المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

58- واذكروا - يا بني إسرائيل - حين قلنا لكم : ادخلوا المدينة الكبيرة التي ذكرها لكم موسى نبيكم ، فكلوا مما فيها كما تشاءون ، كثيراً واسعاً ، على أن يكون دخولكم بخشوع وخضوع من الباب الذي سمَّاه لكم نبيكم ، واسألوا الله عند ذلك أن يغفر لكم خطاياكم ، فمن يفعل ذلك بإخلاص نغفر له خطاياه ، ومن كان محسناً مطيعاً زدناه ثواباً وتكريماً فوق العفو والمغفرة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه ، فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا ، ويحصل لهم فيها الرزق الرغد ، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل ، وهو دخول الباب { سجدا } أي : خاضعين ذليلين ، وبالقول وهو أن يقولوا : { حِطَّةٌ } أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته .

{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بسؤالكم المغفرة ، { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } بأعمالهم ، أي : جزاء عاجل وآجلا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

تاسعاً : نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك :

ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بمنة عظيمة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها وما رعوها حق رعايتها ، وهي تخليصهم من عناء التيه ، والإِذن لهم في دخول بلدة يجدون فيها الراحة والهناء ، وإرشادهم إلى القول الذي يخلصهم مما استوجبوه من عقوبات ولكنهم خالفوه فقال تعالى :

{ وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ . . . }

القرية : هي البلدة المشتملة على مساكن ، والمراد بها بيت المقدس على الراجح .

والرغد : الواسع من العيش الهنيء ، الذي لا يتعب صاحبه ، يقال : أرغد فلان : أصاب واسعاً من العيش الهنيء .

الحطة : من حط بمعنى وضع ، وهي مصدر مراد به طلب حط الذنوب .

قال صاحب الكشاف : ( حطة ) فعله من الحط كالجلسة . وهي خبر مبتدأ محذوف ، أي مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات . . ) ؟

والمعنى : اذكروا يا بني إسرائيل ، لتتعظوا وتعتبروا - وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التية ، وأبحناهم أن يأكلوا من خيراتها أكلاً هنيئاً ذا سعة وقلنا لهم : ادخلوا من بابها راكعين شكراً لله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه - سبحانه - بأن يحط عنكم ذنوبكم ، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم ، وزدنا المحسن منهم خيراً جزاء إحسانه ، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوه أوامره ، فبدلوا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر أتوابه به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء ، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون .

قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله - : ( وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع . بن نون - عليه السلام - وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب ( باب البلد ) سجداً أي شكراً الله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال ) .

وقوله تعالى : { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها . حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أي مكان شاءوا .

وقوله تعالى : { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع ، وتوجيههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم . بأيسر الطرق وأسهل السبل ، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله لهم خاضعين مخبتين وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم ، ويمحو سيئاتهم .

وقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم ، وإغراء لهم على الامتثال والشكر ، لو كانوا يعقلون - لأن غاية ما يتمناه العقلاء غفران الذنوب .

قال الإِمام ابن جرير : يعني بقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ، ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئاً فهو غافر . . والخطايا : جمع خطية - بغير همز - كالمطايا جمع مطية .

وقوله تعالى : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة لمن أسلم لله وهو محسن ، أي : من كان منكمو محسناً زيد في إحسانه ومن كان مخطئاً نغفر له خطيئاته .

وقد أمرهم - سبحانه - أن يدخلوا باب المدينة التي فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم ، لأن تغلبهم على أعدائهم ، ودخولهم الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ، نعمة من أجل النعم ، و هي تستدعي منهم أن يشكروا الله عليها بالقول والفعل لكي يزيدهم من فضله ، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر .

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب ، فعندما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا ، وإنه لخاضع لربه ، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكراً لله على نعمة الفتح ، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلى ثماني ركعات سماها بعض الفقها صلاة الفتح .

ومن هنا استحِب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات عند دخولها شكراً لله - تعالى - وقد فعل ذلك سعد بن أبي وقاص عندما دخل إيوان كسرى ، فقد ثبت أنه صلى بداخله ثماني ركعات .

/خ59

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

40

ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود : ( وإذ قلنا : ادخلوا هذه القرية ، فكلوا منها حيث شئتم رغدا ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا : حطة . نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ، بما كانوا يفسقون ) . .

وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس ، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها ، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها ، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا : ( يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) . . والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى - عليه السلام - : ( إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ! ) . . ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة ، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون ، فتح المدينة ودخلها . . ولكنهم بدلا من أن يدخلوها سجدا كما أمرهم الله ، علامة على التواضع والخشوع ، ويقولوا : حطة . . أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا . . دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها ، وقالوا قولا آخر غير الذي أمروا به . .

والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم ؛ وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا - وهي عهد موسى - ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة ، قديمه كحديثه ، ووسطه كطرفيه . . كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف !

وأيا كان هذا الحادث ، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه ، ويذكرهم بحادث يعلمونه . . فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة ؛ وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع ، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم ؛ ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته . فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }

والقرية التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها ، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فيما ذكر لنا : بيت المقدس . ذكر الرواية بذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ قال : بيت المقدس .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدِي : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ أما القرية فقرية بيت المقدس .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ يعني بيت المقدس .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته يعني ابن زيد عن قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا قال : هي أريحا ، وهي قريبة من بيت المقدس .

القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا .

يعني بذلك : فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا ، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا .

أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه ، فإنه قيل : هو باب الحطة من بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وادْخُلُوا البابَ سُجّدا أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا أنه أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطة .

وأما قوله : سُجّدا فإن ابن عباس كان يتأوّله بمعنى الركع .

حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : ركعا من باب صغير .

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : أمروا أن يدخلوا ركعا . وأصل السجود : الانحناء لمن سجد له معظما بذلك ، فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد ، ومنه قول الشاعر :

بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ *** تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجّدا للْحَوَافِرِ

يعني بقوله : سجدا : خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة :

يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤارَا

فذلك تأويل ابن عباس قوله : سُجّدا ركعا ، لأن الراكع منحن ، وإن كان الساجد أشدّ انحناء منه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطّةٌ .

وتأويل قوله : حِطّةٌ : فعلة ، من قول القائل : حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة ، بمنزلة الردة والحدّة والمدة من حددت ومددت .

واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك منهم :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أنبأنا معمر : وَقُولُوا حِطّةٌ قال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَقُولُوا حِطّةٌ : يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : قُولُوا حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : حِطّةٌ : مغفرة .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : سمعنا أنه يحطّ عنهم خطاياهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : قولوا لا إلَه إلا الله . كأنهم وجهوا تأويله : قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم ، وهو قول لا إلَه إلا الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قالا : أخبرنا حفص بن عمر ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا لا إلَه إلا الله .

وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة ، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله الاستغفار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : أمروا أن يستغفروا .

وقال آخرون نظير قول عكرمة ، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم .

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت الحطة ، فقال بعض نحويي البصرة : رفعت الحطة بمعنى «قولوا » ليكن منكم حطة لذنوبنا ، كما تقول للرجل سَمْعُك .

وقال آخرون منهم : هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة ، وفرض عليهم قيلها كذلك .

وقال بعض نحويي الكوفيين : رفعت الحطة بضمير «هذه » ، كأنه قال : وقولوا هذه حطة .

وقال آخرون منهم : هي مرفوعة بضمير معناه الخبر ، كأنه قال : قولوا ما هو حطة ، فتكون حطة حينئذٍ خبرا ل«ما » .

والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب ، أن يكون رفع حطة بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة ، وهو دخولنا الباب سجدا حطة ، فكفى من تكريره بهذا اللفظ ما دل عليه الظاهر من التنزيل ، وهو قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا كما قال جل ثناؤه : وَإِذْ قَالَتْ أُمّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبّكُمْ يعني موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ يعني بذلك : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ . . . وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا وَقُولُوا دخولنا ذلك سجدا حُطّةٌ لذنوبنا ، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفا .

وأما على تأويل قول عكرمة ، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في «حطة » ، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا : لا إلَه إلا الله ، أو أن يقولوا : نستغفر الله ، فقد قيل لهم : قولوا هذا القول ، ف«قولوا » واقع حينئذٍ على الحطة ، لأن الحطة على قول عكرمة هي قول لا إلَه إلا الله ، وإذ كانت هي قول لا إلَه إلا الله ، فالقول عليها واقع ، كما لو أمر رجل رجلاً بقول الخير ، فقال له : «قل خيرا » نصبا ، ولم يكن صوابا أن يقول له «قل خير » إلا على استكراه شديد .

وفي إجماع القراء على رفع «الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ أن تكون القراءة في «حطة » نصبا ، لأن من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا المصادر ، كما قال الشاعر :

أُبِيدوا بأيْدِي عُصْبَةٍ وَسُيُوفُهُمْ *** على أُمّهاتِ الهَامِ ضَرْبا شآمِيَا

وكقول القائل للرجل : سمعا وطاعة ، بمعنى : أسمع سمعا وأطيع طاعة ، وكما قال جل ثناؤه : مَعَاذ الله بمعنى : نعوذ بالله .

القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ .

يعني بقوله : نَغْفِرْ لَكُمْ نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليه . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس «مِغْفر » ، لأنها تغطي الرأس وتُجِنّه ، ومثله غمد السيف ، وهو ما يغمده فيواريه ولذلك قيل لزئبر الثوب «غفر » ، لتغطيته العورة ، وحَوْلِه بين الناظر والنظر إليها . ومنه قول أوس بن حجر :

فَلا أعْتِبُ ابنَ العَمّ إنْ كانَ جاهِلاً *** وأغْفِرُ عَنْهُ الجَهْلَ إنْ كانَ أَجْهَلاَ

يعني بقوله : وأغفر عنه الجهل : أستر عليه جهله بحلمي عنه .

القول في تأويل قوله تعالى : خَطاياكُمْ والخطايا جمع خطية بغير همز كما المطايا جمع مطية ، والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع الخطايا بالهمز ، لأن ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز ، فجمع على خطايا ، على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز لقيل خطائى على مثل قبيلة وقبائل ، وصحيفة وصحائف . وقد تجمع خطيئة بالتاء فيهمز فيقال خطيئات ، والخطيئة فعلية من خَطِىء الرجل يَخْطَا خِطْأً ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق . ومنه قول الشاعر :

وَإِنْ مُهاجِرَينَ تَكَنّفاهُ *** لَعَمْرُ اللّهِ قَدْ خَطِئا وَخابَا

يعني أضلا الحقّ وأثما .

القول في تأويل قوله تعالى : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ .

وتأويل ذلك ما رُوي لنا عن ابن عباس ، وهو ما :

حدثنا به القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ : من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته .

فتأويل الآية : وإذْ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات ، موسعا عليكم بغير حساب ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا : سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا ، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم ، فنسترها عليه ، ونحطّ أوزاره عنه ، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم ، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم واستهزائهم برسله ، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم ، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره ، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات ، ومعلمهم أنهم إن تعدّوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم ، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم ، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم . وقصّ علينا أنباءهم في هذه الاَيات ، فقال جل ثناؤه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا على الّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزا مِنَ السّماء الآية .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}: والقرية التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فيما ذكر لنا: بيت المقدس...

" فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا": فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب.

"وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا": أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه، فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس. وأما قوله: "سُجّدا" فإن ابن عباس كان يتأوّله بمعنى الركع... وأصل السجود: الانحناء لمن سجد له معظما بذلك، فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد... فذلك تأويل ابن عباس قوله: سُجّدا ركعا، لأن الراكع منحن، وإن كان الساجد أشدّ انحناء منه.

" وَقُولُوا حِطّةٌ": حِطّةٌ: فعلة، من قول القائل: حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة، بمنزلة الردة والحدّة والمدة من حددت ومددت.

واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك... قال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا... [و] عن ابن عباس قوله: حِطّةٌ: مغفرة.

وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا لا إلَه إلا الله. كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم، وهو قول لا إلَه إلا الله... عن عكرمة: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: قولوا لا إلَه إلا الله.

وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله الاستغفار.

وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم...

" وَقُولُوا حِطّةٌ" يعني بذلك: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ... وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا وَقُولُوا: دخولنا ذلك سجدا حطّةٌ لذنوبنا.

" نَغْفِرْ لَكُمْ": نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليه. وأصل الغفر: التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس «مِغْفر»، لأنها تغطي الرأس وتُجِنّه، ومثله غمد السيف، وهو ما يغمده فيواريه...

" خَطاياكُمْ": والخطايا جمع خطية بغير همز كما المطايا جمع مطية، والحشايا جمع حشية...والخطيئة فعلية من خطئ الرجل إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه

" وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ": من كان منكم محسنا زيد في إحسانه، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.

فتأويل الآية: وإذْ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعا عليكم بغير حساب، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم، فنسترها عليه، ونحطّ أوزاره عنه، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم واستهزائهم برسله، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدّوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم. وقصّ علينا أنباءهم في هذه الآيات، فقال جل ثناؤه: "فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا على الّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزا مِنَ السّماء" الآية.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{القرية} بيت المقدس. وقيل: أريحاء من قرى الشام، أمروا بدخولها بعد التيه {الباب} باب القرية. وقيل: هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام. أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً. وقيل: «السجود» أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات. وقيل: طوطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوها، ودخلوا متزحفين على أوراكهم {حِطَّةٌ}: فعلة من الحط... وهي خبر مبتدأ محذوف، أي مسألتنا حطة، أو أمرك حطة. والأصل: النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة. وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله تعالى: {وسنزيد المحسنين} فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسنا بالطاعة في هذا التكليف، أو من كان محسنا بطاعات أخرى في سائر التكاليف.

أما على التقدير الأول: فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين.

أما الاحتمال الأول: وهو أن تكون من منافع الدنيا، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية،

وأما الاحتمال الثاني: وهو أن تكون من منافع الآخرة، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} أي نجازيهم بالإحسان إحسانا وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشرا، وأكثر من ذلك،

وأما إن كان المراد من «المحسنين» من كان محسنا بطاعات أخرى بعد هذه التوبة، فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم الباب سجدا وقولكم حطة مؤثرا في غفران الذنوب، ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم الثواب على تلك الطاعات الزائدة...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نُعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر [بن الخطاب] رضي الله عنه. ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك، ونعي إليه روحه الكريمة أيضًا؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح -فتح مكة- داخلا إليها من الثنية العليا، وإنَّه الخاضع لربه حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله، يشكر الله على ذلك. ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى، صلى فيه ثماني ركعات... والله أعلم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(قال شيخنا): ونسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن، فقد أمر بني إسرائيل بدخول بلاد كثيرة، وكانوا يؤمرون بدخولها خاشعين لله خاضعين لأمره مستشعرين عظمته وجلاله ونعمه وأفضاله وهو معنى السجود وروحه المراد هنا.

وأما صورة السجود من وضع الجباه على الأرض، فلا يصح أن تكون مرادة لأنها سكون والدخول حركة وهما لا يجتمعان.

والمراد بالحطة الدعاء بأن تحط عنهم خطايا التقصير وكفر النعم. وتبديل القول بغيره عبارة عن المخالفة كأن الذي يؤمر بالشيء فيخالف قد أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بخلافه. يقال بدلت قولا غير الذي قيل. أي جئت بذلك القول مكان القول الأول.

وهذا التعبير أدل على مخالفة والعصيان من كل تعبير خلافا لما يتراءى لغير البليغ من أن الظاهر أن يقال. بدلوا القول بغيره دون أن يقال، غير الذي قيل لهم، فإن مخالف أمر سيده قد يخالفه على سبيل التأويل مع الاعتراف به، فكأنه يقول في الآية إنهم خالفوا الأمر خلافا لا يقبل التأويل، حتى كأنه قيل لهم غير الذي قيل. وليس المعنى أنهم أمروا بحركة يأتونها، وكلمة يقولونها، وتعبدوا بذلك وجعل سببا لغفران الخطايا عنهم فقالوا غيره وخالفوا الأمر، وكانوا من الفاسقين. وأي شيء أسهل على المكلف من الكلام يحرك به لسانه، وقد اخترع أهل الأديان من ذلك ما لم يكلفوا قوله لسهولة القول على ألسنتهم، فكيف يقال أمر هؤلاء بكلمة يقولونها فعصوا بتركها؟ إنما يعصى العاصي إذا كلف ما يثقل على نفسه ويحملها على غير ما اعتادت، وأشق التكاليف حمل العقول على أن تفكر في غير ما عرفت، وحث النفوس على أن تتكيف بغير ما تكيفت.

وذهب المفسر (الجلال) إلى ترجيح اللفظ على المعنى والصورة على الروح ففسر السجود ككثير من غيره بالانحناء، وقال إنهم أمروا بأن يقولوا (حطة) فدخلوا زحفا على أستاههم وقالوا: حبة في شعيرة: أي أننا نحتاج إلى الأكل ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خدع بها المفسرون ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى.

وأقول إن ما اختاره الجلال مروي في الصحيح ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية وسنبين ذلك في تفسير المسألة من سورة الأعراف مع المقابلة بين العبارات المختلفة في السورتين وبيان وجوهها؛ وتحقيق معاني ألفاظها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود: (وإذ قلنا: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: حطة. نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء، بما كانوا يفسقون)..

وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا: (يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون).. والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى -عليه السلام -: (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون!).. ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون، فتح المدينة ودخلها.. ولكنهم بدلا من أن يدخلوها سجدا كما أمرهم الله، علامة على التواضع والخشوع، ويقولوا: حطة.. أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا.. دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها، وقالوا قولا آخر غير الذي أمروا به.

والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم؛ وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا- وهي عهد موسى -ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة، قديمه كحديثه، ووسطه كطرفيه.. كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف!

وأيا كان هذا الحادث، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه، ويذكرهم بحادث يعلمونه.. فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة؛ وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم؛ ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته. فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا تذكير بنعمة أخرى مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ولا رعوها حق رعايتها فحرموا منها إلى حين وعوقب الذين كانوا السبب في عدم قبولها. وفي التذكير بهذه النعمة امتنان عليهم ببذل النعمة لهم لأن النعمة نعمة وإن لم يقبلها المنعم عليه، وإثارة لحسرتهم على ما فات أسلافهم وما لقوه من جراء إعجابهم بآرائهم، وموعظة لهم أن لا يقعوا فيما وقع فيه الأولون فقد علموا أنهم كلما صدفوا عن قدر حق النعم نالتهم المصائب. قال الشيخ ابن عطاء الله: من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها...

والقرية -بفتح القاف لا غير على الأصح-: البلدة المشتملة على المساكن المبنية من حجارة وهي مشتقة من القَرْي بفتح فسكون وبالياء وهو الجمع يقال: قَرى الشيء يَقريه إذا جمعه وهي تطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب كما أريد بها هنا بدليل قوله: {وادخلوا الباب سجداً}.

وقوله: {وادخلوا الباب سجداً} مراد به باب القرية...

ومعنى السجود عند الدخول: الانحناء شكراً لله تعالى لا لأن بابها قصير كما قيل، إذ لا جدوى له...

وقوله: {وقولوا حطة} الحطة فعلة من الحط وهو الخفض وأصل الصيغة أن تدل على الهيئة ولكنها هنا مراد بها مطلق المصدر، والظاهر أن هذا القول كان معروفاً في ذلك المكان للدلالة على العجز أو هو من أقوال السُّؤَّال والشحاذين كيلا يحسب لهم أهل القرية حساباً ولا يأخذوا حذراً منهم، فيكون القول الذي أمروا به قولاً يخاطبون به أهل القرية.

وقيل: المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب، أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية. وقيل: من الحط بمعنى حط الرحال، أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها، إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحاً ويكون صلحاً ويكون للغنيمة ثم الإياب. وهذان التأويلان بعيدان ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سَقياً ورعياً، وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء، ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو رحمه الله ويرحمه الله.

و (حطة) بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمعٌ وطاعة وصبرٌ جميل.

والخطايا جمع خطيئة... والخطيئة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها مخطوء بها، أي مسلوك بها مسلك الخطأ أشاروا إلى أنها فعل يحق أن لا يقع فيه فاعله إلا خطأ فهي الذنب والمعصية.

وقوله: {وسنزيد المحسنين} وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة ولذلك حذف مفعول {نزيد}. والواو عاطفة جملة {سنزيد} على جملة {قلنا ادخلوا} أي وقلنا سنزيد المحسنين؛ لأن جملة {سنزيد} حكيت في سورة الأعراف (161) مستأنفة فعلم أنها تعبر عن نظير لها في الكلام الذي خاطب الله به موسى على معنى الترقي في التفضل، فلما حكيت هنا عطفت عطف القول على القول.