الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَٰبُ ٱلسَّمَآءِ وَلَا يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلۡخِيَاطِۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (40)

وقرأ أبو عمرو : { لا تُفْتَح } : بضم التاء من فوق والتخفيف . والأخوان بالياء من تحت والتخفيف ، والباقون : بالتأنيث والتشديد . فالتأنيث والتذكير باعتبار الجمع والجماعة ، والتخفيفُ والتضعيفُ باعتبار التكثير وعدمِه ، والتضعيفُ هنا أوضح لكثرة المتعلق . وهو في هذه القراءاتِ مبنيٌّ للمفعول . وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم " تَفَتَّح " بفتح التاء مِنْ فوق والتضعيف ، والأصل :/ لا تتفتَّح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما ، وقد تقدَّم في " تذكَّرون " ونحوه ، ف " أبواب " على قراءة أبي حَيْوة فاعلٌ ، وعلى ما تقدم مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه . وقرئ : " لا تَفْتَحُ " بالتاء ونصب " الأبواب " على أن الفعل للآيات ، وبالياء على أن الفعل لله ، ذكره الزمخشري .

وقوله { فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } متعلقٌ ب " يَلِجُ " . وسَمُّ الخياط ثقب الإِبرة وهو الخُرْتُ ، وسينُه مثلثةٌ ، وكل ثقبٍ ضيقٍ فهو سَمّ . وقيل : كل ثقب في البدن ، وقيل : كل ثقب في أنفٍ أو أذن فهو سَمٌّ ، وجمعه سُموم ، قال الفرزدق :

فَنَفَّسْتُ عن سَمَّيْهِ حتى تَنَفَّسَا *** وقلت له لا تخش شيئاً ورائيا

والسُّمُّ : القاتل سُمِّي بذلك لِلُطْفه وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب ، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أريد به معنى الفاعل لدخولِه باطنَ البدن ، وقد سَمَّه إذا أدخله فيه ، ومنه " السَّامَّة " للخاصَّة الذين يدخلون في بواطن الأمور ومَسَامِّها ، ولذلك يقال لهم الدُّخْلُلُ . والسَّموم : الريح الحارة لأنها تؤثر تأثيرَ السُّمِّ القاتل . والخِياط والمِخْيَط الآلة التي يُخاط بها فِعال ومِفَْل كإزار ومِئْزَر ولِحاف ومِلْحَف وقِناع ومِقْنع . ولا يقال للبعير جَمَل إلا إذا بَزَل . وقيل : لا يُقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين ، وأول ما يخرج ولد الناقة ولم تُعرف ذكوريتُه أو أنوثتُه يقال له : سَلِيْل ، فإن كان ذكراً فهو سَقْبٌ ، والأنثى حائل ، ثم هو حُوار إلى الفِطام وبعده فصيل إلى سنة ، وفي الثانية ابنُ مَخاض وبنت مخاض ، وفي الثالثة ابن لَبون وبنت لَبون ، وفي الرابعة حِقٌّ وحِقَّة ، وفي الخامسة جَذَع وجَذَعة ، وفي السادسة ثَنِيٌّ وثَنِيَّة ، وفي السابعة رَباع ورَباعِية مخففة ، وفي الثامنة سَديس لهما ، وقيل : سَديسة للأنثى ، وفي التاسعة بازل وبازلة ، وفي العاشرة مُخْلِفٌ ومُخْلِفة ، وليس بعد البُزُول والإِخلاف سِنٌّ بل يقال : بازل عام أو عامين ومُخْلِفُ عام أو عامَيْن حتى يَهْرَم فيقال له فَوْد .

والوُلوج : الدخول بشدة ولذلك يقال : هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول . والوَليجة : كلُّ ما يعتمده الإِنسان ، والوليجة : الداخلُ في قومٍ ليس منهم .

والجَمَل قراءة العامة وهو تشبيه في غاية الحسن ، وذلك أن الجملَ أعظمُ حيوانٍ عند العرب وأكبره جثةً حتى قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . *** جسمُ الجِمالِ وأحلام العصافير

[ وقوله ] :

لقد كَبُر البعيرُ بغير لُبٍّ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسُمُّ الإِبرة في غاية الضيق ، فلما كان المَثَلُ يُضْرَب بعِظَم هذا وكبره ، وبضيق ذاك حتى قيل : أضيقُ من خُرْتِ الإِبرة ، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطرق قيل : لا يَدْخلون الجنة حتى يتقحَّمَ أعظمُ الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيقِ الأشياءِ وأصغرِها ، فكأنه قيل : لا يَدْخلون حتى يُوجدَ هذا المستحيلُ ، ومثلُه في المعنى قولُ الآخر :

إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي *** وصارَ القارُ كاللينِ الحليب

وقرأ ابن عباس في رواية ابن حَوْشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وابن محيصن وأبو رجاء وأبو رزين وأبان عن عاصم : " الجُمَّل " بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ . والقَلْسُ : حبلٌ غليظ يُجمع من حبال كثيرة فَيُفْتَل وهو حبلُ السفينة وقيل : الحبل الذي يُصْعَد به [ إلى ] النخل ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : " إن الله أحسنُ تشبيهاً من أن يُشَبِّه بالجمل " كأنه رأى إن صحَّ عنه أن المناسب لسُمّ الإِبرة شيء يناسب الخيط المسلوك فيها . وقال الكسائي : " الراوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فشدّد الميم " . وضَعَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءةً . قلت : وكذلك هي قراءة مشهورة بين الناس . وروى مجاهد عن ابن عباس ضمَّ الجيم وفتح الميم خفيفةً ، وهي قراءة ابن جبير وقتادة وسالم الأفطس .

وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية عطاء : الجُمُل بضم الجيم والميم مخففة ، وبها قرأ الضحَّاك والحجدري . وقرأ عكرمة وابن جبير بضم الجيم وسكون الميم . والمتوكل وأبو الجوزاء بالفتح والسكون ، وكلها لغات في القَلْس المذكور . وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية ، فقال : زوج الناقة ، كأنه فهم ما أراد السائل فاستغباه . وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وطلجة : " سُمّ " بضم السين . وأبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع : سِمّ بالكسر . وقد تقدَّم أنها لغات . وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز : المِخْيَط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء . وطلحة بفتح الميم . وهذه مخالفة للسواد .

قوله : { وَكَذلِكَ } أي : ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين ، فالكافُ نعتٌ لمصدر محذوف .