{ 33-35 } { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ *وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }
يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئا ، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده ، التي لا يقدم عليها شيئا ، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعا عظيما ، ولجعل { لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي : درجا من فضة { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } على سطوحهم .
ثم ختم - سبحانه - هذا التهوين لحطام الدنيا فقال : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } .
و { وَلَوْلاَ } حرف امتناع لامتناع . والكلام على حذف مضاف . والمراد بالأمة الواحدة : أمة الكفر . والمعارج مع معرج وهى المصاعد التى يصعد عليها إلى أعلى .
أى : ولولا كراهة أن يكون الناس جميعا أمة واحدة مجتمعة على الكفر حين يشاهدون سعة الرزق ، ورفاهية العيش ، ظاهرة بين الكافرين . .
لولا كراهية ذلك . لجعلنا بمشيئتنا وقدرتنا ، لمن يكفر بالرحمن ، الشئ الكثير من حطام الدنيا ، بأن نجعل لبيوتهم سقفا من فضة ، ولجعلنا لهم مصاعد فخمة عليها يرقون إلى أعلى مساكنهم .
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا . والآخرة عند ربك للمتقين . .
فهكذا - لولا أن يفتتن الناس . والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم - لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة - بيوتاً سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب .
بيوتاً ذات أبواب كثيرة . قصورا . فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع ؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن !
( وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ) . .
متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا . ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا .
( والآخرة عند ربك للمتقين ) . .
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم ؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى ؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى . ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان !
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين . وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية ؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء . والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس . ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه ؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده . والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار .
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا ؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال . يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله . وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله . فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى ، ولا تشي باختيار !
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها ؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة ؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة . وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد ؛ واختياره . واطراح العظماء المتسلطين !
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات . فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها ؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها . والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير ، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة ؛ ويحسبون أن التطور والتغير ، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها . ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور ؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر . فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته !
فأما نحن - أصحاب العقيدة الإسلامية - فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة . وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات . . وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَوْلا أن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً : جماعة واحدة .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي لم يؤمن اجتماعهم عليه ، لو فعل ما قال جلّ ثناؤه ، وما به لم يفعله من أجله ، فقال بعضهم : ذلك اجتماعهم على الكفر . وقال : معنى الكلام : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر ، فيصيرَ جميعهم كفارا لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحمَنِ لبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ ذكر من قال ذلك .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول الله سبحانه : لولا أن أجعل الناس كلهم كفارا ، لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : لولا أن يكون الناس كفارا أجمعون ، يميلون إلى الدنيا ، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال ، ثم قال : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها ، وما فعل ذلك ، فكيف لو فعله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً : أي كفارا كلهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : لولا أن يكون الناس كفارا .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول : كفارا على دين واحد .
وقال آخرون : اجتماعهم على طلب الدنيا وترك طلب الاَخرة . وقال : معنى الكلام : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على طلب الدنيا ورفض الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : لولا أن يختار الناس دنياهم على دينهم ، لجعلنا هذا لأهل الكفر .
وقوله : لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحْمَن لِبُيُوتِهِمْ سُقْفا مِنْ فِضّةٍ يقول تعالى ذكره : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن في الدنيا سقفا ، يعني أعالي بيوتهم ، وهي السطوح فضة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِبُيُوتهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ السُقُف : أعلى البيوت .
واختلف أهل العربية في تكرير اللام التي في قوله : لِمَنْ يَكْفُرُ ، وفي قوله : لِبُيُوتهِمْ ، فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنها أدخلت في البيوت على البدل . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : إن شئت جعلتها في لِبُيُوتهِمْ مكرّرة ، كما في يَسْئَلُونَكَ عَن الشّهْرِ الحَرَام قِتالٍ فِيهِ ، وإن شئت جعلت اللامين مختلفتين ، كأن الثانية في معنى على ، كأنه قال : جعلنا لهم على بيوتهم سقفا . قال : وتقول العرب للرجل في وجهه : جعلت لك لقومك الأعطية : أي جعلته من أجلك لهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «سَقْفا » فقرأته عامة قرّاء أهل مكة وبعض المدنيين وعامة البصريين سَقْفا بفتح السين وسكون القاف اعتبارا منهم ذلك بقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وتوجيها منهم ذلك إلى أنه بلفظ واحد معناه الجمع . وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة سُقُفا بضم السين والقاف ، ووجّهوها إلى أنها جمع سقيفة أو سقوف . وإذا وجهت إلى أنها جمع سقوف كانت جمع الجمع ، لأن السقوف : جمع سَقْف ، ثم تجمع السقوف سُقُفا ، فيكون ذلك نظير قراءة من قرأه فرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ بضم الراء والهاء ، وهي الجمع ، واحدها رهان ورهون ، وواحد الرهون والرهان : رَهْن . وكذلك قراءة من قرأ كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ بضم الثاء والميم ، ونظير قول الراجز :
*** حتى إذَا ابْتَلّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ***
وقد زعم بعضهم أن السّقُف بضم السين والقاف جمع سَقْف ، والرّهُن بضم الراء والهاء جمع رَهْن ، فأغفل وجه الصواب في ذلك ، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب اسم على تقدير فعل بفتح الفاء وسكون العين مجموعا على فُعُل ، فيجعل السّقُف والرّهُن مثله .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، معروفتان في قرأة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ يقول : ومراقي ودَرَجا عليها يصعدون ، فيظهرون على السقف والمعارج : هي الدرج نفسها ، كما قال المثنى بن جندل :
*** يا رَبّ البَيْتِ ذي المَعارِج ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَمَعارِجَ قال : معارج من فضة ، وهي درج .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ : أي دَرجا عليها يصعدون .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : المعارج : المراقي .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَمَعَارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : دُرُج عليها يُرفعون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن ابن عباس قوله : وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : درج عليها يصعدون إلى الغرف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال : المعارج : درج من فضة .
ثم استمرّ القول في تحقيرها بقوله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة )الآية ، وذلك أن معنى الآية أن الله تعالى أبقى على عباده وأنعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حِفظه على طائفة منهم بقية الدهر ، ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرّد لها لوسّع الله تعالى على الكفار غاية التوسعة ومكّنهم من الدنيا ؛ إذ حقارتها عنده تقتضي ذلك ؛ لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها ، فقوله تعالى : ( أمة واحدة ) معناه : في الكفر ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، ومن هذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماءٍ ) ( {[10200]} ) ، ثم يتركب معنى الآية على معنى هذا الحديث ، واللام في قوله تعالى : ( لمن يكفر ) لام المِلْك ، واللام في قوله تعالى : [ لبيوتهم ] لام تخصيص ، كما تقول : هذا الكِساء لزيد لدابته ، أي : هو لدابّته حِلْسٌ( {[10201]} ) ولزيد مِلْك ، قال المهدوي : ودلت هذه الآية على أن السقف لربّ البيت الأسفل ؛ إذ هو منسوب إلى البيوت .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقرأ جمهور القراء : [ سُقُفاً ] بضم السين والقاف ، وقرأ مجاهد : [ سُقْفاً ] بضم السين وسكون القاف ، وهذا جمعان ، وقرأ ابن كثير ، وأبو جعفر : [ سَقْفاً بفتح السين وسكون القاف على الإفراد ، و " المعارج " : الأدراج التي يطلع عليها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والناس ، وقرأ طلحة : [ وَمَعَارِيجَ ] بزيادة ياءٍ ، و[ يظْهَرُونَ ] معناه : يَعْلون ، ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها : ( والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ) ( {[10202]} ) ،
{ ولولا } حرف امتناع لوجود ، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوععِ جوابها لأجل وقوع شرطها ، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة ، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها .
لما تقرر أن مِن خُلُقهم تعظيمَ المال وأهل الثراء وحُسْبانَهم ذلك أصل الفضائل ولم يَهتموا بزكاء النّفوس ، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين ، بقوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرف : 32 ] وقوله : { ورحمة ربك خير مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] ، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاَ حَظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيراً ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير ، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسباباً نظمها في سلك النظُم الاجتماعية وجعل لها آثاراً مناسبة لها ، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة ، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول . وأما مواهب النفوس الطيّبة فمَصَادرُ لنفع أصحابها ونفع الأمة ، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك ، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية .
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] ، فهذه الجملة عطف على جملة { ورحمت ربك خير مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] .
والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس ، فيكون التعريف للاستغراق ، أي جميع البشر . والأمة : الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذٍ ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي{[374]} .
فالمعنى عليه : لَوْلاَ أن يَصير النّاس كلّهم كفاراً لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لِمَا ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة ، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثراً في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لِتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفرِ ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى : لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراضضِ الإيمان ، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة ، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدِّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله : { ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم } [ هود : 118 ، 119 ] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم ، أي أبقى بينهم بصيصاً من نور الهدى .
ويحتمل وهو الأولى عندي : أن يكون التعريف في { الناس } للعهد مراداً به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله تعالى : { إن النّاس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] ويكون المراد بكونهم أمّة واحدة اتحادهم في الثراء .
والمعنى : لولا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض ، هذا لمالِه ، وهذا لصناعته ، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمان وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية . وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزناً فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال ، فصار الكلام يقتضي مقدَّراً محذوفاً تقديره لكن لا يكون النّاس سَواء في الغِنى لأنّا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنّه يفضي إلى انحرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم ، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه .
ويرجح هذا جعل متعلق فعل { يكفر } خصوص وصف الرحمان فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمان { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] وقد تكرر التورّك عليهم بذلك في آي كثيرة .
ومعنى { لجعلنا لمن يكفر } لَقدَّرنا في نظام المجتمع البشري أسبابَ الثراء متصلةً بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سبباً ومجلبة للغنى ، ولو أراد الله ذلك لهيّأ له أسبابه في عقول النّاس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفاً منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظاً منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها . وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربّك ما فعلوه .
واللام في قوله : { لبيوتهم } مثل اللام في قوله : { لمن يكفر بالرحمن } ، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمان فيكون قوله { لبيوتهم } بدلَ اشتمال ممّن يكفر بالرحمان . وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو : مَن ذا أسعيد أم علي ؟ فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا : من ذا سعيد أم علي ؟ وتقدم عند قوله تعالى : { ومن النخل مِن طَلْعِها قِنوانٌ دانيةٌ } في سورة الأنعام ( 99 ) .
ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمان في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قَرَن التحقيرِ ، ثم يذكر ما يعزّ وجود أمثاله من الفضة والذهب ، وإذ قد كان الخبر كله مستغرباً كان حقيقاً بأن يُنْظَم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل .
وقرأ الجمهور { سُقُفاً } بضم السين وضم القاف جمع سَقف بفتح السين وسكون القاف وهو : البناء الممتد على جدران البيت المغطِّي فضاء البيت ، وتقدم عند قوله تعالى : { فخرّ عليهم السقفُ من فوقهم } في سورة النحل ( 26 ) . وهذا الجمع لا نظير له إلا رَهْن ورُهن ولا ثالث لهما . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر سَقْفاً } بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد . والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله { لبيوتهم } كأنه قيل : لكل بيت سقف .
والزخرف : الزينة قال تعالى : { زخرف القول غروراً } في سورة الأنعام ( 112 ) ، فيكون هنا عطفاً على { سقفاً } جمعاً لعديد المحاسن ، ويُطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به ، كقوله : { أو يكونَ لك بيتٌ من زخرفٍ } [ الإسراء : 93 ] ، فيكون { وزخرفاً } عطفاً على { سقفاً } بتأويل : لجعلنا لهم ذهباً ، أي لكانت سُقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذَهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلْوينها . وابتدىء بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللّون ، وأُخّر الذهب لأنه أندر في الحلي ، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنويناً ينقلب في الوقف ألفاً فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف .
ويجوز أن يكون لفظ { زخرفاً } مستعملاً في معنييه استعمال المشترك ، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقُف والمعارج بالفضة . و { معارج } اسمُ جمع مِعْراج ، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي .
ومعنى { يظهرون } : يعلُون كما في قوله تعالى : { فما استطاعوا أن يَظْهروه } [ الكهف : 97 ] ، أي أن يتسوروه .
وسُرُر بضمتين : جمع سرير ، وتقدم عند قوله تعالى : { على سُرُرٍ متقابلين } في سورة الصافات ( 44 ) ، وفائدة وصفها بجملة { عليها يتكئون } الإشارة إلى أنهم يُعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب . والمراد أن المعارج والأبواب والسُّرُر من فضة ، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وُصف المعطوف عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم هوان الدنيا عليه، فقال:
{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة}، يعني ملة واحدة، يعني على الكفر، يقول: لولا أن ترغب الناس في الكفر، إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق، {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن} لهوان الدنيا عليه.
{لبيوتهم سقفا من فضة} يعني بالسقف سماء البيت.
{ومعارج عليها يظهرون} يقول: درجا على ظهور بيوتهم يرتقون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي لم يؤمن اجتماعهم عليه، لو فعل ما قال جلّ ثناؤه، وما به لم يفعله من أجله؛ فقال بعضهم: ذلك اجتماعهم على الكفر. وقال: معنى الكلام: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر، فيصيرَ جميعهم كفارا "لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحمَنِ لبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ"...
وقال آخرون: اجتماعهم على طلب الدنيا وترك طلب الآخرة، وقال: معنى الكلام: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على طلب الدنيا ورفض الآخرة...
وقوله: "لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحْمَن لِبُيُوتِهِمْ سُقْفا مِنْ فِضّةٍ "يقول تعالى ذكره: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن في الدنيا سقفا، يعني أعالي بيوتهم، وهي السطوح فضة... وقوله: "وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ" يقول: ومراقي ودَرَجا عليها يصعدون، فيظهرون على السقف والمعارج: هي الدرج نفسها...
المعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم:
وثانيها: معارج أيضا من فضة عليها يظهرون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دلت صريح آية التمتيع وتلويح ما بعدها، أن البسط في الرزق الموجب للعلو مع أنه خسيس المنزلة ناقص المقدار مقتض للخروج عن السواء، وكان التقدير: فنحن نخص بهذا الخير للأفراد في الأدوار الآحاد من الأبرار لنستنقذ بهم من شئنا من الضلال ونعطي الحطام للعتاة الطغام الأرذال ابتلاء للعباد؛ ليبين لهم أهل البغي من أهل الرشاد، ولولا ما اقتضته حكمتنا بترتيب هذا الوجود على الأسباب من المفاوتة بين الناس لقيام الوجود لساوينا بينهم، وعطف: عليه قوله مذكراً بلطفه بالمؤمنين وبره لهم، برفعه ما يقضتي لهم شديد المجاهدة وعظيم المصابرة والمكابدة لحال تزل فيه الأقدام عن سنن الهدى من الميل والإصغاء إلى مظان الغنى والملك وتمام المكنة والعظمة:
{ولولا أن يكون الناس} أي أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم.
{أمة واحدة} أي في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارها وهممهم إلا من عصم الله.
{لجعلنا} أي في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لم يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضنا لها.
{لمن يكفر} وقوله: {بالرحمن} أي العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها للمبعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر؛ لولا العلة التي ذكرها سبحانه من الرفق بالمؤمنين.
ولما كان تزيين الظرف دائماً بحسب زينة المظروف، دل على ما لهم من ملابسهم ومراكبهم وغير ذلك من أمورهم بزينة المنازل، فقال مبدلاً من {لمن} بدل الاشتمال لأن سوقه على طريق الإبدال أروع: {لبيوتهم} أي التي ينزلونها {سقفاً} أي هذا الجنس في قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالموحدة بدليل قراءة الباقين بضمتين جمعاً.
{من فضة} كأنه خصها لإفادتها النور.
{ومعارج} أي من فضة، وهي المصاعد من الدرج؛ لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج. {عليها يظهرون} أي يعلون ويرتقون على ظهورها إلى المعالي.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
لولا أن يكونوا خلقوا ليكونوا أمة واحدة، للترادف والتعاون والتضامّ، وما به قوام حياتهم كالجسم الواحد، لجعلنا للناس ما ذكر من الزين والحليّ لدخوله تحت القدرة الكاملة، إلا أن ذلك مبطل للحكمة ومخرب لنظام الوجود.
وإنما عبّر عن الناس بمن يكفر بالرحمن، رعاية للأكثر وهم الكفار، فإنهم الذين طبقوا ظهر الأرض وملأوا وجهها.
وحطّا لقدر الدنيا وتصغيرا لشأنها، بأن تؤتى لمن هو الأدنى منزلة. والأخس قدرا. وخلاصة المعنى: أن خلقهم أمة واحدة مدنيين بالطبع، مانع من بسط الدنيا عليهم جميعهم...
فالآية هذه تتمة لما قبلها، في جواب أولئك الظانين، أن العظمة الدنيوية تستتبع النبوة، فبين تعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى. وهي التسخير. وفي الثانية حقارة الدنيا عنده وأنه لولا التسخير لآتاها أحط الخلق وأبعدهم منه، مبالغة في الإعلام بضعتها. وهذا مصداق ما ورد من أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن ما عنده خير وأبقى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون. ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون. وزخرفاً. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا. والآخرة عند ربك للمتقين..
فهكذا -لولا أن يفتتن الناس. والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم- لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة -بيوتاً سقفها من فضة، وسلالمها من ذهب.
بيوتاً ذات أبواب كثيرة. قصورا. فيها سرر للاتكاء، وفيها زخرف للزينة.. رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن!
(وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا)..
متاع زائل، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا.
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. ويميزهم على من يكفر بالرحمن، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيادي الأبرار منه خالية؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار.
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة، أو بما يملكون من مال. يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى، ولا تشي باختيار!
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد؛ واختياره. واطراح العظماء المتسلطين!
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة، واختلاف النظم، وتعدد المذاهب، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي، الذي يجمع بين الثبات والتغير، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة؛ ويحسبون أن التطور والتغير، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته!
فأما نحن- أصحاب العقيدة الإسلامية -فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات.. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولولا} حرف امتناع لوجود، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوعِ جوابها لأجل وقوع شرطها، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها.
لما تقرر أن مِن خُلُقهم تعظيمَ المال وأهل الثراء وحُسْبانَهم ذلك أصل الفضائل ولم يَهتموا بزكاء النّفوس، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين، بقوله: {أهم يقسمون رحمة ربك} [الزخرف: 32] وقوله: {ورحمة ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 32]، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاَ حَظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيراً ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسباباً نظمها في سلك النظُم الاجتماعية وجعل لها آثاراً مناسبة لها، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول. وأما مواهب النفوس الطيّبة فمَصَادرُ لنفع أصحابها ونفع الأمة، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية.
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]، فهذه الجملة عطف على جملة {ورحمت ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 32].
والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس، فيكون التعريف للاستغراق، أي جميع البشر. والأمة: الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذٍ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.
فالمعنى عليه: لَوْلاَ أن يَصير النّاس كلّهم كفاراً لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لِمَا ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثراً في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لِتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفرِ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى: لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراضضِ الإيمان، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدِّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله: {ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم} [هود: 118، 119] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم، أي أبقى بينهم بصيصاً من نور الهدى.
ويحتمل وهو الأولى عندي: أن يكون التعريف في {الناس} للعهد مراداً به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله تعالى: {إن النّاس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] ويكون المراد بكونهم أمّة واحدة اتحادهم في الثراء.
والمعنى: لولا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض، هذا لمالِه، وهذا لصناعته، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمان وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية. وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزناً فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال، فصار الكلام يقتضي مقدَّراً محذوفاً تقديره لكن لا يكون النّاس سَواء في الغِنى لأنّا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنّه يفضي إلى انحرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه.
ويرجح هذا جعل متعلق فعل {يكفر} خصوص وصف الرحمان فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمان {قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60] وقد تكرر التورّك عليهم بذلك في آي كثيرة.
ومعنى {لجعلنا لمن يكفر} لَقدَّرنا في نظام المجتمع البشري أسبابَ الثراء متصلةً بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سبباً ومجلبة للغنى، ولو أراد الله ذلك لهيّأ له أسبابه في عقول النّاس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفاً منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظاً منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها. وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربّك ما فعلوه.
واللام في قوله: {لبيوتهم} مثل اللام في قوله: {لمن يكفر بالرحمن}، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمان فيكون قوله {لبيوتهم} بدلَ اشتمال ممّن يكفر بالرحمان. وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو: مَن ذا أسعيد أم علي؟ فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا: من ذا سعيد أم علي؟ وتقدم عند قوله تعالى: {ومن النخل مِن طَلْعِها قِنوانٌ دانيةٌ} في سورة الأنعام (99).
ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمان في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قَرَن التحقيرِ، ثم يذكر ما يعزّ وجود أمثاله من الفضة والذهب، وإذ قد كان الخبر كله مستغرباً كان حقيقاً بأن يُنْظَم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل.
وقرأ الجمهور {سُقُفاً} بضم السين وضم القاف جمع سَقف بفتح السين وسكون القاف وهو: البناء الممتد على جدران البيت المغطِّي فضاء البيت، وتقدم عند قوله تعالى: {فخرّ عليهم السقفُ من فوقهم} في سورة النحل (26). وهذا الجمع لا نظير له إلا رَهْن ورُهن ولا ثالث لهما. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر سَقْفاً} بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد. والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله {لبيوتهم} كأنه قيل: لكل بيت سقف.
والزخرف: الزينة قال تعالى: {زخرف القول غروراً} في سورة الأنعام (112)، فيكون هنا عطفاً على {سقفاً} جمعاً لعديد المحاسن، ويُطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به، كقوله: {أو يكونَ لك بيتٌ من زخرفٍ} [الإسراء: 93]، فيكون {وزخرفاً} عطفاً على {سقفاً} بتأويل: لجعلنا لهم ذهباً، أي لكانت سُقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذَهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلْوينها. وابتدىء بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللّون، وأُخّر الذهب لأنه أندر في الحلي، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنويناً ينقلب في الوقف ألفاً فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف.
ويجوز أن يكون لفظ {زخرفاً} مستعملاً في معنييه استعمال المشترك، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقُف والمعارج بالفضة. و {معارج} اسمُ جمع مِعْراج، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي.
ومعنى {يظهرون}: يعلُون كما في قوله تعالى: {فما استطاعوا أن يَظْهروه} [الكهف: 97]، أي أن يتسوروه.
وسُرُر بضمتين: جمع سرير، وتقدم عند قوله تعالى: {على سُرُرٍ متقابلين} في سورة الصافات (44)، وفائدة وصفها بجملة {عليها يتكئون} الإشارة إلى أنهم يُعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب. والمراد أن المعارج والأبواب والسُّرُر من فضة، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وُصف المعطوف عليه.