وجملة : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } معترضة بين القسم وجوابه .
وقوله - تعالى - { حل } اسم مصدر أحل بمعنى أباح ، فيكون المعنى : وأنت - أيها الرسول الكريم - قد استحل كفار مكة إيذاءك ومحاربتك . . مع أنهم يحرمون ذلك النسبة لغيرك ، فى هذا البلد الأمين .
ويصح أن يكون لفظ " حل " هنا بمعنى اللحال الذى هو ضد الحرام يقال : هو حل وحلال ، وحِرْمٌ وحرام . . فيكون المعنى : وأنت أيها الرسول الكريم - قد أحل الله - تعالى - لك أن تفعل بهؤلاء المشركين ما شئت من القتل أو العفو .
وتكون الجملة الكريمة ، بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن الله - تعالى - سينصره على مشركى قريش ، ويمكنه من رقابهم . . وقد أنجز له - سبحانه - ذلك يوم الفتح الأكبر .
قال صاحب الكشاف : أقسم الله - تعالى - بالبلد الحرام وما بعده ، على أن الإِنسان خلق مغمورا فى مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يعنى : زمن المكابدة أن مثلك - يا محمد - على عظم حرمتك ، يُسْتَحلُّ بهذا البلد الحرام ، كما يستحل الصيد فى غير الحرم
وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم فى عداوته . أو سلى صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده ، على أن الإِنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عليه فقال : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } .
يعنى : وأنت حل به فى المستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر .
فإن قلت : أين نظير قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } فى معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله - تعالى - { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال ، أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟
ويرى بعضهم أن معنى قوله - تعالى - : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } : وأنت مقيم بهذا البلد ، ونازل فيه ، وحالّ به ، وكفى فخراً لمكة أن تنزل فيها - أيها الرسول الكريم - فإن الأمكنة الشريفة تزداد شرفا بنزول رسل الله - تعالى - فيها ، فكيف وأنت خاتمهم وإمامهم ؟
قال بعض العلماء : وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين : أن معنى { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } وأنت ساكن بهذا البلد ، حال فيه . . وهو يقتضى أن تكون هذه الآية موضع الحال من ضمير " أقسم " فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل ، لو ساعد عليه ثبوت استعمال " حل " بمعنى حالٍّ ، أى : مقيم فى مكان ، فإن هذا لم يرد فى كتب اللغة . . ولذا لم يذكر هذا المعنى صاحب الكشاف . .
ويبدو لنا أن هذه الأقوال لا تعارض بينها ، بل يؤيد بعضها بعضا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد آذاه أهل مكة ، بينما حرموا إيذاء غيره ، وأن الله - تعالى - قد مكن رسوله صلى الله عليه وسلم منهم . كما حدث فى غزوة الفتح ، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقام معهم فى مكة أكثر من خمسين سنة ، وكان يلقب عندهم بالصادق الأمين . .
ويكرم الله نبيه محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته ، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة ، وتزيده شرفا ، وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون
حرمة البيت ، فيؤذون النبي والمسلمين فيه ، والبيت كريم ، يزيده كرما أن النبي صلى الله عليه وسلم حل فيه مقيم . وحين يقسم الله - سبحانه - بالبلد والمقيم فيه ، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته ، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه .
وقوله : وأنْتَ حِلّ بِهَذَا البَلَدِ يعني : بمكة يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأنت يا محمد حِلّ بهذا البلد ، يعني بمكة يقول : أنت به حلال تصنع فيه مِن قَتْلِ من أردت قتلَه ، وأَسْرِ من أردت أسره ، مُطْلَقٌ ذلك لك يقال منه : هو حِلّ ، وهو حلال ، وهو حِرْم ، وهو حرام ، وهو مُحلّ ، وهو محرم ، وأحللنا ، وأحرمنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني بذلك : نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ، ويستحْيِي من شاء فقتل يومئذٍ ابن خَطَل صَبْرا وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم تحلّ لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراما حرّمه الله ، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة ، ألم تسمع أن الله قال في تحريم الحرم : ولِلّهِ عَلى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً يعني بالناس أهل القبلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وأنتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : ما صنعت فأنت في حِلّ من أمر القتال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أَحَلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أحلّ له أن يصنع فيه ما شاء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أُحِلّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : اصنع فيها ما شئت .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا حسين الجُعْفِيّ ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أنت حِلّ مما صنعت فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أحلّ الله لك يا محمد ما صنعت في هذا البلد من شيء ، يعني مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : لا تؤاخَذَ بما عملت فيه ، وليس عليك فيه ما على الناس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يقول : بريء عن الحرج والإثم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يقول : أنت به حلّ لست بآثم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدَ قال : لم يكن بها أحد حلاً غير النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كلّ من كان بها حراما ، لم يحلّ لهم أن يقاتلوا فيها ، ولا يستحلوا حرمه ، فأحله الله لرسوله ، فقاتل المشركين فيه .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الملك ، عن عطاء وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الّبَلَدِ قال : إن الله حرّم مكة ، لم تحلّ لنبيّ إلا نبيكم ساعة من نهار .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأنْتَ حِلّ بهَذَا الْبَلَدِ يعني محمدا ، يقول : أنت حلّ بالحرم ، فاقتل إن شئت ، أو دع .
بسم الله الرحمن الرحيم لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد أقسم سبحانه بالبلد الحرام وقيده بحلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إظهارا لمزيد فضله وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله وقيل حل مستحل تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيره أو حلال لك أن تفعل فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح .
واختلف في معنى قوله { وأنت حل بهذا البلد } فقال ابن عباس وجماعة : معناه وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة ، وعلى هذا يتركب قول من قال : السورة مدنية نزلت عام الفتح ، ويتركب على التأويل قول من قال : { لا } نافية أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته ، ويتجه أيضاً أن تكون { لا } غير نافية . وقال بعض المتأولين : { وأنت حل بهذا البلد } معناه : حال ساكن بهذا البلد ، وعلى هذا يجيء قول من قال هي مكية ، والمعنى على إيجاب القسم بين وعلى نفيه أيضاً يتجه على معنى القسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم ، وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد أن معنى { وأنت حل } أي قد جعلوك حلالاً مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا ، وإعراب { البلد } عطف بيان .
وجملة : { وأنت حل بهذا البلد } معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية . والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى { وأنت حل } فيجوز أن يكون { حل } اسم مصدرِ أحَلّ ، أي أباح ، فالمعنى وقد جعلَك أهلُ مكة حلالاً بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعَضْدُ شجره ، وهم مع ذلك يُحلون قتلك وإخراجَك ، قال هذا شُرَحْبيل بن سعد فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإِخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف { حِلّ } يقدر فيه مضاف يعيِّنه ما يصلح للمقام ، أي وأنت حلال منك ما حُرِّم من حقِّ ساكن هذا البلد من الحُرمة والأمن . والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحداً . والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها ، أي فهم يحرِّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب ، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله .
ويجوز أن يكون { حِل } اسماً مشتقاً من الحِلّ وهو ضد المنع ، أي الذي لا تَبعة عليه فيما يفعله . قال مجاهد والسدي ، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حِل مِمن قَاتلك أن تقاتله . وقريب منه عن ابن عباس ، أي مهما تمكنتَ من ذلك . فيصدق بالحال والاستقبال . وقال في « الكشاف » : « يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] ، تقول لمن تَعِدُه بالإِكرام والحباء أنت مكرم محبُوّاً اه .
فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قُدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإِسلام ، ووعد بأنه سيمكنه منهم .
وعلى كلا الوجهين في محمل صفة { حِل } هو خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال : " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " الحديث ، وفي « الموطإ » : « قال مالك : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ( أي يوم الفتح ) مُحْرِماً » .
ويُثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظرُ في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة . قال الباجي في « المنتقى » وابنُ العربي في « الأحكام » : الداخل مكة غيرَ مريد النسك ، لحاجة تتكرر كالحَطّابينَ وأصحاب الفواكهِ والمعاش هؤلاء يجوز دخولهم غيرَ محرمين لأنهم لو كلفوا الإِحرام لَحِقتهم مشقة . وإن كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك : أنه لا بد من الإِحرام ، وروي عنه تركُه والصحيح وجوبه ، فإن تركه قال الباجي : فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يُفصِّل أهل المذهب بين من كان من أهل داخل الميقاتِ أو مِن خارجه .
والخلاف في ذلك أيضاً بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير إحرام إن لم يُرِد نسكاً من حج أو عمرة ، وأما من كان مِن أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإِحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج . وذهب الشافعي إلى سقوط الإِحرام عن غير قاصد النسك ، ومذهب أحمد موافق مذهب مالك .
وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين : أن معنى { وأنت حل بهذا البلد } أنه حَال ، أي ساكن بهذا البلد اه . وجعله ابن العربي قولاً ولم يَعزُه إلى قائل ، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة { وأنت حلّ } في موضع الحال من ضمير { أقسم } فيكون القسم بالبلد مقيداً باعتبار كونه بلَد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال { حِلّ } بمعنى : حَالّ ، أي مقيم في مكاننٍ فإن هذا لم يرد في كتب اللغة : « الصَحاحِ » و« اللسانِ » و« القاموسِ » و« مفرداتِ الراغب » . ولم يعرج عليه صاحب « الكشاف » ، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله ، وقال الخفاجِي : والحِلّ : صفة أو مصدر بمعنى الحَال هنا على هذا الوجه ولا عبرة بمن أنكره لِعدم ثبوته في كتب اللغة » اه وكيف يقال : لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة ، وهل المَرجع في إثبات اللغة إلاّ كتب أيمتها .
وتكرير لفظ { بهذا البلد } إظهار في مقام الإِضمار لقصد تجديد التعجيب . ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يَخْرُج عن حوزتهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لم أحلها لأحد من قبلك ولا من بعدك ، وإنما أحللتها لك ساعة من النهار ، وذلك أن الله عز وجل لم يفتح مكة على أحد غيره ، ولم يحل بها القتل لأحد ، غير ما قتل النبي صلى الله عليه وسلم مقيس بن صبابة الكناني وغيره ، حين فتح مكة ،...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأنت يا محمد "حِلّ بهذا البلد" ، يعني بمكة يقول : أنت به حلال تصنع فيه مِن قَتْلِ من أردت قتلَه ، وأَسْرِ من أردت أسره ، مُطْلَقٌ ذلك لك يقال منه : هو حِلّ ، وهو حلال ، وهو حِرْم ، وهو حرام ، وهو مُحلّ ، وهو محرم ، وأحللنا ، وأحرمنا . ... عن ابن عباس "وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ" يعني بذلك : نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ، ويستحْيِي من شاء، فقتل يومئذٍ ابن خَطَل صَبْرا وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم تحلّ لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراما حرّمه الله ، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة... عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال : أَحَلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة ...
عن مجاهد "وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ" قال : لا تؤاخَذَ بما عملت فيه ، وليس عليك فيه ما على الناس ...
عن قتادة "وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ" يقول : بريء عن الحرج والإثم .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم : وأنت نازل بها ، من الحلول ، وقال بعضهم : وأنت حلال بهذا البلد ، والحل والحلال لغتان ؛ فإن كان على هذا فالحل غير منصرف إلى نفسه ، وإنما انصرف إلى ما أحل له ، لأنه لا يجوز أن يكون بنفسه حلالا أو حراما ، فالحل والحرمة إذا أضيفا إلى من له الحلال والحرام فإنما يراد بالحل والحرمة الشيء الذي أحل له والشيء الذي حرم عليه ، لا أن يكون الوصف راجعا إلى المضاف إليه .... وروي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : ] ( ( إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الجبلين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، وهي ساعتي هذه ،.....{ وأنت حل بهذا البلدِ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون القسم منصرفا إلى نفسه ، فأقسم به لما عظم من أمره وشأنه ، كأنه قال عز وجل : لا أقسم بهذا البلد وبالذي ، هو حل بهذا البلد . الثاني : أن يكون منصرفا إلى مكة ، ويكون قوله : { وأنت حل بهذا البلد } خرج مخرج التعريف لمكة لكونه فيها ، أي البلد الذي أنت نازل به وحال به أو حلاّل فيه . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ وأنت حل بهذا البلد }: وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد ، لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال ، وكانت حرمة مكة فيها أعظم ، والقسم بها أفخم . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقيل : معناه أنت حل بهذا البلد أي انت فيه مقيم ، وهو محلل . والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حل فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم الله وإخلاص عبادته المبشر بالثواب والمنذر بالعقاب ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يعني : ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم . عن شرحبيل : يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ، ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده ، على أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ؛ واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه . فقال : وأنت حلّ بهذا البلد ، يعني : وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر . وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلّها له ، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلّت له، فأحلّ ما شاء وحرّم ما شاء . قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة . ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرّم دار أبي سفيان ، ثم قال : « إنّ الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد » فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : « إلاّ الإذخر »
فإن قلت : أين نظير قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله عزّ وجل : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثله واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة . وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة عن وقت نزولها ، فما بال الفتح ؟
( أحدها ) : وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به ، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها.
( وثانيها ) : الحل بمعنى الحلال ، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك ، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك ....
( وثالثها ) : قال قتادة : { وأنت حل } أي لست بآثم ، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت ، ...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقيل : هو ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم ، أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، معرفة منك بحق هذا البيت ، لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه . أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته ، فأنت مقيم فيه معظم له ، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما عظم البلد بالإقسام به ، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان ، وذلك في جملة حالية فقال : { وأنت } يعني وأنت خير كل حاضر وباد... وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه ، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره ، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد ، ولكل جنس سيد ، وهو انتهاؤه في الشرف ، ...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
عناية بالنبي صلوات الله عليه فكأنه إقسام به لأجله مع تعريض بعدم شرف أهل مكة ، وأنهم جهلوا جهلا عظيما لهمهم بإخراج من هو حقيق به وبه يتم شرفه . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويكرم الله نبيه محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته ، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة ، وتزيده شرفا ، وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون
حرمة البيت ، فيؤذون النبي والمسلمين فيه ، والبيت كريم ، يزيده كرما أن النبي صلى الله عليه وسلم حل فيه مقيم . وحين يقسم الله - سبحانه - بالبلد والمقيم فيه ، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته ، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة : { وأنت حل بهذا البلد } معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية . والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى { وأنت حل } فيجوز أن يكون { حل } اسم مصدرِ أحَلّ ، أي أباح ، فالمعنى وقد جعلَك أهلُ مكة حلالاً بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعَضْدُ شجره ، وهم مع ذلك يُحلون قتلك وإخراجَك ، قال هذا شُرَحْبيل بن سعد فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإِخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف { حِلّ } يقدر فيه مضاف يعيِّنه ما يصلح للمقام ، أي وأنت حلال منك ما حُرِّم من حقِّ ساكن هذا البلد من الحُرمة والأمن . والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحداً . والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها ، أي فهم يحرِّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب ، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله .
ويجوز أن يكون { حِل } اسماً مشتقاً من الحِلّ وهو ضد المنع ، أي الذي لا تَبعة عليه فيما يفعله . قال مجاهد والسدي ، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حِل مِمن قَاتلك أن تقاتله . وقريب منه عن ابن عباس ، أي مهما تمكنتَ من ذلك . فيصدق بالحال والاستقبال . وقال في « الكشاف » : « يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] ، تقول لمن تَعِدُه بالإِكرام والحباء أنت مكرم محبُوّاً اه .
فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قُدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإِسلام ، ووعد بأنه سيمكنه منهم .
وعلى كلا الوجهين في محمل صفة { حِل } هو خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال : " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " الحديث ، وفي « الموطأ » : « قال مالك : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ( أي يوم الفتح ) مُحْرِماً » .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أي حالٌّ مقيمٌ فيه ، لتطلق منه حركة الرسالة ، وتعاني الكثير من الجهد والمشقة في سبيلها ، وتنطلق به إلى الناس ...