ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .
وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .
والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .
وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .
ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .
وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .
ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .
والإشارة فى قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .
وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .
والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .
فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .
ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن إغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة{[3761]} ، و«الأذى » : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم » : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال{[3762]} :
إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ . . . وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا
وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد : الحاء مبدلة من العين .
قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم » : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت }{[3763]} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم و لو أعزم{[3764]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.