{ 14 } { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }
أي : لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه ، علما وعملا ، قد علم الحق واتبعه ، ورجا ما وعده الله لأهل الحق ، كمن هو أعمى القلب ، قد رفض الحق وأضله ، واتبع هواه بغير هدى من الله ، ومع ذلك ، يرى أن ما هو عليه من الحق ، فما أبعد الفرق بين الفريقين ! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين ، أهل الحق وأهل الغي{[786]} !
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها فى الموازنة والمقارنة بين حال المؤمنين وحال الكافرين . فقال - تعالى - : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ . . . فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } للإِنكار والنفى ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه السياق ، و " من " مبتدأ ، والخبر قوله { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ } . والبينة : ما يتبين به الحق من كل شئ ، كالنصوص الصحيحة فى النقليات والبراهين السليمة فى العقليات .
والمراد بمن كان على بينة من ربه : الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ، والمراد بمن زين له سوء عمله ، واتبعوا أهوائهم : المشركون الذين استحبوا العمى على الهدى .
والمعنى : أفمن كان على بينة من أمر ربه ، وعلى طريقة سليمة من هديه ، يستوى مع من كان على ضلالة من أمره ، بأن ارتكب الموبقات مع توهمه بأ ، ها حسنات ، واتبع هواه دون أن يفرق بين القبيح والحسن ؟ لا شك أنهما لا يستويان فى عقل أى عاقل . فإن الفريق الأول مهتد فى منهجه وسلوكه ، والفريق الثانى فى النقيض منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءُ عَمَلِهِ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَاءَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : أَفَمَنْ كَانَ على برهان وحجة وبيان مِنْ أمر رَبّهِ والعلم بوحدانيته ، فهو يعبده على بصيرة منه ، بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه الجنة ، وعلى إساءته ومعصيته إياه النار ، كمَنْ زُيّنَ لَه سُوءُ عَمَلِهِ يقول : كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله وسيئته ، فأراه جميلاً ، فهو على العمل به مقيم ، واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله ، وعبادة الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة . وقيل : إن الذي عُني بقوله : أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ نبينا عليه الصلاة والسلام ، وإن الذي عُنِي بقوله : كمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون .
قوله تعالى : { أفمن كان } الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين . وقال قتادة : الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وبقي اللفظ عاماً لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله : { على بينة } معناه على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة ، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين ، وألحق الهاء للمبالغة : كعلامة ونسابة . والذي يسند إليه قوله : { زين } الشيطان . واتباع الأهواء : طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها .
تفريع على جملة { أهلكناهم فلا ناصر لهم } [ محمد : 13 ] لتحقيق أنهم لا ناصر لهم تحقيقاً يرجع إلى ما في الكلام من المعنى التعريضي فهو شبيه بالاستئناف البياني جاء بأسلوب التفريع .
ويجوز مع ذلك أن يكون مفرَّعاً على ما سبق من قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ محمد : 12 ] الآية ، فيكون له حكم الاعتراض لأنه تفريع على اعتراض . وهذا تفنن في تلوين الكلام لتجديد نشاط السامعين هو من الأساليب التي ابتكرها القرآن في كلام العرب . والاستفهام مستعمل في إنكار المماثلة التي يقتضيها حرف التشبيه .
والمقصود من إنكار المشابهة بين هؤلاء وهؤلاء هو تفضيل الفريق الأول ، وإنكار زعم المشركين أنهم خير من المؤمنين كما ظهر ذلك عليهم في مواطن كثيرة كقولهم : { لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] { وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون } [ المطففين : 32 ] { فاتخذتموهم سُخرياً حتى أنسوكم ذِكري وكنتم منهم تضحكون } [ المؤمنون : 110 ] .
والمراد بالموصولين فريقان كما دل عليه قوله في أحدهما { واتبعوا أهواءهم } .
والبينة : البرهان والحجة ، أي حجة على أنه محق . و { مِن } ابتدائية ، وفي التعبير بوصف الرب وإضافته إلى ضمير الفريق تنبيه على زلفى الفريق الذي تمسك بحجة الله .
ومعنى وصف البينة بأنها من الله : أن الله أرشدهم إليها وحرّك أذهانهم فامتثلوا وأدركوا الحق ، فالحجة حجة في نفسها وكونها من عند الله تزكية لها وكشف للتردّد فيها وإتمام لدلالتها ، كما يظهر الفرق بين أخذ العلم عن متضلع فيه وأخذه عن مستضعف فيه وإن كان مصيباً . و ( عَلى ) للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن كما في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) .
وهذا الفريق هم المؤمنون وهم ثابتون على الدين واثقون بأنهم على الحق . فلا جرم يكون لهم الفوز في الدنيا لأن الله يسّر لهم أسبابه فإن قاتلوا كانوا على ثقة بأنهم على الحق وأنهم صائرون إلى إحدى الحسنيين فقويت شجاعتهم ، وإن سالموا عُنوا بتدبير شأنه وما فيه نفع الأمة والدين فلم يَألوا جهداً في حسن أعمالهم ، وذلك من آثار أن الله أصلح بالهم وهداهم . والفريق الذين زيّن له سوء عمله هم المشركون ، فإنهم كانوا في أحوال السُوأى من عبادة الأصنام والظلم والعدوان وارتكاب الفواحش ، فلما نبههم الله لفساد أعمالهم بأن أرسل إليهم رسولاً بين لهم صالح الأعمال وسيئاتها لم يدركوا ذلك ورأوا فسادهم صلاحاً فتزينت أعمالهم في أنظارهم ولم يستطيعوا الإقلاع عنها وغَلب إلفُهم وهواهم على رأيهم فلم يعبأوا باتباع ما هو صلاح لهم في العاجل والآجل ، فذلك معنى قوله : { كمن زُيّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } بإيجاز .
وبني فعل { زُيّن } للمجهول ليشمل المزيّنين لهم من أيمة كفرهم ، وما سولته لهم أيضاً عقولهم الآفنة من أفعالهم السيئة اغتراراً بالإلف أو اتباعاً للذات العاجلة أو لِجلب الرئاسة ، أي زَيَّن له مُزيّنَ سوءَ عمله ، وفي هذا البناء إلى المجهول تنبيه لهم أيضاً ليرجعوا إلى أنفسهم فيتأمّلوا فيمن زيّن لهم سوء أعمالهم .
ولمّا كان تزيين أعمالهم لهم يبعثهم على الدأب عليها كان يتولد من ذلك إلفهم بها وولعهم بها فتصير لهم أهواء لا يستطيعون مفارقتها أعقب بقوله : { واتبعوا أهواءهم } .
والفرق بين الفريقين بَيّن للعاقل المتأمل بحيث يحق أن يُسأل عن مماثلة الفريقين سُؤال من يعلم انتفاء المماثلة ويُنكِر على من عسى أن يزعمها . والمراد بانتفاء المماثلة الكناية عن التفاضل ، والمقصود بالفضل ظاهر وهو الفريق الذي وقع الثناء عليه .