محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَهُمۡ خَيۡرٌ أَمۡ قَوۡمُ تُبَّعٖ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِينَ} (37)

ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يردّ ، كما حلّ بأشباههم من المشركين ، بقوله سبحانه : { أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين 38 }

{ أهم خير } أي في القوة والمنعة { أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين } أي أهلكناهم بجرمهم . وهو كفرهم وفسادهم . وهم ما هم . فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم ؟ وقو تبع هم حمير وأهل سبأ . أهلكهم الله عز وجل وفرقهم في البلاد شذر مذر . كما تقدم في سورة ( سبأ ) قال ابن كثير : وقد كانوا عربا من قحطان . كما أن هؤلاء عرب من عدنان . وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا . كما يقال ( كسرى ) لمن ملك الفرس و ( قيصر ) لمن ملك الروم . و ( فرعون ) لمن ملك مصر كافرا . و ) النجاشيّ ) لمن ملك الحبشة . وغير ذلك من أعلام الأجناس ، ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند . واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه . واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه . وهو الذي مصّر الحيرة . فاتفق أنه مرّ بالمدينة النبوية ، وذلك في أيام الجاهلية ، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يَقْرُونَهُ بالليل . فاستحيا منهم وكفّ عنهم . واستصحب معه حبرين من أحبار يهود ، كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة ، فإنها مهاجر نبيّ يكون في آخر الزمان . فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن . فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة . فنهياه عن ذلك أيضا ، وأخبراه بعظمة/ هذا البيت ، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام . وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبيّ المبعوث في آخر الزمان . فعظمها وطاف بها وكساها المُلاء والوصائل والحبر . ثم كر ّراجعا إلى اليمن ، ودعا أهلها إلى التهوّد معه . وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام ، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام ، فتهوّد معه عامة أهل اليمن . وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه ( السيرة ( . وترجمه الحافظ ابن عساكر في ( تاريخه ) ترجمة حافلة . وذكر أنه ملك دمشق . وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه . قال ابن كثير : وكأنه ، والله أعلم ، كان كافرا ثم أسلم ، وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق . قبل بعثة المسيح عليه السلام . وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء ، والوصائل من الحرير والحبر . ونحر عنده ستة آلاف بدنة . وعظمه وأكرمه . ثم عاد إلى اليمن . وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة ، عن أُبيّ بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وكعب الأحبار . وإليه المرجع في ذلك كله ، وإلى عبد الله بن سلام أيضا . وهو أثبت وأكبر وأعلم . وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في ( السيرة ) كما هو مشهور فيها . وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ، ترجمة تبع هذا ، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل . فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه . ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام . فعاقبهم الله تعالى ، كما ذكره في سورة سبأ . وتبّع هذا هو تبع الأوسط . واسمه أسعد أبو كرب . ولم يكن في حمير أطول مدة منه . وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة ، أن هذه البلدة مهاجر نبيّ في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعرا . واستودعه عند أهل المدينة . فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف . وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريّ ، الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره ، وهو :

/شهدت على أحمد أنه*** رسول من الله باري النّسم

فلو مدّ عمري إلى عمره *** لكنت وزيرا له وابن عم

وجاهدت بالسيف أعداءه*** وفرّجت عن صدره كل غم

ثم ساق ابن كثير آثارا في النهي عن سبه : وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروي في شأنه ، وإن لم يكن سنده على شرط ( الصحيح ) ، إلا أن ذلك مما يتحمل التوسع فيه ، لكونه نبأ محضا مجردا عن حكم شرعي . نعم ، لا يشك أن قريشا كانت تعلم من فخامة نبئه المرويّ لها بالتواتر ، ما فيه أكبر موعظة لها . ولذا طوى نبأه ، إحالة على ما تعرفه من أمره ، وما تسمر به من شأنه . وما القصد إلا العظة والاعتبار ، لا قصّ ذلك خبرا من الأخبار ، وسمرا من الأسمار ، كما هو السر في أمثال نبئه . وبالله التوفيق .