33- ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله قتلها إلا قتلا يكون للحق ، بأن تكون النفس مستحقة للقتل قصاصاً أو عقوبة ، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لأقرب قرابته سلطاناً على القاتل بطلب القصاص من القاضي ، فلا يجاوز الحد في القتل ، بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل اثنين بواحد ، فإن الله نصره وأوجب له القصاص والدية ، فلا يصح أن يتجاوز الحد .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . } .
فهذه وإن كانت فواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية ، يميل إليها الإِنسان بشهوته . بل هى فى نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإِنسان فى نفسه مرارة ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها ، أو فى حكم الكاره . . .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } تعليل للنهى عن الاقتراب منه ، أى : ابتعدوا عن مقدمات الزنا فضلا عن الوقوع فيه ذاته ، لأنه كان - وما زال - فى شرع الله ، وفى نظر كل عقل سليم فعلة فاحشة ظاهرة القبح وبئس الطريق طريقه ، فإنها طريق تؤدى إلى غضب الله - تعالى - وسخطه .
ومما لا شك فيه أن فاحشة الزنا من أقبح الفواحش التى تؤدى إلى شيوع الفساد والأمراض الخبيثة فى الأفراد والمجتمعات ، وما وجدت فى أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا .
ولقد تحدث الإِمام الرازى عن تلك المفاسد التى تترتب على الزنا فقال ما ملخصه :
الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد ، أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإِنسان أن الولد الذى أتت به الزانية ، أهو منه أو من غيره . . .
وثانيا : أنه إذا لم يوجد سبب شرعى لأجله يكون هذا الرجل لتلك المرأة ، لم يبق فى حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل .
وثالثها : أن المرأة إذا باشرت الزنا ، استقذرها كل طبع سليم ، وحينئذ لا تحل الألفة والمحبة ، ولا يتم السكن والازدواج . .
ورابعها : أنه إذا فتح باب الزنا ، فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وحينئذ لا يبقى بين نوع الإِنسان ، وبين سائر البهائم فرق فى هذا الباب .
وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل فى ترتيب المنزل وإعداد مهماته . . وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطمع عن سائر الرجال ، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا .
. . فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضى على الزنا بالقبح .
ولقد سد الإِسلام جميع المنافذ التى تؤدى إلى ارتكاب هذه الفاحشة ، وسلك لذلك وسائل من أهمها :
1- تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء إلا فى حدود الضرورة الشرعية ، ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ، ما رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم " .
" وروى الشيخان - أيضا - عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والدخول على النساء " . فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو - بفتح الحاء وسكون الميم - وهو قريب الزوج كأخيه وابن عمه فقال صلى الله عليه وسلم : " الحمو الموت " " أى : دخوله قد يؤدى إلى الموت .
2- تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية . ووجوب غض البصر .
قال - تعالى - : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ . . } وقال - سبحانه - : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ . . } وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة : العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام . . . والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " .
3- وجوب التستر والاحتشام للمرأة ؛ فإن التبرج والسفور يغرى الرجال بالنساء ، ويحرك الغريزة الجنسية بينهما .
قال - تعالى - : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ . . } 4- الحض على الزواج ، وتيسير وسائله ، والبعد عن التغالى فى نفقاته ، وتخفيف مؤنه وتكاليفه . . فإن الزواج من شأنه أن يحصن الإِنسان ، ويجعله يقضى شهوته فى الحلال . .
فإذا لم يستطع الشاب الزواج ، فعليه بالصوم فإنه له وقاية - كما جاء فى الحديث الشريف - .
5- إقامة حدود الله بحزم وشدة على الزناة سواء أكانوا من الرجال أم من النساء ، كما قال - تعالى - : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } وهذا الجلد إنما هو بالنسبة للبكر ذكرا كان أو أنثى ، أما بالنسبة للمحصن وهو المتزوج أو الذى سبق له الزواج ، فعقوبته الرجم ذكرا كان أو أنثى ، وقد ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة .
" ففى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى زان لم يتزوج وزانية متزوجة ، بقوله لوالد الرجل : " على ابنك مائة جلدة وتغريب عام " ثم قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه واسمه أنيس : " اغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها " .
ومما لا شك أنه لو تم تنفيذ حدود الله - تعالى - على الزناة ، لمحقت هذه الفاحشة محقا ، لأن الشخص إن لم يتركها خوفا من ربه - عز وجل - لتركها خوفا من تلك العقوبة الرادعة ، ومن فضيحته على رءوس الأشهاد .
هذه بعض وسائل الوقاية من تلك الفاحشة القبيحة ، ولو اتبعها المسلمون ، لطهرت أمتهم من رجسها ، ولحفظت فى دينها ودنياها .
ثم نهى - سبحانه - عن قتل النفس المعصومة الدم ، بعد نهيه عن قتل الأولاد ، وعن الاقتراب من فاحشة الزنا فقال - تعالى - : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } .
أى : ولا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلها ، إلا بالحق الذى يبيح قتلها شرعا ، كردة ، أو قصاص ، أو زنا يوجب الرجم .
قال الإِمام ابن كثير : يقول - تعالى - ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعى ، كما ثبت فى الصحيحين - عن عبد الله بن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزانى المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
وفى السنن : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم " .
وقوله : { إلا بالحق } متعلق بلا تقتلوا ، والباء للسببية ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أى : لا تقتلوها فى حال من الأحوال ، إلا فى حال ارتكابها لما يوجب قتلها .
وذلك : لأن الإِسلام ينظر إلى وجود الإِنسان على أنه بناء بناه الله - تعالى - فلا يحل لأحد أن يهدمه إلا بحق .
وبهذا يقرر الإِسلام عصمة الدم الإِنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة ، فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا . قال - تعالى - : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً . . } وقوله - سبحانه - : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } إرشاد لولى المقتول إلى سلوك طريق العدل عند المطالبة بحقه .
والمراد بوليه : من يلى أمر المقتول ، كأبيه وابنه وأخيه وغيرهم من أقاربه الذين لهم الحق فى المطالبة بدمه . فإن لم يكن للمقتول ولى ، فالحاكم وليه .
والمراد بالسلطان : القوة التى منحتها شريعة الله - تعالى - لولى المقتول على القاتل ، حيث جعلت من حق هذا الولى المطالبة بالقصاص من القاتل ، أو أخذ الدية منه ، أو العفو عنه ، ولا يستطيع أحد أن ينازعه فى هذا الحق ، أو أن يجبره على التنازل عنه .
والمعنى : ومن قتل مظلوما ، أى : بدون سبب يوجب قتله ، فإن دمه لم يذهب هدرا ، فقد شرعنا { لوليه سلطانا } على القاتل ، لأنه - أى الولى - إن شاء طالب بالقصاص منه ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء عفا عنه . وبذلك يصير الولى هو صاحب الكلمة الأولى فى التصرف فى القاتل ، حتى لكأنه مملوك له .
وما دامت شريعة الله - تعالى - قد أعطت الولى هذا السلطان على القاتل ، فعليه أن لا يسرف فى القتل ، وأن لا يتجاوز ما شرعه الله - تعالى - .
ومن مظاهر هذا التجاوز : أن يقتل اثنين - مثلا - فى مقابل قتيل واحد أو أن يقتل غير القاتل ، أو أن يمثل بالقاتل بعد قتله .
قال الآلوسى ما ملخصه : كان من عادتهم فى الجاهلية ، أنهم إذا قتل منهم واحدا ، قتلوا قاتله ، وقتلوا معه غيره . . .
وأخرج البيهقى فى سننه عن زيد بن أسلم أنه قال : إن الناس فى الجاهلية كانوا إذا قتل من ليس شريفا شريفا ، لم يقتلوه به ، وقتلوا شريفا من قومه ، فنهوا عن ذلك ، كما نهوا عن المثلة بالقاتل .
وقرأ حمزة والكسائى : { فلا تسرف } بالخطاب للولى على سبيل الالتفات .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } تذييل المقصود به تعليل النهى عن الإِسراف فى القتل . والضمير يعود إلى الولى - أيضا - .
أى : فلا يسرف هذا الولى فى القتل ، لأن الله - تعالى - قد نصره عن طريق ما شرعه له من سلطان عظيم ، من مظاهره : المطالبة بالقصاص من القاتل ، أو بأخذ الدية ، ومن مظاهره - أيضا - وقوف الحاكم وغيره إلى جانبه حتى يستوفى حقه من القاتل ، دون أن ينازعه منازع فى هذا الحق .
ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { إنه } يعود إلى المقتول ظلما ، على معنى : أن الله - تعالى - قد نصره فى الدنيا بمشروعية القصاص والدية حتى لا يضيع دمه ، ونصره فى الآخرة بالثواب الذى يستحقه ، وما دام الأمر كذلك فعلى وليه أن لا يسرف فى القتل .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب . لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .
قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك : وأشبه ذلك بالصواب عندى ، قول من قال : عنى بها - أى بالهاء فى إنه - الولى ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ووليه المقتول ، وهى إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور - أيضا - لأن الله - جل ثناؤه - قضى فى كتابه المنزل ، أن سلطه على قاتل وليه ، وحكمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ، واستبقاءه على الدية إن أحب ، والعفو عنه إن رأى . وكفى بذلك نصرة له من الله - تعالى - ، فلذلك هو المعنى بالهاء التى فى قوله { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة التى هى أول آية نزلت فى شأن القتل كما قال الضحاك : يراها قد عالجت هذه الجريمة علاجا حكيما .
فهى أولا : تنهى عن القتل ، لأنه من أكبر الكبائر التى تؤدى إلى غضب الله - تعالى - وسخطه ، قال - تعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .
وجاء النهى عنه فى بعض الآيات بعد النهى عن الإِشراك بالله - عز وجل - . قال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . } كما جاء النهى عنه فى كثير من الأحاديث النبوية ، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن ابن مسعود - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء " .
وفى حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم : " الآدمى بنيان الرب ، ملعون من هدم بنيان الرب " .
وفى حديث ثالث : " لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله فى النار " .
وهذا النهى الشديد عن قتل النفس من أسبابه ، أنه يؤدى إلى شيوع الغل والبغض والتقاتل . . . بين الأفراد والجماعات ؛ إذ النفس البشرية فى كل زمان ومكان ، يؤلمها ، ويثير غضبها وانتقامها ، أن ترى قاتل عزيز لديها يمشى على الأرض . .
وهى ثانيا : تسوق لولى المقتول من التوجيهات الحكيمة ، ما يهدئ نفسه ، ويقلل من غضبه ، ويطفئ من نار ثورته المشتعلة .
وقد أجاد صاحب الظلال - رحمه الله - فى توضيح هذا المعنى فقال :
" وفى تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وتجنيد الحاكم لنصرته ، تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذى تستشعره نفس الولى ، الغليان الذى قد يجرفه ويدفعه غلى الضرب يمينا وشمالا ، فى حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل . وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ، ونفسه تسكن ، ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ " .
والإِنسان إنسان ، فلا يطالب بغير ما ركب فى فطرته من الرغبة العميقة فى القصاص . لذلك يعترف الإِسلام بهذه الفطرة ويلبيها فى الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ، ويحبب فيه ، ويأجر عليه ، ولكن بعد أن يعطى الحق . فلولى الدم أن يقتص أو يصفح .
وشعور ولى الدم بأنه قادر على كليهما ، قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ، ويدفع به إلى الغلو والجموح .
هذا ، والذى نعتقده وندين الله - تعالى - عليه ، أنه لا علاج لجريمة القتل - وغيرها - إلا بتطبيق شريعة الله - تعالى - التى جمعت بين الرحمة والعدل .
وبالرحمة والعدل : تتلاقى القلوب بعد التفرق ، وتلتئم بعد التصدع ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو .
وقوله { ولا تقتلوا } وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا } [ الإسراء : 23 ] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في { النفس } هي للجنس ، و { الحق } الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله : «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى »{[7547]} .
قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى : { مظلوماً } نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و «الولي » القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و «السلطان » الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قال ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : «السلطان » القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف » بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة : رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بدخن الجاهلية ، أو قتل في حرم الله »{[7548]} ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فلا يسرف } القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل » بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية{[7549]} ، «فلا يسرفُ » بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط .
قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً{[7550]} ، والضمير في قوله { إنه } عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام : » ونصر المظلوم وإبرار القسم{[7551]} « ، وكقوله » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً{[7552]} « ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية .