وقوله - سبحانه - : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ . . . } تهديد لهم على جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم .
والمراد بتبع : أبو كريب بن مليك ، ويسمى بتبع الحميرى . وهو أحد ملوك حمير .
وكان مؤمنا ، وقومه كانوا كافرين فأهلكهم الله . وإليه ينسب الأنصار ، ولفظ { تُبَّعٍ } يعد لقبا لكل ملك من ملوك اليمن ، كما أن لقب فرون يعد لقبا لمن ملك مصر كافرا . .
أى : إن هؤلاء الكافرين المعاصرين لك - أيها الرسول الكريم - ليسوا خيرا من قوم تبع ، الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، فلما لجوا فى طغيانهم أهلكهم الله - تعالى - وإن مصير هؤلاء المشركين - إذا ما استمروا فى عنادهم - سيكون كمصير قوم تبع . .
فالمقصود من الآية الكريمة تحذير الكافرين من التمادى فى الضلال ، لأن هذا التمادى سيؤدى بهم إلى الخسران ، كما هو حال قوم تبع الذين لا يخفى أمرهم عليهم .
والمراد بمن قبلهم فى قوله - تعالى - : { والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } : الأقوام السابقون على قوم تبع ، كقوم عاد وثمود وغيرهم . أو على هؤلاء الكافرين المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - .
أى : والذين من قبل قوم تبع أو من قبل قومك من الظالمين ، أهلكناهم لأنهم كانوا قوما مجرمين .
وقبل أن يوجههم هنا إلى هذا التدبر في تصميم الكون ذاته ، يلمس قلوبهم لمسة عنيفة بمصرع قوم تبع والتبابعة من ملوك حمير في الجزيرة العربية . ولا بد أن القصة التي يشير إليها كانت معروفة للسامعين ، ومن ثم يشير إليها إشارة سريعة للمس قلوبهم بعنف ، وتحذيرها مصيراً كهذا المصير :
( أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أهؤلاء المشركون يا محمد من قومك خير ، أم قوم تُبّع ، يعني تُبّعا الحِمْيريّ . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ : أهُمْ خَيرٌ ، أمْ قَوْمُ تَبّعٍ قال : الحميريّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أهُمْ خَيْرٌ أمْ قَوْمُ تُبّعٍ ذُكر لنا أن تبعا كان رجلاً من حمير ، سار بالجيوش حتى حَيْر الحيرة ، ثم أتى سمرقند فهدمها . وذُكر لنا أنه كان إذا كَتَبَ كَتَب باسم الذي تسمّى وملك برّا وبحرا وصحا وريحا . وذُكر لنا أن كعبا كان يقول : نُعِتَ نَعْتَ الرّجُلِ الصّالح ذمّ الله قومَه ولم يذمه . وكانت عائشة تقول : لا تسبوا تُبّعا ، فإنه كان رجلاً صالحا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قالت عائشة : كان تبّع رجلاً صالحا . وقال كعب : ذمّ قومه ولم يذمه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن تميم بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، أن تُبّعا كسا البيت ، ونهى سعيد عن سبه .
وقوله : وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِهمْ يقول تعالى ذكره : أهؤلاء المشركون من قريش خير أم قوم تبّعِ والذين من قبلهم من الأمم الكافرة بربها ، يقول : فليس هؤلاء بخير من أولئك ، فنصفح عنهم ، ولا نهلكهم ، وهم بالله كافرون ، كما كان الذين أهلكناهم من الأمم من قبلهم كفارا .
وقوله : إنّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ يقول : إن قوم تبّع والذين من قبلهم من الأمم الذين أهلكناهم إنما أهلكناهم لإجرامهم ، وكفرهم بربهم . وقيل : إنهم كانوا مجرمين ، فكُسرت ألف «إن » على وجه الابتداء ، وفيها معنى الشرط استغناء بدلالة الكلام على معناها .
{ أهم خير } في القوة والمنعة . { أم قوم تبع } تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبني سمرقند . وقيل هدمها وكان مؤمنا وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه . وعنه عليه الصلاة والسلام : " ما أدري أكان تبع نبيا أم غير نبي " . وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيلون . { والذين من قبلهم } كعاد وثمود . { أهلكناهم } استئناف بمآل قوم تبع . { والذين من قبلهم } هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به . { إنهم كانوا مجرمين } بيان للجامع المقتضي للإهلاك .
قوله تعالى : { أهم خير } الآية تقرير فيه وعيد ، و : { تبع } ملك حميري ، وكان يقال لكل ملك منهم : { تبع } ، إلا أن المشار إليه في هذه الآية رجل صالح من التبابعة . قال كعب الأحبار : ذم الله تعالى قومه ولم يذمه ، ونهى العلماء عن سبه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد : أن تبعاً هذا أسلم وآمن بالله ، وروي أن ذلك كان على يد أهل كتاب كانوا بحضرته{[10242]} . وقال ابن عباس : كان { تبع } نبياً . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما أدري أكان { تبع } نبياً أم غير نبي ؟ »{[10243]} . وقال ابن جبير : هو الذي كسا الكعبة ، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إنهم كانوا مجرمين } يريد بالكفر . وقرأت فرقة : «أنهم » بفتح الألف . وقرأ الجمهور بكسرها .