52- ولا تستجب - أيها النبي - لدعوة المتكبرين من الكفار ، فتُبعد عنك المستضعفين من المؤمنين ، الذين يعبدون ربهم دائماً ، ولا يريدون إلا رضاه . ولا تلتفت لدس المشركين على هؤلاء المؤمنين ، فلست مسئولا أمام الله عن شيء من أعمالهم ، كما أنهم ليسوا مسئولين عن شيء من أعمالك ، فإن استجبت لهؤلاء الكفار المتعنتين ، وأبعدت المؤمنين ، كنت من الظالمين .
{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : لا تطرد عنك ، وعن مجالستك ، أهل العبادة والإخلاص ، رغبة في مجالسة غيرهم ، من الملازمين لدعاء ربهم ، دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها ، ودعاء المسألة ، في أول النهار وآخره ، وهم قاصدون بذلك وجه الله ، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل ، فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم ، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم ، وإدنائهم ، وتقريبهم ، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء ، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلاء .
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : كلٌّ له حسابه ، وله عمله الحسن ، وعمله القبيح . { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، أشد امتثال ، فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نفسَه معهم ، وأحسن معاملتهم ، وألان لهم جانبه ، وحسن خلقَه ، وقربهم منه ، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم .
وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن أناسا [ من قريش ، أو ] من أجلاف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك ، فاطرد فلانا وفلانا ، أناسا من فقراء الصحابة ، فإنا نستحيي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء ، فحمله حبه لإسلامهم ، واتباعهم له ، فحدثته نفسه بذلك . فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء .
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
أى : لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ لا أطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك ؟ فنزلت هذه الآية .
ففى الآية الكريمة نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه . لأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للاسلام لينال بقوتهم قوة ، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة فى الإيمان والعمل الصالح ، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه فى كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله ، فكيف يطردون من مجالس الخير ؟
ثم قال تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } .
أى : إن الله تعالى هو الذى سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شىء ، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شىء ، فهم مجزبون بأعمالهم ، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك ، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الضالين . إذ انهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك ، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما تلك هى صفاتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كفى قوله { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى فى قوله :
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
وقيل : الضمير للمشركين . والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين .
وهنا تخريج آخر لقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } بأن المعنى : ما عليك شىء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء ، وما من حسابك فى الفقر والغنى عليهم من شىء ، أى أ ، ت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعاً سواء منهم الفقير والغنى ، فكيف تطرد فقيراً لفقره ، وتقرب غنيا لغناه ؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين ، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك .
وقوله { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب للنهى عن الطرد ، وقوله { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب لنفى الحساب .
ثم قال تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } .
والمعنى : ومثل ذلك الفتن . أى الابتلاء والاختبار ، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء فى شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا ! وقد رد الله عليهم بقوله { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } أى : أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.