المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

64- واستخفَّ واستنزل بدعائك إلى معصية الله من استعطت منهم ، وأفرغ جهدك في جميع أنواع الإغراء ، وشاركهم في كسب الأموال من الحرام وصرفها في الحرام ، وتكفير الأولاد وإغرائهم على الإفساد ، وعِدْهم المواعيد الباطلة كشفاعة آلهتهم ، والكرامة عند الله بأنسابهم ، وما يعد الشيطان أتباعه إلا بالتغرير والتمويه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

ثم أضاف - سبحانه - إلى إهانته وتحقيره لإِبليس أوامر أخرى ، فقال - تعالى - : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } .

قال الجمل : أمر الله - تعالى - إبليس بأوامر خمسة ، القصد بها : التهديد والاستدراج ، لا التكليف ، لأنها كلها معاص ، والله لا يأمر بها .

وهذه الأوامر الخمسة هى : اذهب ، واستفزز . . . وأجلب . . . وشاركهم .

. . وعدهم .

وقوله : واستفزز ، من الاستفزاز ، بمعنى الاستخفاف والإِزعاج ، يقال : استفز فلان فلانا إذا استخف به ، وخدعه ، وأوقعه فيما أراده منه . ويقال : فلان استفزه الخوف ، إذا أزعجه .

وقوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أصل الإِجلاب : الصياح بصوت مسموع . يقال : أجلب فلان على فرسه وجلب عليه ، إذا صاح به ليستحثه على السرعة فى المشى .

قال الآلوسى : " قوله { وأجلب عليهم } أى : صح عليهم من الجلَبة وهى الصياح . قاله الفراء وأبو عبيدة . وقال الزجاج : أجلب على العدو : جمع عليه الخيل . وقال ابن السكيت : جلب عليه : أعان عليه . وقال ابن الأعرابى : أجلب على الرجل ، إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع .

والخيل : يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ، وعلى الفرسان مجازا ، وهو المراد هنا .

ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فى بعض غزواته لأصحابه : " يا خيل الله اركبى " والرجل - بكسر الجيم - بمعنى راجل - كحذر بمعنى حاذر - هو الذى يمشى رجلاً ، أى غير راكب . . . " .

والمعنى . قال الله - تعالى - لإِبليس : اذهب أيها اللعين مذءوما مدحورًا . فإن جهنم هى الجزاء المعد لك ولأتباعك من ذرية آدم ، وافعل ما شئت معهم من الاستفزاز والخداع والإِزعاج ولهو الحديث وأجلب عليهم ما تستطيع جلبه من مكايد ، وما تقدر عليه من وسائل ، كأن تناديهم بصوتك ووسوستك إلى المعاصى ، وكأن تحشد جنودك على اختلاف أنواعهم لحربهم وإغوائهم وصدهم عن الطريق المستقيم .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته ، وإجلابه بخيله ورجله ؟

قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل شبهت حاله فى تسلطه على من يغويه ، بمغوار أوقع على قوم ، فصوت بهم صوتًا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده ، من خيالة ورجالة حتى استأصلهم ، وقيل : بصوته ، أى : بدعائه إلى الشر ، وبخيله ، ورجله : أى كل راكب وماش من أهل العبث . وقيل : يجوز أن يكون لإِبليس خيل ورجال " .

وعلى أية حال ، فالجملة الكريمة تصوير بديع ، لعداوة إبليس لآدم وذريته ، وأنه معهم فى معركة دائمة ، يستعمل فيها كل وسائل شروره ، ليشغلهم عن طاعة ربهم ، وليصرفهم عن الصراط المستقيم ، ولكنه لن يستطيع أن يصل إلى شئ من أغراضه الفاسدة ، ما داموا معتصمين بدين ربهم - عز وجل - .

وقوله - سبحانه - : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ } ، معطوف على ما قبله .

أى : وشاركهم فى الأموال ، بأن تحضهم على جمعها من الطرق الحرام ، وعلى إنفاقها فى غير الوجوه التى شرعها الله ، كأن يستعملوها فى الربا والرشوة وغير ذلك من المعاملات المحرمة .

وشاركهم فى الأولاد : بأن تحثهم على أن ينشئوهم تنشئة تخالف تعاليم دينهم الحنيف وبأن تيسر لهم الوقوع فى الزنا الذى يترتب عليه ضياع الأنساب ، وبأن تظاهرهم على أن يسموا أولادهم بأسماء يبغضها الله - عز وجل - ، إلى غير ذلك من وساوسك التى تغرى الآباء بأن يربوا أبناءهم تربية يألفون معها الشرور والآثام ، والفسوق والعصيان .

قال الإِمام ابن جرير بعد أن ساق عددًا من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله فيه ، بتسميته بما يكرهه الله ، أو بإدخاله فى غير الدين الذى ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله أو وأده ، أو غير ذلك من الأمور التى يعصى الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل فى مشاركة إبليس فيه ، من ولد ذلك الولد له أو منه ، لأن الله لم يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } معنى الشركة فيه ، بمعنى دون معنى ، فكل ما عصى الله فيه أو به ، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة . . . " .

وقد علق الإِمام ابن كثير على كلام ابن جرير بقوله : وهذا الذى قاله - ابن جرير - متجه ، فقد ثبت فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله - عز وجل - إنى خلقت عبادى حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .

وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتى أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد فى ذلك لم يضره الشيطان أبدًا " .

وقوله : { وعدهم } أى : وعدهم بما شئت من المواعيد الباطلة الكاذبة . كأن تعدهم بأن الدنيا هى منتهى آمالهم . فعليهم أن يتمتعوا بها كيف شاءوا بدون تقيد بشرع أو دين أو خلق . وكأن تعدهم بأنه ليس بعد الموت حساب أو ثواب أو عقاب ، أو جنة أو نار . . .

وقوله سبحانه { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } تحذير من الله تعالى لعباده من اتباع الشيطان ، ومن السير وراء خطواته .

وأصل الغرور تزين الباطل بما يوهم أنه حق . يقال : غر فلان فلانا فهو يغُره غرورًا إذا خدعه ، وأصله من الغُرُّ ، وهو الأثر الظاهر من الشئ ، ومنه غرة الفرس لأنها أبرز ما فيه . ولفظ { غرورا } صفة لموصوف محذوف .

والتقدير : وعدهم - أيها الشيطان - بما شئت من الوعود الكاذبة ، وما يعد الشيطان بنى آدم إلا وعدا غرورا .

ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله فيكون المعنى : وما يعدهم الشيطان إلا من أجل الغرور والمخادعة .

وفى الجملة الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إهمالاً لشأن الشيطان ، وبيانًا لحاله مع بنى آدم ؛ حتى يحترسوا منه ويحذروه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

{ واستفزز } معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك ، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده ، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير :

كما استغاث بسيىء فز غيطلة . . . خاف العيون فلم ينظر به الحشك{[7624]}

و «الصوت » هنا : هو الغناء والمزامير والملاهي ، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي ، فهي مضافة إلى { الشيطان } ، قاله مجاهد ، وقيل معناه : بدعائك إياهم إلى طاعتك ، قال ابن عباس : صوته ، كل داع إلى معصية الله ، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك . وقوله { وأجلب } أي هول ؛ والجلبة : الصوت الكثير المختلط الهائل ، وقرأ الحسن : «واجلُب » بوصل الألف وضم اللام . وقوله { بخيلك ورجلك } قيل هذا مجاز واستعارة ، بمعنى : اسع سعيك ، وابلغ جهدك ، وقيل معناه : أن له من الجن خيلاً ورجلاً ، قاله قتادة ، وقيل المراد : فرسان الناس ورجالتهم ، المتصرفون في الباطل ، فإنهم كلهم أعوان إبليس على غيرهم ، قاله مجاهد وقرأ الجمهور «ورجْلك » بسكون الجيم ، وهو جمع راجل ، كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، وشارب وشرب ، وقرأ حفص عن عاصم : «ورجِلك » بكسر الجيم على وزن فعل ، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه ، وهي صفة ؛ تقول فلان يمشي رجلاً ، غير راكب ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

أنا أقاتل عن ديني على فرسي . . . ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي{[7625]}

وقرأ قتادة وعكرمة : «ورجالك » . { وشاركهم في الأموال } عام : لكل معصية يصنعها الناس بالمال ، فإن ذلك المصرف في المعصية ، هو خط إبليس ، فمن ذلك البحائر وشبهها ، ومن ذلك مهر البغي ، وثمن الخمر ، وحلوان الكاهن ، والربا ، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأباً . وقوله { والأولاد } عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا ، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس ، وعبد الجدي ، وأبا الكويفر ، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله ، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر ، وغير هذا ، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله{[7626]} . وقوله { وعدهم } أي منّهم بما لا يتم لهم ، وبأنهم غير مبعوثين ، فهذه مشاركة في النفوس ، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم { غروراً } منه ، لأنه لا يغني عنهم شيئاً .


[7624]:البيت من قصيدة قالها زهير لما أغار الحارث بن ورقاء الصيداوي - من بني أسد – على بني عبد الله بن غطفان، فغنم واستاق إبل زهير وراعيه يسارا، فقال زهير القصيدة يطالبه برد يسار ويهدده بالهجاء القبيح الفاحش. والسيء: ما يكون في الضرع من اللبن قبل نزول الدرة، والفز: ولد البقرة الوحشية، والغيطلة: البقرة، وينظر: ينظر. والحشك: دفع الدرة وامتلاؤها. وقيل: هو سرعة تجمع اللبن في الضرع. قال في اللسان (حشك): "الحشك: اسم للدرة المجتمعة، وقيل: إن الشاعر أراد الحشك فحرك للضرورة، أي: لم تنظر به أمه حشوك الدرة". أي: أعجلته بالسيء ولم تنتظر امتلاء ضرعها باللبن.
[7625]:البيت في اللسان (رجل)، وقد ذكره مع بيت بعده، وأطال في توضيح المعنى نقلا عن علماء اللغة، قال: "وقد يأتي رجل بمعنى راجل، قال الزبرقان بن بدر: آليت لله حجا حافيا رجلا *** إن جاوز النخل يمشي وهو مندفع ومثله ليحيى بن وائل، وأدرك قطري بن الفجاءة الخارجي أحد بني مازن حارثي: أما أقاتل عن ديني على فرس ***ولا كذا رجلا إلا بأصــــحـــــــــــاب؟ لقد لقيت إذا شرا وأدركنــــي *** ما كنت أرغم في جسمــي من العاب قال أبو حاتم: (أما) مخفف الميم مفتوح الألف، وقوله: (رجلا) أي: راجلا، كما تقول العرب: جاءنا فلان حافيا رجلا، أي: راجلا، كأنه قال: أما أقاتل فارسا ولا راجلا إلا ومعي أصحابي، لقد لقيت إذا شرا إن لم أقاتل وحدي. وأبو زيد مثله، وزاد: ولا كذا أقاتل راجلا، فقال: إنه خرج يقاتل السلطان، فقيل له: أتخرج راجلا تقاتل؟ فقال البيت، وقال ابن الأعرابي: قوله: (ولا كذا راجلا) أي: ما ترى رجلا كذا، وقال المفضل: (أما) خفيفة بمنزلة (ألا) و (ألا) تنبيه يكون بعدها أمر أو نهي أو إخبار، فالذي بعد (أما) هنا إخبار، كأنه قال: أما أقاتل فارسا وراجلا؟ وقال أبو علي في الحجة بعد أن نقل عن أبي زيد ما تقدم: فرجل – على ما حكاه أبو زيد – صفة، ومثله: ندس وفطن وحذر وأحرف نحوها، ومعنى البيت: كأنه يقول: اعملوا أني أقاتل عن ديني وعن حسبي، وليس تحتي فرس ولا معي أصحاب" اهـ . (اللسان – رجل).
[7626]:العلم الحديث لا يقر مسألة التزاوج بين الإنس والجن.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

الاستفزاز : طلب الفَزّ ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل . والسين والتاء فيه للجَعل الناشىء عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء ، أي استخفهم وأزعجهم .

والصوت : يطلق على الكلام كثيراً ، لأن الكلام صوت من الفم . واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس . ويجوز أن يكون مستعملاً هنا تمثيلاً لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلاً بقوله : { وأجلب عليهم بخيلك } كما سيأتي .

والإجْلاب : جَمْع الجيش وسوقه ، مشتق من الجَلَبة بفتحتين ، وهي الصياح ، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم .

والخيل : اسم جمع الفَرس . والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « يا خيلَ الله اركبي » وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته . .

ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } من جملة هذا التمثيل .

والرّجْل : اسم جمع الرجال كصحب . وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال ، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعاً . قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني :

وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة *** تتاح لحبات القلوب نبالها

ثم قال :

فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا *** لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها

والمعنى : أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم . فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش ، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة .

وقرأ حفص عن عاصم { ورجلك } بكسر الجيم ، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم ، وهو الواحد من الرجال . والمراد الجنس . والمعنى : بخيلك ورجالك ، أي الفرسان والمشاة .

والباء في { بخيلك } إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد . ومجرورها مفعول في المعنى لفعل { أجلب } مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ وإما لتضمين فعل { أجلب } معنى ( اغزُهم ) فيكون الفعل مضمناً معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة .

والمشاركة في الأموال : أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيباً في النتاج والحرث للأصنام . وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها ، قال تعالى : { وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] .

وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى ، وأن يُسمّوهم بعبدة الأصنام ، كقولهم : عبد العُزى ، وعبد اللات ، وزيد مناة ، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم .

ومعنى { عِدْهُمْ } أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلِم الآباء من الثكل والأولادُ من الأمراض ، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء ، كما قال أبو سفيان يوم أحُد « أعْلُ هبل » . ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذاباً بعد الموت لإنكار البعث ، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة .

وحذف مفعول { وعدهم } للتعميم في الموعود به . والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب . وسماه وعداً لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل .

ولذلك اعترض بجملة { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } .

والغرور : إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن . وتقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] ، وقوله : { زخرف القول غرورا } في سورة [ الأنعام : 112 ] . والمعنى : أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع ، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غروراً لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس ؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود بالعاقبة ، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل ، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلاً إليه بالإضرار . وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب إحياء علوم الدين .

وإظهار اسم الشيطان في قوله : { وما يعدهم الشيطان } دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر ، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها .