163- واسأل اليهود - استنكارَا لما فعل أسلافهم - عن خبر أهل قرية - أيلة - التي كانت قريبة من البحر ، حين كانوا يتجاوزون حدود الله بصيد السمك في يوم السبت ، وحين كانت تأتيهم حيتان الأسماك وتظهر على وجه الماء يوم السبت ، وفي غيره لا تأتيهم ، ابتلاء من اللَّه . بمثل ذلك البلاء المذكور نبلوهم بلاء آخر بسبب فسقهم المستمر ليظهر منهم المحسن من المسيء .
قوله - تعالى - { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية } . . . الخ . معطوف على اذكر المقدر في قوله - تعالى - : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا } والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم وضمير الغيبة للمعاصرين له من اليهود .
أى : سل يا محمد هؤلاء اليهود المعاصرين لك كيف كان حال أسلافهم الذين تحايلوا على استحلال محارم الله فإنهم يجدون أخبارهم في كتبهم ولا يستطيعون كتمانها .
والمقصود من سؤالهم تقريعهم على عصيانهم ، لعلهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الحق ، ولا يعرضوا أنفسهم لعقوبات كالتى نزلت بسابقيهم ، وتعريفهم بأن هذه القصة من علومهم المعروفة لهم والتى لا يستطيعون إنكارها ، والتى لا تعلم إلا بكتاب أو وحى ، فإذا أخبرهم بها النبى الأمى الذي لم يقرأ كتابهم كان ذلك معجزة له . ودليلا على أنه نبى صادق موحى إليه بها .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره للآية الكريمة : ( أى واسأل - يا محمد - هؤلاء اليهود الذين بحضرتكم عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على اعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم " لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هى " أيلة " وهى على شاطىء بحر القلزم ، أى - البحر الأحمر- ) .
وقال الإمام القرطبى : وهذا سؤال تقرير وتوبيخ ، وكان ذلك علامة لصدق النبى صلى الله عليه وسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم وكانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لأنا من سبط إسرائيل . ومن سبط موسى كليم الله ، ومن سبط ولده عزير فنحن أولادهم ، فقال الله - عزل وجل - لنبيه سلهم - يا محمد - عن القرية . أما عذبتهم بذنوبهم ، وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة .
وجمهور المفسرين على أن المراد بهذه القرية . قرية ( أيلة ) التي تقع بين مدين والطور ، وقيل هى قرية طبرية ، وقيل هى مدين .
ومعنى كونها { حَاضِرَةَ البحر } : قريبة منه ، مشرفة على شاطئه ، تقول كنت بحضرة الدار أى قريبا منها .
وقوله { إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت } أى يظلمون ويتجاوزون حدود الله - تعالى - بالصيد في يوم السبت ويعدون بمعنى يعتدون ، يقال : عدا فلان الأمر واعتدى إذا تجاوز حده .
وقوله تعالى { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } بيان لموضع الاختبار والامتحان .
و { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } ظرف ليعدون . وحيتان جمع حوت وهو السمك الكبير . وشرعا : أى : شارعة ظاهرة على وجه الماء . جمع شارع ، من شرع عليه إذا دنا وأشرف وكل شىء دنا من شىء فهو شارع ، وقوله : شرعا حال من الحيتان .
والمعنى : إذ تأتيهم حيتانهم في وقت تعظيمهم ليوم السبت ظاهرة على وجه الماء دانية من القرية بحيث يمكنهم صيدها بسهولة ، فإذا مرت يوم السبت وانتهى لا تأتيهم كما كانت تأتيهم فيه ، ابتلاء من الله - تعالى - لهم .
قال ابن عباس : ( اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به ، وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله - تعالى - به ، وحرم عليهم الصيد فيه ، وأمرهم بتعظيمه ، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم الله به ، فذلك معنى قوله تعالى { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } .
وقال الإمام القرطبى : ( وروى في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود - عليه السلام - وأن إبليس أوحى إليهم فقال إنما نهيتهم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا الحياض ، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها ، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء . فيأخذونها يوم الأحد ) .
وقوله تعالى { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } معناه : بمثل هذا الابتلاء ، وهو ظهور السمك لهم في يوم السبت ، واختفائه في غيره نبتليهم ونعاملهم معاملة من يختبرهم ، لينالوا ما يستحقونه من عقوبة بسبب فسقهم وتعديهم حدود ربهم ، وتحايلهم القبيح على شريعتهم ، فقد جرت سنة الله بأن من أطاعة سهل له أمور دنياه ، وأجل له ثواب أخراه ، ومن عصاه أخذه أخذ عزيز مقتدر .
وقوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } الآية ، قال بعض المتأولين : إن اليهود المعارضين لمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا إن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبخة لهم ومقررة ما كان من فعل أهل هذه القرية ، فسؤالهم إنما كان على جهة التوبيخ و { القرية } هنا مدين قاله ابن عباس ، وقيل أيلة ، قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير وعكرمة والسدي والثوري ، وقال قتادة هي مْقنا بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد هي مقناة ساحل مدين ، ويقال فيها مغنى بالغين مفتوحة ونون مشددة ، وقيل هي طبرية قاله الزهري ، و { حاضرة } يحتمل أن يريد معنى الحضور أي البحر فيها حاضر ، ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في مدن البحر ، و { إذ يعدون } معناه يخالفون الشرع من عدا يعدو ، وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك » يعَدُّون « ، قال أبو الفتح أراد يعتدون فأسكن التاء ليدغمها في الدال ونقل فتحها إلى العين فصار » يعَدُّون «بفتح العين وشد الدال المضمومة ، والاعتداء منهم في السبت هو نفس العمل والاشتغال كان صيداً أو غيره إلا أنه كان في هذه النازلة بالصيد وكان الله عز وجل ابتلاهم في أمر الحوت بأن يغيب عنهم سائر الجمعة فإذا كان يوم السبت جاءهم في الماء شارعاً أي مقبلاً إليهم مصطفاً كما تقول أشرعت الرماح إذا مدت مصطفة ، وهذا يمكن أن يقع من الحوت بإرسال من الله كإرسال السحاب أو بوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : » ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة « ، ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة في ذلك اليوم على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة .
قال رواة هذا القصص : فيقرب الحوت ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل غابت كثرته ولم يبق منه إلا القليل الذي يتعب صيده ، قاله قتادة ففتنهم ذلك وأضر بهم فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطرق .
وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطاً ويصنع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد مضروب ، وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده ، وقالوا : ذهبت حرمة السبت ، فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت وجاهرت بالنهي واعتزلت ، والعامل في قوله : { ويوم لا يسبتون } قوله : { لا تأتيهم } وهو ظرف مقدم ، وقرأ عمر بن عبد العزيز «حيتانهم يوم أسباتهم » ، وقرأ نافع وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر والناس «يسبِتون » بكسر الباء ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف «يسبتُون » بضمها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعاصم بخلاف «يُسبتون » من أسبت إذا دَخل في السبت ، ومعنى قوله : { كذلك } الإشارة إلى أمر الحوت وفتنتهم به ، هذا على من وقف على { تأتيهم } ومن وقف على { كذلك } فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعاً ، أي فما أتى منها فهو قليل ، و { نبلوهم } أي نمتحنهم لفسقهم وعصيانهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرته واقتصرت منه على ما لا تفهم ألفاظ الآية إلا به .
غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا : فابتدىءَ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها ، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأناً غير شأن القصص الماضية ، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم ، ولكنها مما كان مروياً عن أحبارهم ، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها ، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها ، وهم كانوا يكتمونها ، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثراً قد تعيّر الأمة به ، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعطة ، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال ، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض ، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها ، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزاً عليها ومعرّة تُعير بها ، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا أمماً أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم ، حتى أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم ، وما بقي معرّة لأخلافهم ، وذلك تَحدّ لهم ، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد .
فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع ، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم ، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى ، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان { وأسألهم عن القرية } وزان : أعدَوْتُم في السَبْت ، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه ، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه ، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره .
وجملة : { واسألهم } عطف على جملة : { وإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله : { وقَطّعنْاهم } [ الأعراف : 168 ] ، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل .
وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } الآية من سورة البقرة ( 65 ) .
وهذه القرية قيل : ( أْيلة ) وهي المسماة اليوم ( العقبة ) وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا ، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر ، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام ، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرببِ منه ، لأن الحضور يستلزم القرب ، وكانت ( أيلة ) متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم .
وقيل هي ( طبرية ) وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية ، وقد قال المفسرون : إن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود .
وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله : { إذ يعْدُون } أي أهلها .
والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله : { إذ يعدون في السبت } الخ فقوله : { إذ يعدون في السبت } بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم . فتقدير الكلام : وأسألهم إذ يعدُو أهل القرية في السبت و { إذْ } فيه اسم زمان للماضي ، وليست ظرفاً .
والعدوان الظلم ومخالفة الحق ، وهو مشتق من العدوْ وبسكون الدال وهو التجاوز .
والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقُلنا لهم لا تَعدُوا في السبت } في سورة النساء ( 154 ) .
واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم .
وتعدية فعل { يعدون } إلى { في السبت } مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت ، نظراً إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت ، ونظراً إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان مَنوطاً بحق خاص بيوم السبت ، وذلك هو حق عدم العمل فيه ، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه ، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة .
وهدف { في } للظرفية ، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت .
وقوله : { إذ تأتيهم حيتانهم } ظرف ل { يعْدُون } أي يَعْدون حين تأتيهم حيتانهم .
والحيتان جمع حوت ، وهو السمكة ، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فُلْك ، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد ، والجمعُ حيتان .
وقوله : { شُرّعاً } هو جمع شارع ، صفة للحوت الذي هو المفرد ، قال ابن عباس : أي ظاهرة على الماء ، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد ، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله ، وقال الضحاك : { شُرَعاً } متتابعة مصطفة ، أي فهو كناية عن كثرة ما يَرد منها يومَ السبت .
وأحسب أن ذلك وصف من شَرَعَتْ الإبل نحو الماء أي دخلتْ لتشرب ، وهي إذا رعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه ، فمثلت هيئة الحيتان ، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين ، وهذا أحسن تفسيراً .
والمعنى : أنهم يَعْدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه ، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمناً فيه .
وقوله : { يوم سبتهم } يجوز أن يكون لفظ سبت مصدَر سبتَ إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله : { ويوم لا يسبتون } فإنه مضارع سَبت ، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى : إنهم إذا حفظوا حرمة السبت ، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت ، جاءت الحيتان يومئذٍ شُرعاً آمنة ، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدُّوا له آلاته ، وعزموا على الصيد لم تأتهم .
ويجوز أن يكون لفظ { سبتهم } بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع ، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود ، تعريضاً بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد ، كقول أحد الطائينَ :
عَلاَ زيدْنا يوم النّقا رأسَ زيدِكم *** بأبيض ماضي الشفرتين يَمانِ
لشتان ما بين اليزيدين في النّدى *** يَزيدِ سُليْم والأغَرّ ابننِ حاتم
وعلى الوجهين يجوز في قوله : { ويوم لا يسبتون } أن يكون المعنى والأيامَ التي لا يحرم العمل فيها ، أي أيام الأسبوع ، لا تأتي فيها الحيتان ، وأن يكون المعنى وأيامَ السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها يَنقطع فيها إتيان الحيتان ، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية ، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين .
فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم ، وقرينته قوله تعالى : { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع .
وجملة { كذلك نبلوهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال من يقول : ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يَرعوون عن انتهاك حرمة السبت .
والإشارة إلى البلوى الدال عليها { نبلوهم } أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم ، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وأصل البلوى الاختبار ، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازاً عقلياً أي ليبلَو الناس تمسكهم بشرائِع دينهم .
والباء للسببية و ( ما ) مصدرية ، أي بفسقهم ، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه ، فإذا عرض لهم داعِيهِ خفُّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واسألهم عن القرية}، اسمها أيلة... مسخوا على عهد داود، عليه السلام، قردة، يعني اليهود، وإنما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: أمسخ الله منكم قردة وخنازير؟ لأنهم قالوا: إنا أبناء الله وأحباؤه، وإن الله لا يعذبنا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنا من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، وهو بكر نبيه، ومن سبط كليم الله موسى، ومن سبط ولده عزير، فنحن من أولادهم، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واسألهم عن القرية} {التي كانت حاضرة البحر}، أما عذبهم الله بذنوبهم؟ ثم أخبر عن ذنوبهم، فقال: {إذ يعدون في السبت}، يعني يعتدون، {إذ تأتيهم حيتانهم}، يعني السمك، {يوم سبتهم شرعا}، يعني شارعة من غمرة الماء إلى قريب من الحذاء، يعني الشط، أمنت أن يصدن، {ويوم لا يسبتون}، يعني حين لا يكون يوم السبت، {لا تأتيهم كذلك}، يعني هكذا، {نبلوهم}، يعني نبتليهم بتحريم السمك في السبت، {بما كانوا يفسقون}، جزاء منا، يعني بما كانوا يعصون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واسأل يا محمد هؤلاء اليهود وهم مجاوروك، عن أمر القرية التي كانت حاضرة البحر، يقول: كانت بحضرة البحر أي بقرب البحر وعلى شاطئه. واختلف أهل التأويل فيها؛ فقال بعضهم: هي أيلة.
وقال آخرون: هي مقنا. وقال آخرون: هي مدين... والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر، وجائز أن تكون أيلة، وجائز أن تكون مدين، وجائز أن تكون مقنا، لأن كلّ ذلك حاضرة البحر. ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع العذر بأن ذلك من أيّ، والاختلاف فيه على ما وصفت، ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه، إلاّ بخبر يوجب العلم ولا خبر كذلك في ذلك.
وقوله:"إذْ يَعْدُونَ في السّبْتِ" يعني به أهله: إذ يعتدون في السبت أمر الله، ويتجاوزونه إلى ما حرّمه الله عليهم، يقال منه: عدا فلان أمري واعتدى: إذا تجاوزه. وكان اعتداؤهم في السبت أن الله كان حرّم عليهم السبت، فكانوا يصطادون فيه السمك. "إذْ تَأتِيهِمْ حيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا": يقول: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم الذي نهوا فيه عن العمل شرّعا، يقول: شارعة ظاهرة على الماء من كلّ طريق وناحية كشوارع الطرق...
وقوله: "وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ "يقول: ويوم لا يعظمونه تعظيمهم السبت، وذلك سائر الأيام غير يوم السبت، لا تأتيهم الحيتان.
"كذلكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ" يقول: كما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرّم عليهم صيده، وإخفائها عنهم في اليوم المحلل صيده، كذلك نبلوهم ونختبرهم "بما كَانُوا يَفْسُقُونَ" يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ فقُرئ بفتح الياء من «يَسبتون» من قول القائل: سَبَتَ فلان يَسْبِتُ...: إذا عظّم السبت.
وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه: «وَيَوْمَ لا يُسْبِتُونَ» بضم الياء، من أسْبَتَ القوم يسبتون: إذا دخلوا في السبت... ونصب «يوم» من قوله: "وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ" بقوله: لا تَأتِيهِمْ، لأن معنى الكلام: لا تأتيهم يوم لا يسبتون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم} عن ابن عباس رضي الله عنه [أنه] قال: ابتدعوا السبت، فعظّموه، فابتلوا فيه، فحرّمت عليهم فيه الحيتان يوم السبت، فكانت تأتيهم يوم السبت {شرعا} بلا مؤنة وتكلّف. ابتلوا به، ولا تأتيهم في غيره مثله. وقال أبو عوسجة: قوله تعالى: {شرّعا} التي قد دنت من الشّطّ، والواحد شارع.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كان دينهم الأخذ بالتأويل، وذلك رَوَغَانٌ -في التحقيق، وإن الحقائق تأبى إلا الصدق، وإنَّ التعريج في أوطان الحظوظ والجنوحَ إلى محتملات الرُّخَص فسْخٌ لأكيد مواثيق الحقيقة، ومن شاب شوِّبَ له، ومن صَفَّى صفي له.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى: (واسألهم عن القرية) هذا سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استعلام..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... هذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلاّ بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك: أعدوتم في السبت؟...والعرب تسمي المدينة قرية... {كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} قريبة منه راكبة لشاطئه {إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت} إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ: «يعدّون» بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويُعدّون من الإعداد، وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. والسبت: مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه: يعدّون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} معناه يوم تعظيمهم أمر السبت. ويدل عليه قوله: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} [و] قراءة عمر بن عبد العزيز: «يوم إسباتهم»، وقرئ: «لا يسبُتون»، بضم الباء. وقرأ علي: «لا يسبتون» بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن: «لا يسبتون» على البناء للمفعول، أي لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا... والحيتان: السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة، {شُرَّعًا} ظاهرة على وجه الماء... يقال شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا، وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا {كذلك نَبْلُوهُم} أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذِهِ الْآيَةُ من أُمَّهَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ أُصُولُهَا تِسْعٌ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَسْأَلَ الْيَهُودَ إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ عَنْ الْقَرْيَةِ الْبَحْرِيَّةِ الَّتِي اعْتَدَوْا فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ بِاعْتِدَائِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، لِيُعَرِّفَهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ من الْعُقُوبَةِ بِتَغْيِيرِ فَرْعٍ من فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ بِتَغْيِيرِ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ}: يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ؛ فَعَبَّرَ بِهَا عَنْهُمْ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقَرًّا لَهُمْ وَسَبَبَ اجْتِمَاعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا...} الْآيَةَ، وَكَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ} يَعْنِي أَهْلَ الْعَرْشِ من الْمَلَائِكَةِ يُرِيدُ اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ. وَكَمَا قَالَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ: {هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ}...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ مَسْخِهِمْ، فَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّيْدَ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمْ بِأَنْ تَكُونَ الْحِيتَانُ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا؛ أَيْ: رَافِعَةً رُءُوسَهَا فِي الْمَاءِ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ وَمَا بَعْدَهُ من الْأَيَّامِ طَلَبُوا مِنْهَا حُوتًا وَاحِدًا لِلصَّيْدِ فَلَمْ يَجِدُوهُ؛ فَصَوَّرَ عِنْدَهُمْ إبْلِيسُ أَنْ يَسُدُّوا أَفْوَاهَ الْخُلْجَانِ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى إذَا أَمْسَوْا، وَأَرَادَتْ الْحِيتَانُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَإِلَى غَمْرَةِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِدْ مَسْلَكًا، فَيَأْخُذُونَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ؛ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمُسِخُوا... الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمَّا فَعَلُوا هَذَا نَهَاهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ، وَوَعَظَهُمْ أَحْبَارُهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى نَهْيِهِمْ لَهُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْ من التَّمَادِي عَلَى الْوَعْظِ وَالنَّهْيِ عَدَمُ قَبُولِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ بَعْضُهُمْ: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}؟ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ لَهُمْ النَّاهُونَ: مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ، أَيْ نَقُومُ بِفَرْضِنَا؛ لِيَثْبُتَ عُذْرُنَا عِنْدَ رَبِّنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أَيْ: تَرَكُوهُ عَنْ قَصْدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَفْظٌ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّاهِي وَالْعَامِدِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ جَهَالَةٍ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِيَ وَالسَّاهِيَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِاللُّغَةِ، وَقَصْدُهُمْ هَدْمُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَحَقَّقْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا). وَقُلْنَا: مَعْنَاهُ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ تَرَكَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا. فَالسَّاهِي لَهُ حَالَةُ ذِكْرٍ، وَالْعَامِدُ هُوَ أَبَدًا ذَاكِرٌ؛ وَكُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ مَتَى حَضَرَهُ الذِّكْرُ دَائِمًا أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِهَذَا اسْتَقَامَ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَاسْتَقَرَّ حُكْمُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ من أُصُولِ إثْبَاتِ الذَّرَائِعِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مَالِكٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ، كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدَ السَّبْتِ، فَسَكَرُوا الْأَنْهَارَ، وَرَبَطُوا الْحِيتَانَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَبَسَطْنَاهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَدَلَالَةً من الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا هَلَكُوا بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَا نَصِيدُ، بَلْ نَأْتِي بِسَبَبِ الصَّيْدِ، وَلَيْسَ سَبَبُ الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من هتك أستارهم فيما عملوه أيام موسى عليه السلام وما يليها، أتبعه خزياً آخر أشد مما قبله، كان بعد ذلك بمدة لا يعلمه أحد إلا من جهتهم أو من الله، وإذا انتفى الأول ثبت الثاني، فقال: {واسألهم} أي بني إسرائيل مبكتاً لهم ومقرراً {عن القرية} أي البلد الجامع {التي كانت حاضرة البحر} أي على شاطئه... ولعله عبر بالسؤال، ولم يقل: وإذ تعدو القرية التي -إلى آخره، ونحو ذلك، لأن كراهتهم للاطلاع على هذه الفضيحة أشد مما مضى، وهي دليل على الصرف والصدق. ولما كان السؤال عن خبر أهل القرية قال مبدلاً بدل اشتمال من القرية {إذ} أي حين {يعدون} أي يجوزون الحد الذي أمرهم الله به {في السبت إذ} أي العدو حين {تأتيهم} وزاد في التبكيت بالإشارة إلى المسارعة في الكفر بالإضافة في قوله: {حيتانهم} إيماء إلى أنها مخلوقة لهم، فلو صبروا نالوها وهم مطيعون، كما في حديث جابر رضي الله عنه رفعه "بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن صبر خرج إليه، وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدر له "{يوم سبتهم} أي الذي يعظمونه بترك الاشتغال فيه بشيء غير العبادة {شرعاً} أي قريبة مشرفة لهم ظاهرة على وجه الماء بكثرة، جمع شارعة وشارع أي دان {ويوم لا يسبتون} أي لا يكون سبت، ولعله عبربهذا إشارة إلى أنهم لو عظموا الأحد على أنه سبت جاءتهم فيه، وهو من: سبتت اليهود- إذا عظمت سبتها {لا تأتيهم} أي ابتلاء من الله لهم، ولو أنهم صبروا أزال الله هذه العادة فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. ولما كان هذا بلاء عظيماً، قال مجيباً لسؤال من كأنه قال لشدة ما بهره من هذا الأمر: هل وقع مثل هذا؟ مشيراً إلى أنه وقع، ولم يكتف به، بل وقع لهم أمثاله لإظهار ما في عالم الغيب منهم إلى عالم الشهادة: {كذلك} أي مثل هذا البلاء العظيم {نبلوهم} أي نجدد اختبارهم كل قليل {بما} أي سبب ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفسقون} أي يجددون في علمنا من الفسق، وهو الخروج مما هو أهل للتوطن من الطاعات...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السّبت} [البقرة: 65] إلى آخر الآيتين وقد تقدم تفسيرها، ولا أعلم للقصة ذكرا من كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم، ولولا ذلك لبهتوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما نزل عليه {ولقد علمتم} أو لما آمن من آمن به من علمائهم إذا كانوا لا يعلمون ما حكى لهم عن الله تعالى أنهم يعلمونه مؤكدا بلام القسم، وإذا قال غير المسلم المؤمن: إنه اطلع على القصة في بعض كتبهم المقدسة أو التاريخية غير المقدسة أو سمعه من بعضهم- قلنا أولا: إن آيات سورة الأعراف هذه نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود- ومن المعلوم قطعا أنه كان أميا لم يقرأ الكتب كما قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48] الخ. وثانيا: إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصدقهم بعد معاشرتهم في المدينة بكل ما يحكون عن كتبهم بل كذبهم عن الله تعالى في كثير منها، ولم يكن يصدقهم في كل ما يقولونه غير منقول عن كتبهم بالأولى: وهاك تفسير الآيات بمدلول ألفاظها، ولا نعتمد على شيء من الروايات فيها.
{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والسؤال فيه للتقرير المتضمن للتقريع، والإدلال بعلم ماضيهم. والمعنى واسأل بني إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت حاضرة البحر أي قريبة منه، راكبة لشاطئه {إذ يعدون في السبت} أي اسأل عن حالهم في الوقت الذي كانوا يعتدون في السبت، ويتجاوزون حكم الله بالصيد المحرم عليهم فيه. {إذ تأتيهم حيتانهم} أي سمكهم- ولا يزال أهل الحجاز يسمون السمكة حوتا كبيرة كانت أو صغيرة، وأهل سورية يخصون السمكة الكبيرة باسم الحوت- وقد أضيفت الحيتان إليهم لما كان من ابتلائهم بها، واحتيالهم على صيدها، وكانت تأتيهم {يوم سبتهم} أي تعظيمهم للسبت، فهو مصدر سبتت اليهود تسبت إذا عظمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة. {شرّعا} أي ظاهرة على وجه الماء كما روي عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه ظاهرة من كل مكان- وهي جمع شارع، كالركع السجد جمع الراكع والساجد، من شرع عليه إذا دنا وأشرف {ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} أي ولا تأتيهم يوم لا يعظمون السبت فعلا وتركا. قيل: إنها اعتادت أن لا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت، فأمنت وصارت تظهر فيه، وتخفى في الأيام التي لا يسبتون فيها لما اعتادت من اصطيادها فيها، فلما رأوا ظهورها وكثرتها في يوم السبت أغراهم ذلك بالاحتيال على صيدها ففعلوا.
{كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} أي مثل هذا البلاء بظهور السمك لهم نبلوهم أي نختبرهم أو نعاملهم معاملة المختبر لحال من يريد إظهار كنه حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر عن أمر ربهم، واعتدائهم حدود شرعه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم. وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال؛ ويذكرهم بعصيانهم القديم، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا؛ وما جره عليهم جميعاً من كتابة الذل عليهم والغضب أبداً.. اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.ولم يصمد فريق من بني إسرائيل -في هذه المرة- للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم.فأما كيف وقع لهم هذا، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة، وتداورهم هذه المداورة.. فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عندما يشاء الله.على أية حال، لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل.. فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل -على طريقة اليهود- للصيد في يوم السبت! وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من ظاهر النصوص!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا: فابتدئ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأناً غير شأن القصص الماضية، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم، ولكنها مما كان مروياً عن أحبارهم، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها، وهم كانوا يكتمونها، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثراً قد تعيّر الأمة به، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعظة، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزاً عليها ومعرّة تُعير بها، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا أمماً أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم، حتى أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم، وما بقي معرّة لأخلافهم، وذلك تَحدّ لهم، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد.
فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان {وأسألهم عن القرية} وزان: أعدَوْتُم في السَبْت، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره.
وجملة: {واسألهم} عطف على جملة: {وإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} [الأعراف: 161] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله: {وقَطّعنْاهم} [الأعراف: 168]، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل.
وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} الآية من سورة البقرة (65)...
وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله: {إذ يعْدُون} أي أهلها.
والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله: {إذ يعدون في السبت} الخ فقوله: {إذ يعدون في السبت} بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم. فتقدير الكلام: وأسألهم إذ يعدُو أهل القرية في السبت و {إذْ} فيه اسم زمان للماضي، وليست ظرفاً.
والعدوان الظلم ومخالفة الحق، وهو مشتق من العدوْ وبسكون الدال وهو التجاوز.
والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة، وتقدم عند قوله تعالى: {وقُلنا لهم لا تَعدُوا في السبت} في سورة النساء (154).
واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم.
وتعدية فعل {يعدون} إلى {في السبت} مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت، نظراً إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت، ونظراً إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان مَنوطاً بحق خاص بيوم السبت، وذلك هو حق عدم العمل فيه، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة.
وهدف {في} للظرفية، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت.
وقوله: {إذ تأتيهم حيتانهم} ظرف ل {يعْدُون} أي يَعْدون حين تأتيهم حيتانهم.
والحيتان جمع حوت، وهو السمكة، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فُلْك، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد، والجمعُ حيتان.
وقوله: {شُرّعاً} هو جمع شارع، صفة للحوت الذي هو المفرد، قال ابن عباس: أي ظاهرة على الماء، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله، وقال الضحاك: {شُرَعاً} متتابعة مصطفة، أي فهو كناية عن كثرة ما يَرد منها يومَ السبت.
وأحسب أن ذلك وصف من شَرَعَتْ الإبل نحو الماء أي دخلتْ لتشرب، وهي إذا رعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه، فمثلت هيئة الحيتان، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين، وهذا أحسن تفسيراً.
والمعنى: أنهم يَعْدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمناً فيه.
وقوله: {يوم سبتهم} يجوز أن يكون لفظ سبت مصدَر سبتَ إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله: {ويوم لا يسبتون} فإنه مضارع سَبت، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى: إنهم إذا حفظوا حرمة السبت، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت، جاءت الحيتان يومئذٍ شُرعاً آمنة، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدُّوا له آلاته، وعزموا على الصيد لم تأتهم.
ويجوز أن يكون لفظ {سبتهم} بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود، تعريضاً بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد..
فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم، وقرينته قوله تعالى: {كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع.
وجملة {كذلك نبلوهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال من يقول: ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يَرعوون عن انتهاك حرمة السبت.
والإشارة إلى البلوى الدال عليها {نبلوهم} أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} في سورة البقرة (143).
وأصل البلوى الاختبار، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازاً عقلياً أي ليبلَو الناس تمسكهم بشرائِع دينهم.
والباء للسببية و (ما) مصدرية، أي بفسقهم، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه، فإذا عرض لهم داعِيهِ خفُّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى.