المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

12- اذكروا - أيها المؤمنون - أن الله أوحى للملائكة أن تودع في نفوسكم أنى معكم بالتأييد والنصر ، قائلاً لهم : قووا قلوب الذين آمنوا وأذعَنوا للحق وجاهدوا في سبيل الله ، وسأجعل الرعب يستولى على قلوب المشركين ، فيفزعون هم دونكم ، فاضربوا - أيها المؤمنون - رءوسهم التي فوق أعناقهم ، وقطعوا أصابعهم التي يحملون بها السيوف .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصر والتأييد ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي : ألقوا في قلوبهم ، وألهموهم الجراءة على عدوهم ، ورغبوهم في الجهاد وفضله .

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذي هو أعظم جند لكم عليهم ، فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين ، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم .

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ أي : على الرقاب وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أي : مفصل .

وهذا خطاب ، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر ، أو للمؤمنين يشجعهم اللّه ، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين ، وأنهم لا يرحمونهم

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها اثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال - سبحانه - : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } .

والبنان : - كما يقول القرطبى - واحده بنانه . وهى هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء . . وهو - أي البنان - مشتق من قولهم أبَّن الرجل بالمكان إذا أقام به . فالبنان يُعتَملُ به ما يكون للإِقامة والحياة . وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء . .

وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإِنسان . .

والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين في بدر { أَنِّي مَعَكُمْ } أي بعونى وتأييدى { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } أي فقووا قلوبهم ، واملأوا نفوسهم ثقة بالنصر ، وصححوا نياتهم في القتال حتى غايتهم إعلا كلمة الله .

قال الآلوسى : والمراد بالتثبيت : الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال . وكان ذلك هنا - في قوله - بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ، ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم ، فقد أخرج البيهقى في الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشئ ، والله معكم . كروا عليهم .

وقال الزجاج : كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم . وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة .

وقوله - تعالى - : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } بشارة عظيمة للمؤمنين .

أى : سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم - أيها المؤمنون - ، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى تتمكنوا منهم .

والرعب : انزعاج النفس وخوفها من توقع مكروه ، وأصله التقطيع من قولهم : رعبت السنام ترعيباً إذا قطعته مستطيلا ، كأن الخوف يقطع الفؤاد .

وقوله : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } الخطاب فيه للمؤمنين ، وقيل ، للملائكة .

والمراد بما فوق الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة . أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق بمعنى : على وهو قول أبى عبيدة .

ويرى صاحب الكشاف أن المراد بما فوق الأعناق : أعالى الأعناق التي هى المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس .

والمراد بالبنان - كما سبق أن بينا - الأصابع أو مطلق الأطراف .

والمعنى : لقد أعطيتكم - أيها المؤمنون - من وسائل النصر ما أعطيتكم ، فهاجموا أعدائى واعداءكم بقوة وغلظة ، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم . واضربوهم على كل أطرافهم حتى تشلوا حركتهم ، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

وأما قوله : إذْ يُوحي رَبّكَ إلى الَملائِكَةِ أنّي مَعَكُمْ أنصركم ، فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا يقول : قوّوا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال عدوّهم من المشركين . وقد قيل : إن تثبيت الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم ، وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم ، وقيل : كان ذلك بأن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم ، يعني المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم . قالوا : وذلك كان وحيَ الله إلى ملائكته .

وأما ابن إسحاق ، فإنه قال بما :

حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا أي فآزروا الذين آمنوا .

القول في تأويل قوله تعالى : سأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ .

يقول تعالى ذكره : سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم ، وأملؤها فَرَقا حتى ينهزموا عنكم ، فاضربوا فوق الأعناق

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَوْقَ الأعْناقِ فقال بعضهم : معناه : فاضربوا الأعناق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ قال : اضربوا الأعناق .

قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لَمْ أُبْعَثْ لاِعَذّبَ بِعَذَابِ اللّهِ ، إنّما بُعِثْتُ لِضَرْبِ الأعْناقِ وَشَدّ الوثاقِ » .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ يقول : اضربوا الرقاب .

واحتجّ قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول : رأيت نفس فلان ، بمعنى رأيته ، قالوا : فكذلك قوله : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ إنما معناه : فاضربوا الأعناق .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فاضربوا الرءوس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : وحدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة : فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ قال : الرءوس .

واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي فوق الأعناق : الرءوس ، وقالوا : وغير جائز أن تقول : فوق الأعناق ، فيكون معناه : الأعناق . قالوا : ولو جاز كان أن يقال تحت الأعناق ، فيكون معناه : الأعناق . قالوا : وذلك خلاف المعقول من الخطاب ، وقلب معاني الكلام .

وقال آخرون : معنى ذلك : فاضربوا على الأعناق . وقالوا : «على » و «فوق » معناهما متقاربان ، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الاَخر .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين معلمهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله : فَوْقَ الأعْناقِ محتمل أن يكون مرادا به الرءوس ، ومحتمل أن يكون مرادا به فوق جلدة الأعناق ، فيكون معناه : على الأعناق وإذا احتمل ذلك صحّ قول من قال : معناه : الأعناق . وإذا كان الأمر محتملاً ما ذكرنا من التأويل ، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون بعض إلاّ بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة تدلّ على خصوصه ، فالواجب أن يقال : إن الله أمر بضرب رءوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرا .

وأما قوله : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ فإن معناه : واضربوا أيها المؤمنون من عدوّكم كلّ طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم . والبنان : جمع بنانة ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين ، ومن ذلك قول الشاعر :

ألا لَيْتَنِي قَطّعْتُ مِنّي بَنانَةً ***وَلاقَيْتُهُ فِي البَيْتِ يَقْظانَ حاذِرَا

يعني بالبنانة : واحدة البنان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : كلّ مفصل .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : المفاصل .

قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : كلّ مفصل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : الأطراف ، ويقال : كلّ مفصل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ يعني بالبنان : الأطراف .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ قال : الأطراف .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنانٍ يعني الأطراف .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

{ إذ يوحي ربك } بدل ثالث أو متعلق بيثبت . { إلى الملائكة أني معكم } في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول { يوحي } . وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه . { فثبّتوا الذين آمنوا } بالبشارة أو بتكثير سوادهم ، أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } كالتفسير لقوله { إني معكم فثبتوا } ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله : { سألقي } إلى قوله : { كل بنان } تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال ؛ قولوا لهم قولي هذا . { فاضربوا فوق الأعناق } أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس . { واضربوا منهم كل بنانٍ } أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

{ إذ } ظرف متعلق بقوله : { فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين } [ الأنفال : 9 ] .

وجعل الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم تلطفاً به ، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر ، وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعاً له ، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية { إذ تستغيثون ربكم } [ الأنفال : 9 ] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله ، ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوب { إذ تستغيثون ربكم } [ الأنفال : 9 ] ولما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفاً به ورفعاً لشأنه .

والوحي إلى الملائكة المرسلين : إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص ، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة .

و { أنّي معكم } قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي ، أي يوحي إليهم ثبوتَ معيّتِه لهم ، فيكون المصدر ، منصوباً على المفعول به ليوحي ، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر .

وأنت على ذُكْر مما قدمناه قريباً في قوله تعالى : { أني ممدكم بألفٍ من الملائكة } [ الأنفال : 9 ] من تحقيق أن تكون ( أن ) المفتوحة الهمزةِ المشددة النوننِ مفيدة معنى ( أنْ ) التفسيرية ، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه .

والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائِقة بالله تعالى أعني المعية المجازية ، فقد يَكون معناها توجه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم ، وقد تكرر إطلاق ( مع ) بمثل هذا في القرآن كقوله : { وهْو مَعكم أينما كنتم } [ الحديد : 4 ] .

وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به ، لأن المعية تؤذن إجمالاً بوجود شيء يستدعي المصاحبة ، فكان قوله لهم : { أني معكم } مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكْر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام ، أي أني معكم في عملكم الذي أكفلكم به .

ومن هنا ظهر موقع فَاء الترتيب في قوله : { فثبتوا الذين آمنوا } من حيث ما دل عليه { أني معكم } من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة ، والخوف إقداماً والهلع ثباتاً ، في جانب المؤمنين ، ويجعل العزة رعباً في قلوب المشركين ، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سَبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عُهد للملائكة عملُها خوارقَ عادات .

والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه .

وعُرف المثبتُون بالموصول لما تومىء إليه صلة { آمنوا } من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية ، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان .

وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاماً وتثبيتاً ، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع ، وإزالة للاضطراب الشيطاني ، وإنما يكون خيراً إذا كان جارياً على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطراً كاذباً ، وإلاّ صار غروراً ، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوقى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة ، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل .

ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعْب } لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب ، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم ، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة .

وأسند إلقاء الرعْب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقةٌ الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه ، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته ، وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة ، فإن خوارق العادات قد تصدر من القُوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج ، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة ، لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين ، فهو مبارك أيضاً ، وإنما كان إلقاء الرعْب في قلوب المشركين خارقَ عادة ، لأن أسباب ضده قائمة ، وهي وفرة عددهم وعُددهم وإقدامُهم على الخروج إلى المسلمين ، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير .

فجملة : { سألقي في قلوب الذين كفروا } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً إخباراً لهم بما يقتضي التخفيف عليهم في العمل الذي كلفهم الله به بأن الله كفاهم تخذيل الكافرين بعمل آخر غير الذي كَلف الملائكة بعمله ، فليست جملة { سألقي } مفسرة لمعنى { أني معكم } .

ولم يقل سنلقي لئلا يتوهم أن للملائكة المخاطبين سبباً في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما علمتَ آنفاً .

وتفريع { فاضربوا فوق الأعناق } على جملة : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } المفرعة هنا أيضاً على جملة : { فثبتوا الذين آمنوا } في المعنى ، يؤذن بما اقتضته جملة { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } من تخفيف عمل الملائكة عليهم بعض التخفيف الذي دل عليه إجمالاً قوله : { أني معكم } كما تقدم { فوق الأعناق } على الظرفية لاضْربوا .

و { الأعناق } أعناق المشركين وهو بيّن من السياق ، واللام فيه والمراد بعض الجنس بالقرينة للجنس أو عوض عن المضاف إليه بقرينة قوله بعد : { واضْربوا منهم كل بنان } .

والبنان اسم جمع بَنَانَة وهي الأصبع وقيل طرف الأصبع ، وإضافة ( كل ) إليه لاستغراق أصحابها .

وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين وضرب البنان ، يبطل صلاحية المضروب للقتال ، لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع ، ومن ثَم كثر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد أو ما تتناوله الأصابع ، عن ذكر السيف ، قال النابغة :

وأن تلادي أن نظرت وشِكّتي *** ومُهري وما ضَمَّتْ إليّ الأنامل

يعني سيفه ، وقال أبو الغول الطهوي :

فدت نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقت فيهم ظنوني

يريد السيف ومثل ذلك كثير في كلامهم فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد فإذا ضُربت اليد كلها فذلك أجدر .

وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى ، فإسناد الضرب حقيقة . ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين وتوجيه المشركين إلى جهاتها ، فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي لأنهم سببه ، وقد قيل : الأمر بالضرب للمسلمين ، وهو بعيد ، لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة .