء القاسطون على طريقة الحقّ والاستقامة لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غدَقا يقول : لو سعنا عليهم في الرزق ، وبسطناهم في الدنيا لنفتنهم فيه ، يقول لنختبرهم فيه . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْ لَو اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا يعني بالاستقامة : الطاعة . فأما الغدق فالماء الطاهر الكثير لِنَفْتنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ طريقة الإسلام لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : نافعا كثيرا ، لأعطيناهم مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حتى يرجعوا لما كتب عليهم من الشقاء .
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : حدثنا الفريابي ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : طريقة الحقّ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا يقول مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم به حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم من الشقاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه ، مثله .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن مجاهد وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : الإسلام لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم به .
قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن غير واحد ، عن مجاهد ماءً غَدَقا قال الماء . والغدق : الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حتى يرجعوا إلى علمي فيهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لأعطيناهم مالاً كثيرا ، قوله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن بعض أصحابه ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : الدين لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا . قال الله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم بها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لو اتقوا لوسع عليهم في الرزق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ماءً غَدَقا قال : عيشا رَغدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : الغدق الكثير : مال كثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فيه .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا المطلب بن زياد ، عن التيمي ، قال : قال عمر رضي الله عنه في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأن لو استقاموا على الضلاة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مُجَلّز ، قال : وأن لو استقاموا على طريقة الضلالة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأن لو استقاموا على طريقة الحقّ وآمنوا لوسعنا عليهم . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : هذا مثل ضربه الله كقوله : وَلَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّوْرَاةَ والإنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهمْ وقوله تعالى : وَلَوْ أنّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهمْ بَرَكاتٍ من السّماءِ والأرْضِ والماء الغَدَقَ يعني : الماء الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم فيه .
وقوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا يقول عزّ وجل : ومن يُعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به ، وهو هذا القرآن ومعناه : ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله ، يسلكه الله عذابا صعدا : يقول : يسلكه الله عذابا شديدا شاقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْه عَذَابا صَعَدا يقول : مشقة من العذاب يصعد فيها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَذَابا صَعَدا قال : مشقة من العذاب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس عَذَابا صَعَدا قال : جبل في جهنم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا عذابا لا راحة فيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة عَذَابا صَعَدا قال : صَعودا من عذاب الله لا راحة فيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا قال : الصعد : العذاب المنصب .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَسْلُكْه فقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة : «نَسْلُكْهُ » بالنون اعتبارا بقوله : لِنَفْتِنَهُمْ أنها بالنون . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء ، بمعنى : يسلكه الله ، ردّا على الربّ في قوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لنفتنهم فيه} يقول لكي نبتليهم فيه بالخصب، والخير،
{يسلكه عذابا صعدا} يعني شدة العذاب الذي لا راحة له فيه.
قال مالك: عن زيد بن أسلم: {لنفتنهم} لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يستمر على الغواية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا "يقول عزّ وجل: ومن يُعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به، وهو هذا القرآن، ومعناه: ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله، يسلكه الله عذابا صعدا: يقول: يسلكه الله عذابا شديدا شاقا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لنفتنهم فيه} فالفتنة المحنة التي فيها الشدة؛ فإن كان هذا في أهل الكفر ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسوله الله صلى الله عليه وسلم لما يرون من الفضل على من دونهم في المال والسعة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون} [سبأ: 34].
{ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}... والإعراض ههنا عبارة عن الإيثار والاختيار، أي من يختر غير ذكر الله تعالى على ما ذكره أو طاعة غيره على طاعته.
{يسلكه عذابا صعدا} على التحقيق كما ذكره أهل التفسير أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار، لا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها. فذلك دأبهم.
وجائز أن يكون على التمثيل، وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط، فيكون الصعود عبارة عن المشقة ههنا: أن يستقبله ما يشق عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه {يَسْلُكْهُ} وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحة، أي: ندخله {عَذَاباً} والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]
والصعد: مصدر صعد، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت نعمه فضلاً منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها، قال تعالى معرفاً أن غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا يبدل القول لديه وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح: {لنفتنهم} أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.
ولما كان التقدير: فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه في دار السلام أبداً، عطف عليه قوله: {ومن يعرض} أي إعراضاً مستمراً إلى الموت {عن ذكر ربه} أي مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره {نسلكه} أي ندخله {عذاباً} يكون مطرفاً له كالخيط يكون في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعداً} أي شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً، فإن الإعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 16]
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه، وذكرها بفحواها لا بألفاظها: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا).. يقول الله -سبحانه- إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء.. (لنفتنهم فيه).. ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون. وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها. وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها. والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية.. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله. والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة. ونبلوكم بالشر والخير فتنة. والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان! إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة.. نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة... ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.. ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية.. ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين.. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله.. والحقيقة الثالثة إن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله. والنص يذكر صفة للعذاب (يسلكه عذابا صعدا).. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. وجاء في موضع: سأرهقه صعودا. وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(لنفتنهم) هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟
ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الامتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الاختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الاختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الانحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى ويهيئ الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هم الذاكرون للّه على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين.
ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).
«صعد»: وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: (سأُرهقه صعوداً).
ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق أشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً).
وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان (عليه السلام): (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر)، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: (واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة).