{ 40 - 41 ْ } { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ }
يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها ، مع أنها آيات بينات ، واستكبر عنها فلم يَنْقَد لأحكامها ، بل كذب وتولى ، أنهم آيسون من كل خير ، فلا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا وصعدت تريد العروج إلى اللّه ، فتستأذن فلا يؤذن لها ، كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته كذلك لا تصعد بعد الموت ، فإن الجزاء من جنس العمل .
ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته ، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى اللّه ، وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي ، وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه .
وقوله عن أهل النار { وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ ْ } وهو البعير المعروف { فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ْ } أي : حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما ، في خرق الإبرة ، الذي هو من أضيق الأشياء ، وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال ، أي : فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط ، فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة ، قال تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ْ } وقال هنا { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ْ } أي : الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم .
ثم بين القرآن بعد ذلك لونا آخر من ألوان عذاب المكذبين فقال : { إِنَّ الذين . . .
هاتان الآيتان تصوران أكمل تصوير استحالة دخول المشركين الجنة بسبب تكذيبهم لآيات الله واستكبارهم عنها .
وقد فسر بعض العلماء قوله - تعالى - : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء } بمعنى ، لا تقبل أعمالهم ولا ترفع إلى الله كما ترفع أعمال الصالحين . قال - تعالى - : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } وفسره بعضهم بمعنى أن أرواحهم لا تصعد إلى السماء بعد الموت ، لأنها قد أغلقت عليهم بسبب شركهم ، ولكنها تفتح لأرواح المؤمنين .
والمراد أن الكافرين عند موتهم وعند حسابهم يوم القيامة يكونون على غضب الله ولعنته بسبب ما ارتكبوه في الدنيا من شرك وظلم .
أما قوله - تعالى - : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } فمعناه : أن هؤلاء المشركين لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في الضخامة وهو الجمل الكبير ، فيما هو مثل في الضيق وهو ثقب الإبرة .
وفى قراءة { حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } - بضم الجيم وتشديد الميم وفتحا - وهو الحبل الغليظ أى : لا يدخلون الجنة حتى يدخل الحبل الغليظ الذي تربط به السفن في ذلك الثقب الصغير للإبرة ، وهيهات أن يحصل هذا ، فكما أنه غير ممكن حصول ذلك فكذلك غير ممكن دخول المشركين الجنة .
قال الجمل في حاشيته : ولا يدخلون الجنى حتى يلج الجمل في سم الخياط . الولوج : الدخول بشدة ، ولذلك يقال هو الدخول في ضيق فهو أخص من مطلق الدخول . والجمل معروف وهو الذكر من الإبل ، وسم الخياط ، ثقب الإبرة ، وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبرها ، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا فثبت أن الموقوف على المحال محال ، فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة ميئوس منه قطعا .
وقوله : { وكذلك نَجْزِي المجرمين } معناه : ومثل ذلك الجزاء الرهيب نجزى جنس المجرمين ، الذين صار الإجرام وصفا لازما لهم .
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم ، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل - وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم - :
( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، وكذلك نجزي المجرمين . لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ، وكذلك نجزي الظالمين ) . .
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب . . مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة . فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير ، فانتظر حينئذ - وحينئذ فقط - أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين ، فتقبل دعاءهم أو توبتهم - وقد فات الأوان - وأن يدخلوا إلى جنات النعيم ! أما الآن ، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط ، فهم هنا في النار ، التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا ؛ وتلاوموا فيها وتلاعنوا ، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء ، ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّىَ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين كذّبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدّقوا بها ولم يتبعوا رسلنا ، واسْتَكْبَرُوا عَنْها يقول : وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرا ، لا تفتح لهم لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء ، ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل ، لأن أعمالهم خبيثة . وإنما يرفع الكلم الطيب والعمل الصالح ، كما قال جلّ ثناؤه : إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيّبُ وَالعَمَلَ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ فقال بعضهم : معناه : لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يعلى ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : عنى بها الكفار أن السماء لا تفتح لأرواحهم وتفتح لأرواح المؤمنين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، قال : قال ابن عباس : تفتح السماء لروح المؤمن ، ولا تفتح لروح الكافر .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : إن الكافر إذا أخذ روحه ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء ، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط ، فضربته ملائكة الأرض فارتفع ، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا ، فهبط إلى أسفل الأرضين وإذا كان مؤمنا أخذ روحه ، وفُتح له أبواب السماء ، فلا يمرّ بملك إلاّ حياه وسلم عليه حتى ينتهي إلى الله ، فيعطيه حاجته ، ثم يقول الله : ردّوا روح عبدي فيه إلى الأرض ، فإني قضيت من التراب خلقه ، وإلى التراب يعود ، ومنه يخرج .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء إلى الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن ليث ، عن عطاء ، عن ابن عباس : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ : لا يصعد لهم قول ولا عمل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتّحُ لَهُم أبْوَابُ السّماءِ يعني : لا يصعد إلى الله من عملهم شيء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ يقول : لا تفتح لخير يعملون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : لا يصعد لهم كلام ولا عمل .
حدثنا مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سعيد : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : لا يرفع لهم عمل صالح ولا دعاء .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال : لأرواحهم ولا لأعمالهم .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول لعموم خبر الله جلّ ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم ، ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء ، فذلك على ما عمه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك . وذلك ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء ، قال : «فَيَصْعَدُونَ بِها فَلا يَمُرّونَ على مَلإٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلاّ قالوا : ما هَذَا الرّوحُ الخَبِيثُ ، فَيَقُولُونَ : فُلانٌ ، بأقْبَحِ أسْمائِهِ التي كان يُدعَى بهَا فِي الدّنْيا . حتى يَنْتَهُوا بِها إلى السّماءِ ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ » . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تُفَتّح لَهُمْ أبْوَابُ السّماء وَلا يَدْخُلُونَ الجَنّةَ حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «المَيّتُ تَحْضُرُهُ المَلائِكَةُ ، فإذَا كانَ الرّجُلُ الصّالِحُ قالُوا اخْرُجِي أيّتُها النّفْسُ الطّيّبَةُ كانَتْ في الجَسَدِ الطّيّبِ ، اخْرُجِي حَمِيدَةً ، وأبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحانٍ وَرَبَ غيرِ غَضْبانَ قال : فَيَقُولُونَ ذلكَ حتى يُعْرَجَ بِها إلى السّماءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا ، فَيُقالُ : مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : فُلانٌ ، فَيُقال : مَرْحَبا بالنّفْسِ الطّيّبَةِ التي كانَتْ في الجَسَدِ الطّيّبِ ، ادْخُلِي حَمِيدَةً ، وأبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحان وَربَ غيرِ غَضْبانَ فَيُقالُ لهَا ذلك حتى تَنْتَهِيَ إلى السّماءِ التي فِيها اللّهُ . وَإذَا كان الرّجُلُ السّوءُ قال : اخْرُجِي أيّتُها النّفْسُ الخَبِيثَةُ كانَت في الجَسَدِ الخَبِيثِ ، اخْرِجِي ذَمِيمَةً ، وَأبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسّاقٍ وآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ فَيَقُولُونَ ذلكَ حتى تَخْرُجَ ثُمّ يُعْرَجُ بِها إلى السّماءِ ، فَيُسْتَفْتَحُ لَها ، فَيُقالُ : من هَذَا ؟ فَيَقُولُون : فُلانٌ ، فَيَقُولُونَ : لا مَرْحَبا بالنّفْسِ الخَبِيثَةِ كانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ ، ارجِعِي ذَمِيمَةً فإنّهُ لا تُفْتَحُ لكِ أبْوابُ السّماءِ فَتُرسَلُ بينَ السماءِ والأرضِ فَتَصِيرُ إلى القَبْرِ » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : ثني ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة : «لا يُفْتَحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ » بالياء من يفتح وتخفيف التاء منها ، بمعنى : لا يفتح لهم جميعها بمرّة واحدة وفتحة واحدة . وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين : لا تُفَتّحُ بالتاء وتشديد التاء الثانية ، بمعنى : لا يفتح لهم باب بعد باب وشيء بعد شيء .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى ، وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبواب السماء بمرّة واحدة ولا مرّة بعد مرّة وباب بعد باب ، فكلا المعنيين في ذلك صحيح ، وكذلك الياء والتاء في يفتح وتفتح ، لأن الياء بناء على فعل الواحد للتوحيد والتاء ، لأن الأبواب جماعة ، فيخبر عنها خبر الجماعة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَدْخُلُونَ الجَنّةَ حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ وكذلكَ نَجْزِي المُجْرِمين .
يقول جلّ ثناؤه : ولا يدخل هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها الجنة التي أعدّها الله لأوليائه المؤمنين أبدا ، كما لا يلج الجمل فِي سَمّ الخياط أبدا ، وذلك ثقب الإبرة . وكلّ ثقب في عين أو أنف أو غير ذلك ، فإن العرب تسميه سَمّا وتجمعه سُموما وسِماما ، والسّمام في جمع السّمّ القاتل أشهر وأفصح من السموم ، وهو في جمع السّمّ الذي هو بمعنى الثقب أفصح ، وكلاهما في العرب مستفيض ، وقد يقال لواحد السّموم التي هي الثقوب : سَمّ وسُمّ بفتح السين وضمها ، ومن السّمّ الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق :
فَنَفّسْتُ عَنْ سَمّيْهِ حتى تَنَفّسا ***وَقُلْتُ لهُ لا تَخْشَ شَيْئا وَرَائِيا
يعني بسَمّيه : ثقَبي أنفه . وأما الخِياط : فإنه المِخْيَط وهي الإبرة ، قيل لها : خِيَاط ومخيط ، كما قيل : قِنَاع ومِقْنَع ، وإزار ومِئْزَر ، وقِرَام ومِقْرَم ، ولحاف ومِلْحَف . وأما القرّاء من جميع الأمصار ، فإنها قرأت قوله : فِي سَمّ الخِياطِ بفتح السين ، وأجمعت على قراءة «الجَمَل » بفتح الجيم والميم وتخفيف ذلك . وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ، فإنه حُكي عنهم أنهم كانوا يقرءون ذلك : «الجُمّل » بضم الجيم وتشديد الميم ، على اختلاف في ذلك عن سعيد وابن عباس .
فأما الذين قرءوه بالفتح من الحرفين والتخفيف ، فإنهم وجهوا تأويله إلى الجمل المعروف وكذلك فسروه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ قال : الجمل : ابن الناقة ، أو زوج الناقة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخِياطِ قال : الجمل : زوج الناقة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : الجمل : زوج الناقة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا قرة ، قال : سمعت الحسن يقول : الجمل الذي يقوم في المربد .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال : حتى يدخل البعير في خرق الإبرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن ، قال : هو الجمل . فلما أكثروا عليه ، قال : هو الأشتر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن يحيى ، قال : كان الحسن يقرؤها : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال : فذهب بعضهم يستفهمه ، قال : أشتر أشتر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن شعيب بن الحَبْحاب ، عن أبي العالية : حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال : الجمل : الذي له أربع قوائم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، أو حصين ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود في قوله : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال : زوج الناقة ، يعني الجمل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : أنه كان يقرأ : الجَمَلُ وهو الذي له أربع قوائم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد ، عن الضحاك : حتى يَلِجَ الجَمَلُ الذي له أربع قوائم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن قرة ، عن الحسن : حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال : الذي بالمربد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : «حتى يَلجَ الجَمَلُ الأصْفَرُ » .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، قال : حدثنا عبد الكريم بن أبي المخارق ، عن الحسن ، في قوله : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال : الجمل : ابن الناقة ، أو بعل الناقة .
وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا ، فرُوي عن ابن عباس في ذلك روايتان : إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل . ذكر الرواية بذلك عنه :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ والجمل : ذو القوائم . وذكر أن ابن مسعود قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ : هو الجمل العظيم لا يدخل في خرق الإبرة من أجل أنه أعظم منها . والرواية الأخرى ما :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : في قوله : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » قال : هو قَلْس السفينة .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، عن خالد بن عبد الله الواسطي ، عن حنظلة السدوسيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » يعني : الحبل الغليظ . فذكرت ذلك للحسن ، فقال : حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال عبد الأعلى . قال أبو غسان ، قال خالد : يعني البعير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أسامة ، عن فضيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قرأ : «الجُمّل » مثقلة ، وقال : هو حبل السفينة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : «الجُمّل » : حبال السفن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » قال : الحبل الغليظ .
: حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ في سَمّ الخياطِ » قال : هو الحبل الذي يكون على السفينة .
واختلف عن سعيد بن جبير أيضا في ذلك ، فرُوي عنه روايتان إحداهما مثل الذي ذكرنا عن ابن عباس بضمّ الجيم وتثقيل الميم . ذكر الرواية بذلك عنه :
حدثنا عمران بن موسى القزّار ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا حسين المعلم ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ، أنه قرأها : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ » يعني : قلوس السفن ، يعني الحبال الغلاظ .
والأخرى منهما بضم الجيم وتخفيف الميم . ذكر الرواية بذلك عنه :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عمرو ، عن سالم بن عجلان الأفطس ، قال : قرأت على أبي : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ » فقال : «حتى يَلِجَ الجُمَلُ » خفيفة : هو حبل السفينة ، هكذا أقرأنيها سعيد بن جبير .
وأما عكرمة ، فإنه كان يقرأ ذلك : الجُمّل بضمّ الجيم وتشديد الميم ، وبتأوّله كما :
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن عيسى بن عبيدة ، قال : سمعت عكرمة يقرأ «الجُمّلُ » مثقلة ، ويقول : هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا كعب بن فَرّوخ ، قال : حدثنا قتادة ، عن عكرمة ، في قوله : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » قال : الحبل الغليظ في خرق الإبرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياط » قال : حبل السفينة في سَمّ الخياط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : سمعت مجاهدا يقول : الحبل من حبال السفن .
وكأن من قرأ ذلك بتخفيف الميم وضمّ الجيم على ما ذكرنا عن سعيد بن جبير على مثال الصّرَد والجُعَل وجهه إلى جماع جملة من الحبال جمعت جُمَلاً ، كما تجمع الظلمة ظُلَما والخربة خُرَبا .
وكان بعض أهل العربية ينكر التشديد في الميم ، ويقول : إنما أراد الراوي الجُمَل بالتخفيف ، فلم يفهم ذلك منه ، فشدّده .
وحُدثت عن الفراء ، عن الكسائي أنه قال : الذي رواه عن ابن عباس كان أعجميّا . وأما من شدّد الميم وضمّ الجيم ، فإنه وجهه إلى أنه اسم واحد : وهو الحبل أو الخيط الغليظ .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهو : حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ بفتح الجيم والميم من «الجمل » وتخفيفها ، وفتح السين من «السّمّ » ، لأنها القراءة المستفيضة في قرّاء الأمصار ، وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القرّاء ، وكذلك ذلك في فتح السين في قوله : سَمّ الخِياطِ .
وإذ كان الصواب من القراءة ذلك ، فتأويل الكلام : ولا يدخلون الجنة حتى يلج ، والولوج : الدخول من قولهم : وَلَجَ فلان الدار يَلِجُ وُلُوجا ، بمعنى : دخل الجمل في سَمّ الإبرة وهو ثقبها . وكذلكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ يقول وكذلك نثيب الذين أجرموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الاَخرة .
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : سَمّ الخياط قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وابن مهدي وسويد الكلبي ، عن حماد بن زيد ، عن يحيى بن عتيق ، قال : سألت الحسن ، عن قوله : حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ قال : ثقب الإبرة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا كعب بن فَرّوخ ، قال : حدثنا قتادة ، عن عكرمة : في سَمّ الخياطِ قال : ثقب الإبرة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : في سَمّ الخياط قال : جحر الإبرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : في سَمّ الخياطِ يقول : جحر الإبرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : في سَمّ الخياطِ قال : في ثَقبه .
هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر «لا تُفتَّح » بضم التاء الأولى وتشديد الثانية ، وقرأ أبو عمرو «تُفْتَح » بضم التاء وسكون الفاء وتخفيف الثانية ، وقرأ حمزة والكسائي «يفتح » بالياء من أسفل وتخفيف التاء ، وقرأ أبو حيوة وأبو إبراهيم «يفَتّح » بالياء وفتح الفاء وشد التاء ، ومعنى الآية لا يرتفع لهم عمل ولا روح ولا دعاء ، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين بالله تعالى ، قاله ابن عباس وغيره ، وذكر الطبري في كيفية قبض روح المؤمن والكافر آثاراً اختصرتها إذ ليست بلازمة في الآية ، وللين أسانيدها أيضاً ، ثم نفى الله عز وجل عنهم دخول الجنة وعلق كونه بكون محال لا يكون ، وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرى حيث يدخل الخيط ، و { الجمل } كما عهد وال { سم } كما عهد ، وقرأ جمهور المسلمين : «الجمل » ، واحد الجمال ، وقال الحسن هو الجمل الذي يقوم بالمديد ومرة لما أكثروا عليه قال هو الأشتر وهو الجمل بالفارسية ، ومرة قال هو الجمل ولد الناقة وقاله ابن مسعود .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عبارة تدل على حرج السائل لارتياب السائلين لا شك باللفظة من أجل القراءات المختلفة ، وذكر الطبري عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : «حتى يلج الجمل الأصفر » ، وقرأ أبو السمال «الجمْل » بسكون الميم وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن جبير الشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء : «الجُمّل » بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة ، وقرأ سالم الأفطس وابن خير وابن عامر أيضاً : «الجُمْل » بتخفيف الميم من الجمل وقالوا هو حبل السفن ، وروى الكسائي أن الذي روى تثقيل الميم عن ابن عباس كان أعجمياً فشدد الميم لعجمته .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة وقرأ سعيد بن جبير فيما روى عنه : «الجُمْل » بضم الجيم وسكون الميم ، وقرأ ابن عباس أيضاً : «الجُمُل » بضم الجيم والميم ، و «السم » : الثقب من الإبرة وغيرها يقال سَم وسِم بفتح السين وكسرها وضمها ، وقرأ الجمهور بفتح السين ، وقرأ ابن سيرين بضمها ، وقرأ أبو حيوة بضمها وبكسرها ، وروي عنه الوجهان ، و { الخياط } والمخيط الإبرة ، وقرأ ابن مسعود : «في سم المِخْيَط » بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء ، وقرأ طلحة «في سم المَخيط » بفتح الميم ، وكذلك أبى على هذه الصفة وبمثل هذا الحتم وغيره يجزى الكفرة وأهل الجرائم على الله تعالى .
استئناف ابتدائي مسوق لتحقيق خلود الفريقين في النّار ، الواقععِ في قوله : { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] فأخبر الله بأنّه حرمهم أسباب النّجاة ، فَسَدّ عليهم أبواب الخير والصّلاح ، وبأنّه حرّمهم من دخول الجنّة .
وأكّد الخبر ب { إنّ } لتأييسهم من دخول الجنّة ، لدفع توهّم أن يكون المراد من الخلود المتقدّم ذكرُه الكنايةَ عن طول مدّة البقاء في النّار فإنّه ورد في مواضع كثيرة مراداً به هذا المعنى .
ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضّمير عائداً إلى إحدى الطّائفتين المتحاورتين في النّار ، واختير من طرق الإظهار طريق التّعريف بالموصول إيذاناً بما تومىء إليه الصّلة من وجه بناءِ الخبر ، أي : إنّ ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها ، كما تقدّم في نظيرها السّابق آنفاً .
والسّماءُ أطلقت في القرآن على معانٍ ، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير الأرضيّة ، فالسّماء مجموع العوالم العليا وهي مَراتب وفيها عوالم القُدس الإلهيّةُ من الملائكة والرّوحانيات الصّالحة النّافعة ، ومصدرُ إفاضة الخيرات الرّوحيّة والجثمانيّة على العالم الأرضي ، ومصدَرُ المقادير المقدّرة قال تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] ، فالسّماء هنا مراد بها عالم القدس .
وأبوابُ السّماء أسبابُ أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال ، ومسالكُ وصول الأمور الخيّريّة الصّادرة من أهل الأرض ، وطرق قبولها ، وهو تمثيل لأسباب التّزكية ، قال تعالى : { والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] ، وما يعلم حقائقها بالتّفصيل إلاّ الله تعالى ، لأنّها محجوبة عنّا ، فكما أنّ العفاة والشّفعاء إذا وَرَدُوا المكان قد يُقبلون ويُرضى عنهم فتُفْتَح لهم أبواب القصور والقباب ويُدخلون مُكرّمين ، وقد يردّون ويُسخطون فتوصد في وجوههم الأبوابُ ، مُثِّل إقصاء المكذّبين المستكبرين وعدمُ الرّضا عنهم في سائر الأحوال ، بحال من لا تفتَح له أبواب المنازل ، وأضيفت الأبواب إلى السّماء ليظهر أنّ هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهيّة الروحية ، فيشمل ذلك عدم استجابة الدّعاء ، وعدم قبول الأعمال والعبادات ، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنّة ومقاعد المؤمنين منها ، فقوله : { لا نفتح لهم أبواب السماء } كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهيّة المحضة ، وإن كانوا ينالون من نِعم الله الجثمانية ما يناله غيرهم ، فيغاثون بالمَطَر ، ويأتيهم الرّزق من الله ، وهذا بيان لحال خذلانهم في الدّنيا الحائل بينهم وبين وسائل دخول الجنّة . كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم « كلّ ميسَّر لِمّا خُلِق له » وقال تعالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } [ الليل : 5 10 ] .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ : { لا تُفَتَّح } بضمّ التّاء الأولى وفتح الفاء والتّاءِ الثّانية مشدّدة وهو مبالغة في فَتح ، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم ، أو أشير بتلك المبالغة إلى أن المنفي فتح مخصوص وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين ، وهو فتح قوي ، فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم .
وقرأ أبو عَمرو بضمّ التّاء الأولى وسكون الفاء وفتح التّاء الثّانية مخفّفة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلَف { لا يُفتَحُ } بمثنّاة تحتيّة في أوّله مع تخفيف المثنّاة الفوقيه مفتوحة على اعتبار تذكير الفعل لأجل كون الفاعل جمعاً لمذكّر .
وقوله : { ولا يدخلون الجنّة } إخبار عن حالهم في الآخرة وتحقيق لخلودهم في النّار .
وبعد أن حُقّق ذلك بتأكيد الخبر كلّه بحرف التّوكيد ، زيد تأكيداً بطريق تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه ، المشتهرِ عند أهل البيان بتأكيد المدح بما يُشْبه الذّم ، وذلك بقوله تعالى : { حتى يلج الجمل في سم الخياط } فقد جعل لانتفاء دخولهم الجنّة امتداداً مستمراً ، إذْ جعل غايته شيئاً مستحيلاً ، وهو أن يَلج الجمل في سَمّ الخياط ، أي لو كانت لانتفاء دخولهم الجنّة غايةٌ لكانت غايتُه ولوجَ الجْمل وهو البعير في سَمّ الخِياط ، وهو أمر لا يكون أبداً .
والجَمَل : البعير المعروف للعرب ، ضُرب به المثل لأنّه أشهر الأجسام في الضّخامة في عرف العرب . والخِياط هو المِخْيَط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبْرَة ، والفِعال وَرَدَ اسماً مرادفاً للمِفعَل في الدّلالة على آلةِ الشّيء كقولهم حِزَام ومِحْزم ، وإزار ومِئْزر ، ولِحاف ومِلحَف ، وقِناع ومِقنع .
والسَمّ : الخَرْت الذي في الإبرة يُدخل فيه خيط الخائط ، وهو ثقب ضيّق ، وهو بفتح السّين في الآية بلغة قريش وتضمّ السّين في لغة أهل العالية . وهي ما بين نجد وبين حدود أرض مكّة .
والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط ، ليعلم أنّ دخول الجمل في خَرْت الإبرة محال متعذّر ما داما على حاليهما المتعارفين .
والإشارة في قوله : { وكذلك } إشارة إلى عدم تفتّح أبواب السّماء الذي تضمّنه قوله : { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة } أي ، ومثل ذلك الانتفاء ، أي الحرمان نجزي المجرمين لأنّهم بإجرامهم ، الذي هو التّكذيب والإعراض ، جعلوا أنفسهم غير مكترثين بوسائل الخير والنّجاة ، فلم يتوخّوها ولا تطلبوها ، فلذلك جزاهم الله عن استكبارهم أن أعرض عنهم ، وسدّ عليهم أبواب الخيرات .
وجملة { وكذلك نجزي المجرمين } تذييل يؤذن بأنّ الإجرام هو الذي أوقعهم في ذلك الجزاء ، فهم قد دخلوا في عموم المجرمين الذين يجْزون بمثل ذلك الجزاء ، وهم المقصود الأوّل منهم ، لأنّ عقاب المجرمين قد شُبّه بعقاب هؤلاء ، فعلم أنّهم مجرمون ، وأنّهم في الرّعيل الأوّل من المجرمين ، حتّى شُبِّه عقاب عموم المجرمين بعقاب هؤلاء وكانوا مثَلا لذلك العموم .
والإجرام : فعل الجُرْم بضمّ الجيم وهو الذنْب ، وأصل : أجرم صار ذا جُرم ، كما يقال : ألْبَنَ وأتمر وأخْصَب .