محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَٰبُ ٱلسَّمَآءِ وَلَا يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلۡخِيَاطِۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (40)

[ 40 ] { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ( 40 ) } .

{ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } أي لا تفتح لأعمالهم ، ولا لدعائهم ، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله . أي لا يقبل ذلك منهم ، لأنه ليس صالحا ولا طيبا . وقد قال سبحانه : { إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه }{[3930]} قال ابن عباس : " أي لا يرفع لهم منها عمل صالح ، ولا دعاء " - رواه جماعة عنه . وقال مجاهد وابن جبير . أو المعنى : لا تنزل عليهم البركة والرحمة ، ولا يغاثون ، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء ، كما في قوله : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر{[3931]} } / أو المعنى : لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة ، على ما روي أن الجنة في السماء . أو المعنى لا تفتح لأرواحهم ، إذا ماتوا ، أبواب السماء ، كما تفتح لأرواح المؤمنين- رواه الضحاك عن ابن عباس- ورواه ابن جرير{[3932]} عن البراء ؛ " أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء ، فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان  ! ( بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا ) حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له ، فلا يفتح له . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء . . . } الآية " - قال ابن كثير : هكذا رواه . وهو قطعة من حديث طويل ، رواه الإمام أحمد{[3933]} مطولا وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق .

/ تنبيهات :

الأول : قال الشهاب كون السماء لها أبواب ، وأنها تفتح للدعاء الصالح ، وللأعمال الصاعدة أو للأرواح- وارد في النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، فلا حاجة إلى تأويل . انتهى .

/ وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك ، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة . والتنزيل الكريم ، إنما ورد على مناح للعرب معروفة في لسانهم- والله أعلم .

/ الثاني : التضعيف في ( تفتح ) لتكثير المفعول ، لا الفعل لعدم مناسبة المقام .

الثالث : قرئ بالتخفيف في ( تفتح } وبالتخفيف ، والياء . وقرئ على البناء للفاعل ، ونصب الأبواب ، عل أن الفعل للآيات مجازا ، وبالياء على أنه لله تعالى .

{ ولا يدخلون الجنة حتى يلج } أي يدخل { الجمل في سم الخياط } أي ثقب الإبرة ، وهو غير ممكن ، فكذا دخولهم .

لطائف

الأولى : قرأ الجمهور { الجمل } بفتح الجيم والميم ، وفسروه : بأنه الجمل المعروف وهو البعير . قال الفراء : الجمل زوج الناقة . وقال شمر : البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية ، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة . وقرئ في الشواذ { الجمّل } كسكََّر وصُرَد وقُفل وعُنق وجبل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له ( القلس ) .

وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم ، والأحسن أن يكون لغة ، لأن تخفيف المفتوح ضعيف ؛ ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها ، وهو الحبل الغليظ ، وهو جمع إلا أن الميم ساكنة ، وذلك على تخفيف المضموم- انتهى- .

وذكر الكوارشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير ما عدا " جُمَّلا " كسكّر وقفل ، ونوقش في ذلك – انتهى- .

وقراءته ( كسكّر ) على معنى الحبل المذكور ، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، واختارها سعيد بن جبير .

قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه ، أن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل ، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة ، والبعير لا يناسبه . إلا أن قراءة العامة أوقع ، لأن سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة . / وقالوا للدليل الماهر ( خريت ) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر ؛ والجمل مثل في عظم الجرم ، قال{[3934]} :

* جسم الجمال وأحلام العصافير *

إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام ، فقيل : لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان ، الذي لا يلج إلا في باب واسع ، في ثقب الإبرة .

وعن ابن مسعود : " أنه سئل عن الجمل ؟ فقال : زوج الناقة " ، استجهالا للسائل ، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف- انتهى- .

وحاصله أن الجمل لما كان مثلا في عظم الجسم ، لأنه أكبر الحيوانات جسما عند العرب ، وخرق الإبرة مثلا في الضيق ، ظهر التناسب . على أن في إيثار الجمل ، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة ، مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة .

الثانية : ( السم ) : الثقب الضيق . قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها ، لغتان-انتهى . وصرح بالتثليث فيه ، وفي القاتل المعروف ، صاحب ( القاموس ) وغيره ، إلا أنهم قالوا : المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل . والأفصح في القاتل الضم .

/ قال العلامة الفاسي : قال الزبيدي : لم أر من تعرض لكسرهما ، وكأنها عامية .

قلت : قال الزمخشري : وقرئ { في سم الخياط } بالحركات الثلاث ، وكفى به مرجعا .

الثالثة : { الخياط } ككتاب ومنبر ، ما خيط به الثوب ، والإبرة- كذا في ( القاموس ) قال الزمخشري : وقرأ عبد الله ( في سم المخيط ) . قال الشهاب : بكسر الميم وفتحها ، كما ذكره المعرب ، وهي قراءة شاذة .

الرابعة : قال السيوطي في ( الإكليل ) : في قوله تعالى : { حتى يلج الجمل… الخ } جواز فرض المحال ، والتعليق عليه كما يقع كثيرا للفقهاء- انتهى- .

والتعليق على المحال معروف في كلام العرب ، كقوله :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب

وقوله تعالى : { وكذلك } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع { نجزي المجرمين } .


[3930]:- [35/ فاطر/ 10] {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا... والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)}.
[3931]:- [54/ القمر/ 11].
[3932]:- الأثر رقم 14614 من التفسير.
[3933]:- هأنذا أثبت هذا الحديث مطولا. فقد رواه في المسند بالصفحتين 287 و288 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي) ونصه: وعن البراء بن عازب قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار. فانتهينا إلى القبر ولما يلحد. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير. وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثا ثم قال "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس. معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت، عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه. فيقول: أيتها النفس الطيبة ! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها. فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها. فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض. قال فيصعدون بها. فلا يمرون (يعني بها) على ملائكة من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان (بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا) حتى ينتهوا بها إلى السماء. فيستفتحون له فيفتح لهم. فيشيعه من كل سماء مقربوه إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض. فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي. فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة. قال فيأتيه من روحه وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره. قال ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول ابشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعده. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب ! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح. فيجلسون منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة ! اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال فتفرق في جسده. فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول. فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها. فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان (بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا) حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا. فيستفتح له فلا يفتح له". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى. فتطرح روحه طرحا. ثم قرأ: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}. "فتعاد روحه في جسده. ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فيقولان له ما يدينك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه. لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب. فافرشوا له من النار. وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرّها وسمومها. ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك. هذا يومك الذي كنت توعده. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب ! لا تقم الساعة". وأخرجه أبو داود في: 39- كتاب السنة، 24- باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، حديث 4753.
[3934]:- صدر البيت: * لا بأس بالقوم من طول ومن عظم * وقائله حسان بن ثابت الأنصاري، ورواية العجز في الديوان: * جسم البغال وأحلام العصافيــــر * قاله من قصيدة يهجو بها النجاشي الشاعر ومطلعها: حار بن كعب ألا الأحلام تزجركم *** عنا وأنتم من الجـــوف الجمـــاخير قوله: تزجركم عنا، أي عن هجائنا. والجوف، جمع أجوف، هو واسع الجوف. والجماخير جمع جمخور، وهو والواسع الجوف أيضا. والمراد الضعفاء المستريحون.