وقوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول : فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم معَ إبراهيم العملَ ، وهو السعي ، وذلك حين أطاق معونته على عمله .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَمَا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول : العمل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : لما شبّ حتى أدرك سعيُه سَعْيَ إبراهيمَ في العمل .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : لما شبّ حين أدرك سعيه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : سعي إبراهيم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ : سَعَي إبراهيم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : السّعْيُ ها هنا العبادة .
وقال آخرون : معنى ذلك : فلما مشى مع إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ : أي لما مشى مع أبيه .
وقوله : قالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه : يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشّرته الملائكة بإسحاق ولدا أن يجعله إذا ولدته سارّة لله ذبيحا فلما بلغ إسحاقُ مع أبيه السّعْي أُرِي إبراهيم في المنام ، فقيل له : أوف لله بنذرك ، ورؤيا الأنبياء يقين ، فلذلك مضى لما رأى في المنام ، وقال له ابنه إسحاق ما قال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال جبرائيل لسارَة : أبشري بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضربت جبهتها عَجَبا ، فذلك قوله : فَصَكّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يا وَيْلَتَي أأَلِدُو وأنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ إلى قوله : حَمِيدٌ مَجِيدٌ قالت سارَة لجبريل : ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا ، فلواه بين أصابعه ، فاهتزّ أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذن ذَبيح فلما كبر إسحاق أُتِيَ إبراهيمُ في النوم ، فقيل له : أوفِ بنذرك الذي نَذَرْتَ ، إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه ، فقال لإسحاق : انطلق نقرّب قُرْبانا إلى الله ، وأخذ سكينا وحبلاً ، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبت أين قُرْبانُك ؟ قالَ يا بنيّ أرَى في المَنامِ أنّي أذْبحُكَ فَانْظُرْ ماذَا تَرَى قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ فقال له إسحاق : يا أَبَتِ اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب ، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء ، فتراه سارَة فتحْزَن ، وأسْرعْ مرّ السكين على حَلْقي ليكون أهون للموت عليّ ، فإذا أتيتَ سارَة فاقرأ عليها مني السلام فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي ، حتى استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق ، ثم إنه جرّ السكين على حلقه ، فلم تَحِكِ السكين ، وضرب الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه ، وحزّ من قفاه ، فذلك قوله : فَلَمّا أسْلَما يقول : سلّما لله الأمر وَتَلّهُ للْجَبِينِ فنودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا بالحقّ فالتفت فإذا بكبش ، فأخذه وخَلّى عن ابنه ، فأكبّ على ابنه يقبله ، وهو يقول : اليوم يا بنيّ وُهِبْتَ لِي فلذلك يقول الله : وَفَديْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فرجع إلى سارَة فأخبرها الخبر ، فجَزِعت سارَة وقالت : يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تُعِلمْني .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ قال : رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبيد بن عمير ، قال : رؤيا الأنبياء وَحْي ، ثم تلا هذه الاَية : إنّي أرَى فِي الَمنامِ أنّي أذْبَحُكَ .
قوله : فانْظُرْ ماذَا تَرَى : اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ماذَا تَرَى ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء أهل الكوفة : فانْظُرْ ماذَا تَرَى ؟ بفتح التاء ، بمعنى : أيّ شيء تأمر ، أو فانظر ما الذي تأمر ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ماذَا تُرَى بضم التاء ، بمعنى : ماذا تُشير ، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح ؟ .
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ماذَا تَرَى بفتح التاء ، بمعنى : ماذا ترى من الرأي .
فإن قال قائل : أَوَ كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله ، والانتهاء إلى طاعته ؟ قيل : لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله ، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم : هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه ، فيسرّ بذلك أم لا ، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله .
وقوله : قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ يقول تعالى ذكره : قال إسحاق لأبيه : يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ يقول : ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا ، وقال : افعل ما تؤمر ، ولم يقل : ما تؤمر به ، لأن المعنى : افعل الأمر الذي تؤمره ، وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «إني أرى في المنام : افعل ما أُمِرْت به » .
{ فلما بلغ معه السعي } أي فلما جد وبلغ أن يسعى معه في أعماله ، و { معه } متعلق بمحذوف دل عليه { السعي } لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لما قال : { فلما بلغ السعي } فقيل مع من فقيل { معه } ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه ، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة . { قال يا بني } وقرأ حفص بفتح الياء . { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر ، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام " أنا ابن الذبيحين " . فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله ، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله ، فالصحيح أنه قال : فقال " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " والزوائد من الراوي . وما روي أن يعقوب كتب إلى يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما . { فانظر ماذا ترى } من الرأي ، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله ، وقرأ حمزة والكسائي " ماذا ترى " بضم التاء وكسر الراء خالصة ، والباقون بفتحها وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها . { قال يا أبت } وقرأ ابن عامر بفتح التاء . { افعل ما تؤمر } أي ما تؤمر به فحذفا دفعة ، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور ، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا . { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } على الذبح أو على قضاء الله ، وقرأ نافع بفتح الياء .
والفاء في { فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي } فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر ، تقديره : فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه ، أي بلغ سنّ من يمشي مع إبراهيم في شؤونه .
فقوله : { معه } متعلق بالسعي والضمير المستتر في { بلغ } للغلام ، والضمير المضاف إليه { معه } عائد إلى إبراهيم . و { السعي } مفعول { بلغ } ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه ، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات .
وكان عمُر إسماعيل يومئذٍ ثلاث عشرة سنة وحينئذٍ حدّث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي وكان أول ما بُدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام ، وإنما كانت الرؤيا وحياً له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه ، فقد رأى في المنام أنه يهاجِر من مكة إلى أرض ذات نخل فلم يهاجر حتى أُذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر رضي الله عنه ، ورأى بَقراً تُذبح فكان تأويل رؤياه مَن استشهد من المسلمين يوم أحد ، ولقد يُرجَّح قول القائلين من السلف بأن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة ، فإن في حديث الإِسراء أن الله فرَض الصلاة في ليلته والصلاة ثاني أركان الإِسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة فافهم .
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء .
وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعاً لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء .
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد ، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة ، وقد علمتَ أنه سأل ولداً لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه ، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه وذلك أعظم الابتلاء . فقابَل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه ، وهذا معنى قوله تعالى : { إنَّ هذا لهو البلاء المبينُ } [ الصافات : 106 ] .
وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراماً لإِبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رُؤَى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفيّة وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقّي هذا التكليف الشاقّ عليه وهو ذبح ابنه الوحيد .
والفاء في قوله : { فانظر ماذا ترى } فاء تفريع ، أو هي فاء الفصيحة ، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى . والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر فحقه أن يتعدّى إلى مفعولين ولكن علّقه الاستفهام عن العمل . والمعنى : تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر ، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختبار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه وليس إبراهيم مأموراً بذبح ابنه جبراً ، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين : أحدهما بتلقي الوحي ، والآخرِ بتبليغ الرسول إليه ، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتُبر كافراً .
وقرأ الجمهور { ماذا ترى } بفتح التاء والراء . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء ، أي مَاذا تُريني من امتثال أو عدمه . وحكى جوابه فقال : { يأبتتِ افعل ما تُؤمرُ } دون عطف ، جرياً على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
( وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنّن .
والتعبير عن الذبح بالموصول وهو { ما تُؤمَرُ } دون أن يقول : اذْبَحني ، يفيد وحده إيماء إلى السبب الذي جَعل جوابه امتثالاً لذبحه . وحُذف المتعلق بفعل { تُؤمرُ } لظهور تقديره : أي ما تؤمر به . وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية ، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإِيصال ، كقول عمرو بن معد يكرب :
أمرتك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به *** فقد تركتُكَ ذا مال وذا نشَب
وصيغة الأمر في قوله : { افْعَلْ } مستعملة في الإِذن . وعدل عن أن يقال : اذبحني ، إلى { افعل ما تؤمرُ } للجمع بين الإِذن وتعليله ، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك ، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه .
وجملة { ستَجِدُني } هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثّه على فعل ما أُمر به وَعَده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابراً ، وفي ذلك تخفيف من عبْء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره . وهذا وعد قد وفّى به حين أمكن أباه من رقبته ، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] ، وقد قرن وعده ب { إن شاء الله } استعانةً على تحقيقه .
وفي قوله : { مِنَ الصابِرينَ } من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف : بصابر ، لأنه يفيد أنه سيجده في عِداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به ، ألاَ ترى أن موسى عليه السلام لما وعد الخضر قال : { ستجدني إن شاء الله صابِراً } [ الكهف : 69 ] لأنه حُمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر .