قوله تعالى : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين }
اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار ، وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله : { كذبوا بآياتنا } أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هي أصول الدين ، فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات ، والمشركون ينكرون دلائل التوحيد ، ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته ، ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد ، فقوله : { كذبوا بآياتنا } يتناول الكل ، ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون : { واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق } .
أما قوله تعالى : { لا تفتح لهم أبواب السماء } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو { لا تفتح } بالتاء خفيفة ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة . أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } { ففتحنا أبواب السماء } وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم .
المسألة الثانية : في قوله : { لا تفتح لهم أبواب السماء } أقوال . قال ابن عباس : يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ، وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } ومن قوله : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } وقال السدي وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ، وتفتح لأرواح المؤمنين ، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل : أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها ، فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ، ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة ، ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة ، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء .
والقول الثالث : أن الجنة في السماء فالمعنى : لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة .
والقول الرابع : لا تنزل عليهم البركة والخير ، وهو مأخوذ من قوله : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة إما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات ، وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السماوات وذلك يدل على أن السماوات موضع بهجة الأرواح ، وأماكن سعادتها ، ومنها تنزل الخيرات والبركات ، وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات ، ولما كان الأمر كذلك كان قوله : { لا تفتح لهم أبواب السماء } من أعظم أنواع الوعيد والتهديد .
أما قوله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : «الولوج » الدخول . والجمل مشهور ، و«السم » بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين { سم } بالضم ، وقال صاحب «الكشاف » : يروى { سم } بالحركات الثلاث ، وكل ثقب في البدن لطيف فهو «سم » وجمعه سموم ، ومنه قيل : السم القاتل . لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب ، و{ الخياط } ما يخاط به . قال الفراء : ويقال خياط ومخيط ، كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف ، وقناع ومقنع ، وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات ، لأنه أكبر الحيوانات جسما عند العرب . قال الشاعر :
جسم الجمال وأحلام العصافير *** . . .
فجسم الجمل أعظم الأجسام ، وثقب الإبرة أضيق المنافذ ، فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالا ، فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط ، وكان هذا شرطا محالا ، وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال ، وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوسا منه قطعا .
المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : قرأ ابن عباس { الجمل } بوزن القمل ، وسعيد بن جبير { الجمل } بوزن النغر . وقرئ { الجمل } بوزن القفل ، و{ الجمل } بوزن النصب ، و{ الجمل } بوزن الحبل ، ومعناها : القلس الغليظ ، لأنه حبال جمعت جملة واحدة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل . يعني : أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة ، والبعير لا يناسبه . إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه .
المسألة الثالثة : القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية ، فقالوا : إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت ، فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ، ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط ، فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي ، وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : { وكذلك نجزي المجرمين } أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين ، والمجرمون والله أعلم ههنا هم الكافرون ، لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله ، والاستكبار عنها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.