المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

103- لم يأذن الله لكم أن تحرِّموا ما أحلَّه لكم ، فتشقوا أذن الناقة ، وتمتنعوا عن الانتفاع بها ، وتسموها «بَحِيرة » ، وتتركوها بناء على نذر ، وتسموها «سائبة » ، وتُحَرِّموا الذكر من الشاة ، وتهبوه للأصنام ، حتى إذا أنتجت الشاة ذكراً وأنثى سميتموها «وَصِيلة » ، ولم تذبحوا الذكر منها . ولم يشرع لكم أن تحرِّموا الانتفاع بالذكر من الإبل إذا ولد منه عشرة أبطن ، وتطلقوا عليه اسم «حَام » ، لم يشرع الله لكم شيئاً من ذلك ، ولكن الذين كفروا يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ، وأكثرهم لا يعقلون{[58]} .


[58]:كان عند الجاهلية عادات حرموا بها على أنفسهم ما لم يحرمه الله فمنها: 1 – إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر شقوا أذنها وحرموا ركوبها ولم يطردوها عن ماء ولا مرعى وسموها "بحيرة" أي مشقوقة الأذن. 2 – كان الرجل منهم يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة ثم يجعلها كالبحيرة. 3 – وكانوا إذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة وصلت أخاها وسموها "وصيلة". 4 – وكانوا إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ويعرف عندهم باسم "حام".
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

{ 103 - 104 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما أحله الله ، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما ، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وهي : ناقة يشقون أذنها ، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة .

{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي : ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه ، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل ، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة .

{ وَلَا حَامٍ } أي : جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم .

فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان . وإنما ذلك افتراء على الله ، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فلا نقل فيها ولا عقل ، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

ثم حكى - سبحانه - بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها ، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم ، مع أنها لا أصل لها ، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال - تعالى - :

{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها . ولما كان الكفار يحرمون على انفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات - وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها - بين تعالى - أن ذلك باطل فقال : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ }

وجعل هنا بمعنى شرع ووضع ، و { من } زائد لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق .

وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها ، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها . وسموها " البحيرة " أي : مشقوقة الأذن .

وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن ذكر ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب .

والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء إذا ترك يجري .

قال أبو عبيدة : كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض . سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة .

وقال محمد بن إسحاق : السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث ، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ، ولا يشرب لبنها إلا ضيف .

وعن ابن عباس : هي التي تسيب للأصنام ، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم .

والوصيلة بزنة فعيلة بمعنى فاعله . قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين - أي اثنين اثنين - وإذا ولدت في آخرها انثى وذكرا . قيل : وصلت أخاها . فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ، وتجري مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها .

وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت انثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم .

وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى ، فكانوا يتركونها للطواغيت ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر .

والحام اسم فاعل من حمى يحمي أي منع .

قال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء أو مرعى .

وقال أبو عبيدة : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى .

هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة ، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها .

ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها ، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها .

هذا ، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه : " روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال . البحيرة : هي التي تكون درها للطواغيت . والسائبة : هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا .

وروى الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أول من سيب السوائب وعبد الإِصنام أبو خزاعة عمرو بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " .

والمعنى : ما شرع الله - تعالى - شيئاً مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم .

والمراد بالذين كفروا في قوله { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم الفاسدة والمزاعم الباطلة ، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا .

والمراد بأكثرهم في قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر .

وقد عبر - سبحانه - بقوله { وَأَكْثَرُهُمْ } إنصافاً للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة ، وإستجابت للحق عند ظهوره .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلََكِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : ما بحر الله بحيرة ، ولا سيب سائبة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، ولكنكم الذين فعلتم ذلك أيها الكفرة ، فحرّمتموه افتراء على ربكم . كالذي :

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن ابن الهاد : وحدثني يونس ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : ثني الليث ، قال : ثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «رأيْتُ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ الخزَاعِيّ يَجُرّ قصبَهُ فِي النّارِ ، وكانَ أوّلَ مَنْ سَيّبَ السّائِبَةَ » .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : «يا أكْثَمُ ، رأيْتُ عَمْرَو بنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، فَمَا رأيْتُ رَجْلاً أشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ، إنّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ ، إنّهُ أوّلُ مَنْ غير دين إسماعيل وبحّر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي » .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس ، قال : ثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قَدْ عَرَفْتُ أوّلَ مَنْ بَحّرَ البَحائِر رَجُلٌ مِنْ مُدْلِجٍ ، كانَتْ لَهُ ناقَتانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما وَحَرّمَ ألْبانَهُما وظُهُورَهُما وقال : هاتانِ لِلّهِ ، ثُمّ احْتاجَ إلَيْهما فَشَرِبَ ألْبانَهُما وَرَكِبَ ظُهُورَهُما » قالَ : «فَلَقَدْ رأيْتُهُ فِي النّارِ يُؤْذِي أهْلَ النّارِ رِيحُ قُصْبِهِ » .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عليّ النّارُ فَرأيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ فُلان ابْنِ فُلان ابْنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، وَهُوَ أوّلُ مَنْ غَيّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَسَيّبَ السّائِبَةَ ، وأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ أكْثَمُ بْنُ الجون » . فقال أكثم : يا رسول الله ، أيضرّني شبههه ؟ قال : «لا ، لأنّكَ مُسْلِمٌ ، وَإنّهُ كافِرٌ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار ، وهو أوّل من سيب السوائب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَعْرِفُ أوّلَ مَنْ سَيّبَ السّوَائبَ وأوّلَ مَنْ غَيّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ » قالُوا : مَنْ هُوَ يا رَسُولَ اللّهِ ؟ قال : «عَمْرُو بْنُ لُحَي أخُو بَنِي كَعْبٍ ، لَقَدْ رأيْتُهُ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، يُؤْذِي رِيحُهُ أهْلَ النّارِ . وإنّي لأَعْرِفُ أوّلَ مَنْ بَحّرَ البَحائِرَ » . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ كانَتْ لَهُ ناقَتانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما وَحَرّمَ ألْبانَهُما ، ثُمّ شَرِبَ ألْبانَهُما بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَقَدْ رأيْتُهُ فِي النّارِ هُوَ وهُمَا يَعضّانِهِ بأفْوَاهِهِما ، ويَخْبِطانِهِ بأخفْافِهِما » .

والبحيرة : الفَعيلة ، من قول القائل : بَحرتُ أذنَ هذه الناقة : إذا شقها ، أبْحَرُها بحرا ، والناقة مبحورة ، ثم تصرف المفعولة إلى فعَيلة ، فيقال : هي بحيرة . وأما البَحِرُ من الإبل : فهو الذي قد أصابه داء من كثرة شرب الماء ، يقال منه : بَحِرَ البعير يبحرُ بَحَرا ، ومنه قول الشاعر :

لأَعْلِطَنّكَ وَسَما لا تُفارِقُهُ ***كما يُحَزّ بحُمّى المِيسَمِ البَحِرُ

وبنحو الذي قلنا في معنى البحيرة ، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن زيزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، قال : دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أرأيْتَ إبِلَكَ ألَسْتَ تُنْتِجُها مُسَلّمَةً آذَانُها ، فَتأْخُذُ المُوسَى فَتَجْدَعُها تَقُولُ هَذِهِ بَحِيرَةٌ ، وَتَشُقّ آذَانَها تَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ ؟ » قال : نعم ، قال : «فإنّ ساعِدَ اللّهِ أشَدّ ، وَمُوسَى اللّهِ أحَدّ ، كُلّ مالِكَ لَكَ حَلالٌ لا يُحَرّمُ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ » .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا الأحوص ، عن أبيه ، قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقال : «هَلْ تُنْتِجُ إبِلُ قَوْمِكَ صِحَاحا آذَانُها فَتَعمِدُ إلى المُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَها فَتَقُولُ هَذِهِ بُحْرٌ ، وَتَشُقّها أوْ تَشُقّ جُلُودَها فَتَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ ، فَتُحَرّمُها عَلَيْكَ وَعلى أهْلِكَ ؟ » قال : نعم . قال : «فإنّ ما آتاكَ اللّهُ لَكَ حِلّ ، وَساعِدُ اللّهُ أشَدّ ، ومُوسَى اللّهِ أحَدّ » وربما قال : «سَاعِدُ الله أشَدّ مِنْ سَاعِدِكَ ، ومُوسَى الله أحَدّ مِنْ مُوسَاكَ » .

وأما السائبة : فإنها المسيبة المخلاة ، وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه ، فيحرم الانتفاع به على نفسه ، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبده سائبة فلا ينتفع به ولا بولائه . وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة ، كما قيل : «عِيشَة رَاضِيَة » ، بمعنى : مرضية .

وأما الوصيلة ، فإن الأنثى من نعمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنا بذكر وأنثى ، قيل : قد وصلت الأنثى أخاها ، بدفعها عنه الذبح ، فسموها وصيلة .

وأما الحامي : فإنه الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب ، والانتفاع بسبب تتابع أولاد تحدث من فِحْلَته .

وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك . ذكر الرواية بما قيل في ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان ، حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخواعي : «يا أكْثَمُ رأيْتُ عَمْرَ بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، فَمَا رأيْتُ مِنْ رَجُلٍ أشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أيضرّني شبهه يا نبيّ الله ؟ قال : «لا ، لأنك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ ، وإنّهُ كانَ أوّلَ مَنْ غَيّرَ دِينَ إسْماعِيلَ وَنَصَبَ الأوْثانَ ، وَسَيّبَ السّوَائِب فِيهِمْ » .

وذلك أن الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيها ذكر سيبت ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف . فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فُعِل بأمها فهي البحيرة ابنة السائبة . والوصيلة : أن الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهنّ ذكر جعلت وصيلة ، قالوا : وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم ، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم . والحامي : أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنّ ذكر حُمِي ظهره ، ولم يركب ، ولم يجزّ وبره ، ويخلى في إبله يضرب فيها ، لا ينتفع به بغير ذلك . يقول الله تعالى ذكره : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ . . . . " إلى قوله : " وَلاَ يهْتَدُونَ " .

حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في هذه الاية : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال أبو جعفر : سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه قال : فأتيت علقمة فسألته ، فقال : ما تريد إلى شيء كانت تصنعه أهل الجاهلية ؟

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : أتيت علقمة ، فسألته عن قول الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " فقال : وما تصنع بهذا ؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية ، قال : فأتيت مسروقا ، فسألته ، فقال : البحيرة : كانت الناقة إذا ولدت بطنا خمسا أو سبعا ، شقوا أذنها وقالوا : هذه بحيرة . قال : وَلا سائبَةٍ قال : كان الرجل يأخذ بعض ماله ، فيقول : هذه سائبة . قال : وَلا وَصِيلَةٍ قال : كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث ، وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا : وصلت أخاها ، فلا يأكلونهما قال : فإذا مات الذكر ، أكله الذكور دون الإناث . قال : ولا حام ، قال : كان البعير إذا ولد وولد ولده ، قالوا : قد قضى هذا الذي عليه ، فلم ينتفعوا بظهره ، قالوا : هذا حام .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، قال : سألت علقمة ، عن قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ " قال : ما تصنع بهذا ؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " قال : البحيرة : التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن الشعبي : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " قال : البحيرة : المخضرمة . وَلا سائِبَةٍ والسائبة : ما سيب للهدي . والوصيلة : إذا ولدت بعد أربعة أبطن فيما يرى جرير ثم ولدت الخامس ذكرا وأنثى وصلت أخاها . والحام : الذي قد ضرب أولاد أولاده في الإبل .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ بنحوه ، إلا أنه قال : والوصيلة : التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها . وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا ، عن الشعبي ، أنه سئل عن البحيرة ، فقال : هي التي تجدع آذانها . وسئل عن السائبة ، فقال : كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم لتذبح ، فتخلط بغنم الناس ، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال ، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " وما معها : البحيرة من الإبل ، يحرّم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال ، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها ، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها ، فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي ، والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت في السابع ذكرا أو أنثى أو ذكرين ، ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم ، وإن توأمت أنثى وذكرا فهي وصيلة ، ترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا أنثيين تركتا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ فالبحيرة " : الناقة ، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن ، فيعمد إلى الخامسة ، فما لم يكن سَقْبا ، فيبتك آذانها ، ولا يجزّ لها وبرا ، ولا يذوق لها لبنا ، فتلك البحيرة . وَلا سائِبَةٍ كان الرجل يسيب من ماله ما شاء . وَلا وَصِيلَةٍ فهي الشاة إذا ولدت سبعا ، عمد إلى السابع ، فإن كان ذكرا ذبح ، وإن كانت أنثى تركت ، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما ، قالوا : وصلت أخاها ، فيتركان جميعا لا يذبحان ، فتلك الوصيلة . وقوله : وَلا حامٍ كان الرجل يكون له الفحل فإذا لقح عشرا قيل : حام ، فاتركوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ " ليسيبوها لأصنامهم . وَلا وَصِيلَةٍ يقول : الشاة . وَلا حامٍ يقول : الفحل من الإبل .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ " وَلا حامٍ تشديد شدّده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم ، وتغليظ عليهم ، فكانت البحيرة مثل الإبل إذا نتج الرجل خمسا من إبله نظر البطن الخامس ، فإن كانت سقبا ذبح فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم ، وإن كانت حائلاً وهي الأنثى تركت فبتكت أذنها ، فلم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن ولم يركب لها ظهر ولم يذكر لله عليها اسم . وكانت السائبة : يسيبون ما بدا لهم من أموالهم ، فلا تمتنع من حوض أن تشرع فيه ولا من حمى أن ترتع فيه . وكانت الوصيلة من الشاء : من البطن السابع ، إذا كان جديا ذبح فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم ، وإن جاءت بذكر وأنثى قيل وصلت أخاها فمنعته الذبح . والحام : كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة أو ولد ولده ، قيل حام ، حمى ظهره ، فلم يزم ولم يخطم ولم يركب .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " فالبحيرة من الإبل : كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، إن كان الخامس سقبا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم وكانت أمه من عرض الإبل ، وإن كانت رُبَعة استحيوها ، وشقوا أذن أمها ، وجزّوا وبرها ، وخلوها في البطحاء ، فلم تَجُزْ لهم في دية ، ولم يحلبوا لها لبنا ، ولم يجزّوا لها وبرا ، ولم يحملوا على ظهرها ، وهي من الأنعام التي حرّمت ظهورها . وأما السائبة : فهو الرجل يسيب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله ، أو برأ من وجع ، أو ركب ناقة فأنجح ، فإنه يسمي السائبة يرسلها فلا يعرض لها أحد من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا . وأما الوصيلة ، فمن الغنم ، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة ، فكان آخر ذلك جديا ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة ، وإن كانت عَناقا استحيوها ، وإن كانت جديا وعناقا استحيوا الجدي من أجل العناق ، فإنها وصيلة وصلت أخاها . وأما لحام : فالفحل يضرب في الإبل عشر سنين ، ويقال : إذا ضرب ولد ولده قيل : قد حمي ظهره ، فيتركونه لا يمسّ ، ولا ينحر أبدا ، ولا يمنع من كلإ يريده ، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، في قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال : البحيرة من الإبل التي يمنع درّها للطواغيت . والسائبة من الإبل : كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة من الإبل كانت الناقة تبكر بأنثى ، ثم تثني بأنثى ، فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم ، أو يذبحونها ، الشكّ من أبي جعفر . والحام : الفحل من الإبل ، كان يضرب الضراب المعدود ، فإذا بلغ ذلك ، قالوا : هذا حام ، قد حمى ظهره فترك ، فسموه الحام . قال معمر ، قال قتادة : إذا ضرب عشرة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : البحيرة من الإبل : كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى بتكوا آذانها ، ثم أرسلوها ، فلم ينحروا لها ولدا ، ولم يشربوا لها لبنا ، ولم يركبوا لها ظهرا . وأما السائبة ، فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم ، فلا تمنع حوضا أن تشرع فيه ، ولا مرعى أن ترتع فيه . والوصيلة : الشاة : كانت إذا ولدت سبعة أبطن ، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، عن الضحاك : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " أما البحيرة : فكانت الناقة إذا نتجوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبا ، وإن كان رُبَعة شقوا أذنها واستحيوها ، وهي بحيرة . وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه ، وهو خالص لرجالهم ، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه . وأما السائبة : فكان يسيب الرجل من ماله من الأنعام ، فيهمل في الحمى فلا ينتفع بظهره ولا بولده ، ولا بلبنه ، ولا بشعره ، ولا بصوفه . وأما الوصيلة ، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان جديا ، وإن كان عناقا استحيوه ، وإن كان جديا وعناقا استحيوهما كليهما ، وقالوا : إن الجدي وصلته أخته ، فحرمته علينا . وأما الحامي : فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده ، قالوا : قد حمى هذا ظهره ، وأحرز أولاد ولده ، فلا يركبونه ، ولا يمنعونه من حمى شجر ، ولا حوض مّا شرع فيه ، وإن لم يكن الحوض لصاحبه ، وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم ، لا إن ركبوا ، ولا إن حملوا ، ولا إن حلبوا ، ولا إن نتجوا ، ولا إن باعوا ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ . . . " إلى قوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال : هذا شيء كانت تعمل به أهل الجاهلية ، وقد ذهب . قال : البحيرة : كان الرجل يجدع أذنى ناقته ثم يعتقها ، كما يعتق جاريته وغلامه ، لا تحلب ، ولا تركب . والسائبة : يسيبها بغير تجديع . والحام : إذا نتج له سبع إناث متواليات حمت لحمها أن يؤكل .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : ثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، قال : قال سعيد بن المسيب : السائبة : التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء . والبحيرة : التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد . والوصيلة : الناقة البكر تبكر أوّل نتاج الإبل بأنثى ، ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسمونها للطواغيت ، يدعونها الوصيلة ، إن وصلت إحداهما بالأخرى . والحامي : فحل الإبل يضرب العشر من الإبل ، فإذا نقص ضرابه يدعونه للطواغيت ، وأعفوه من الحمل ، فلم يحملوا عليه شيئا ، وسموه الحامي .

وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام ، فلا نعرف قوما يعملون بها اليوم . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر ، ولا في الشرك نعرفه إلا بخبر ، وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلاف الذي ذكرنا فالصواب من القول في ذلك أن يقال : أما معاني هذه الأسماء ، فما بينا في ابتداء القول في تأويل هذه الاية . وأما كيفية عمل القوم في ذلك ، فما لا علم لنا به . وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا ، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه ، موصلاً إلى حقيقته ، وهو أن القوم كانوا محرمين من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله اتباعا منهم خطوات الشيطان ، فوبخهم الله تعالى بذلك ، وأخبرهم أن كلّ ذلك حلال ، فالحرام من كلّ شيء عندنا ، ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بنصّ أو دليل . والحلال منه : ما أحلّه الله ورسوله كذلك .

القول في تأويل قوله تعالى : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالذين كفروا في هذا الموضع والمراد بقوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " . فقال بعضهم : المعنيّ بالذين كفروا : اليهود ، وبالذين لا يعقلون : أهل الأوثان .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن دواد بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ " قال : أهل الكتاب . " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " قال : أهل الأوثان .

وقال آخرون : بل هم أهل ملة واحدة ، ولكن «المفترين » المتبوعون ، و«الذين لا يعقلون » : الأتباع .

ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا خارجة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ في قوله : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " هم الأتباع . وأما «الذين افتروا » ، يعقلون أنهم افتروا .

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن المعنيين بقوله : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ " الذين بحروا البحائر ، وسيبوا السوائب ، ووصلوا الوصائل ، وحموا الحوامي مثل عمرو بن لحي وأشكاله ، ممن سنوا لأهل الشرك السنن الرديئة وغيروا دين الله دين الحقّ وأضافوا إلى الله تعالى أنه هو الذي حرّم ما حرّموا وأحلّ ما أحلوا ، افتراء على الله الكذب وهم يعلمون ، واختلاقا عليه الإفك وهم يعمهون . فكذّبهم الله تعالى في قيلهم ذلك ، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا ، فقال تعالى ذكره : ما جعلت من بحيرة ولا سائبة ، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك ويفترون على الله الكذب . وأن يقال : إن المعنيين بقوله " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين ، فهم لا شكّ أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون ، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن ، وأخبروهم أنها من عند الله كذبة في إخبارهم أفكة ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقون في إخبارهم صادقون . وإنما معنى الكلام : وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى كذب وباطل . وهذا القول الذي قلنا في ذلك نظير قول الشعبيّ الذي ذكرناه ، ولا معنى لقول من قال : عنى بالذي كفروا : أهل الكتاب ، وذلك أن النكير في ابتداء الاية من الله تعالى على مشركي العرب ، فالختم بهم أولى من غيرهم ، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم . وبنحو ذلك كان يقول قتادة .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " يقول : لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرّم عليهم ، إنما كان من الشيطان ولا يعقلون .