القول في تأويل قوله تعالى : { وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ } .
يقول تعالى ذكره : فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء من إفراد الطاعة والإخلاص بالعبادة له ، فللّه يسجد من في السموات من الملائكة الكرام ومن في الأرض من المؤمنين به طوعا ، فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كَرْها حين يكرهون على السجود . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها فأما المؤمن فيسجد طائعا ، وأما الكافر فيسجد كارها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : كان ربيع بن خيثم إذا تلا هذه الآية : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها قال : بلى يا رباه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها قال : من دخل طائعا هذا طوعا ، وكرها من لم ير يدخل إلاّ بالسيف .
وقوله : وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصَالِ يقول : ويسجد أيضا ظلال كلّ من سجد لله طوعا وكرها بالغدوات والعشايا ، وذلك أن ظل كلّ شخص فإنه يفىء بالعشيّ كما قال جلّ ثناؤه : أوَ لمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَقَيّأ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشّمائِلِ سُجّدا لِلّهِ وَهُمْ داخِرُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصالِ يعني : حين يفىء ظلّ أحدهم عن يمينه أو شماله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، قال في تفسير مجاهد : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصَالِ قال : ظلّ المؤمن يسجد طوعا وهو طائع ، وظلّ الكافر يسجد طوعا وهو كاره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصَالِ قال : ذكر أن ظلال الأشياء كلها تسجد له ، وقرأ : سُجّدا لِلّهِ وهم دَاخِرُونَ قال : تلك الظلال تسجد لله . والاَصال : جمع أُصُل ، والأصُلُ : جمع أصيل ، وا لأصيل : هو العشيّ ، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس قال أبو ذؤَيب :
لَعَمْرِيَ لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أهْلَهُ *** وأقْعُدُ في أفْيائِهِ بالأصَائِلِ
عطف على جملة { له دعوة الحق } [ سورة الرعد : 14 ] أي له دعوة الحق وله يسجد من في السماوات والأرض وذلك شعار الإلهية ، فأما الدعوة فقد اختص بالحقة منها دون الباطلة ، وأما السجود وهو الهويّ إلى الأرض بقصد الخضوع فقد اختص الله به على الإطلاق ، لأن الموجودات العليا والمؤمنين بالله يسجدون له ، والمشركين لا يسجدون للأصنام ولا لله تعالى ، ولعلهم يسجدون لله في بعض الأحوال .
وعدل عن ضمير الجلالة إلى اسمه تعالى العَلَم تبعاً للأسلوب السابق في افتتاح الأغراض الأصلية .
والعموم المستفاد من مَن } الموصولة عموم عرفي يراد به الكثرة الكاثرة .
والمقصود من { طوعاً وكرهاً } تقسيم أحوال الساجدين . والمراد بالطوع الانسياق من النفس تقرّباً وزُلفى لمحض التعظيم ومحبة الله . وبالكَره الاضطرار عند الشدة والحاجة كما في قوله تعالى : { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } [ سورة النحل : 53 ] . ومنه قولهم : مُكره أخُوك لا بَطل ، أي مضطر إلى المقاتلة وليس المراد من الكَره الضغط والإلجاء كما فسر به بعضهم فهو بعيد عن الغرض كما سيأتي .
والظلال : جمع ظل ، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور .
والضمير راجع إلى من في السماوات والأرض } مخصوصٌ بالصالح له من الأجسام الكثيفة ذات الظل تخصيصاً بالعقل والعادة ، وهو عطف على { من } ، أي يسجد مَن في السماوات وتسجد ظِلالهم .
والغدُوّ : الزمان الذي يغدو فيه الناس ، أي يخرجون إلى حوائجهم : إما مصدراً على تقدير مضاف ، أي وقت الغدو ؛ وإما جمع غُدوة ، فقد حكي جمعها على غُدوّ ، وتقدم في آخر سورة الأعراف .
والآصال : جمع أصيل ، وهو وقت اصفرار الشمس في آخر المساء ، والمقصود من ذكرهما استيعاب أجزاء أزمنة الظل .
ومعنى سجود الظلال أن الله خلقها من أعراض الأجسام الأرضية ، فهي مرتبطة بنظام انعكاس أشعة الشمس عليها وانتهاء الأشعة إلى صلابة وجه الأرض حتى تكون الظلال واقعة على الأرض وُقوعَ الساجد ، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالاً عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهداً على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية . ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال ، ولو جعل وجه الأرض شفافاً أو لامعاً كالماء لم يظهر الظل عليه بيّنا . فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقّها دقة بديعة . وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة ، منها : أن تكون رموزاً دالّة على انفراده تعالى بالإلهية ، وعلى حاجة المخلوقات إليه ، وجعل أكثرها في نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان .
والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقائق الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطّرد دال بعضه على بعض ، كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدلّ *** على أنه الواحد
والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان وما هي مساجد للأصنام وأن الأصنام لها أمكنة معينة هي حماها وحريمها وأكثر الأصنام ، في البيوت مثل : العزى وذي الخلصة وذي الكعبات حيث تنعدم الظلال في البيوت .
وهذه الآية موضع سجود من سجود القرآن ، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء . ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعاً بإيقاعه السجود . وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.