129- وإن العدل مع النساء بالمحبة الدائمة التي لا تشوبها شائبة ، والمساواة بين محبتها بحيث يبادلها ما تبادله ، أمر غير ممكن دائماً ، وغير ممكنة كذلك المساواة في المحبة بين الزوجات إذا كان عنده أكثر من واحدة ، ولكن إذا حرصتم فلا تجوروا عليها وتميلوا كل الميل إلى غيرها وتتركوها لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة ، ويجب أن تصلحوا أنفسكم وتقيموا الأسرة على الصلاح من غير إفساد . وتتقوا الله فإن الله يغفر لكم ويرحمكم إذ من شأنه المغفرة والرحمة .
ثم بين - سبحانه - أن تحقيق العدالة الكاملة فى الحياة الزوجية غير ممكن فقال - تعالى { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } . والخطاب هنا للرجال الذين يتزوجون بأكثر من زوجة .
والمعنى : ولن تستطيعوا - أيها الرجال - أن تعدلوا بين زوجاتكم المتعددات عدلا كاملا فى المحبة وفى الميل القلبى وفى غير ذلك من الأمور التى تختلف باختلاف تآلف النفوس وتنافرها . ولو أنكم حرصتم على العدل الكامل فى مثل هذه الأمور النفسية لما استطعتم ، لأن الميل النفسى لا يملكه الإِنسان ولا يستطيع التحكم فيه .
قال ابن كثير : نزلت هذه الآية فى عائشة . وكان النبى صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها . وقد روى الترمذى وأبو داود وغيرهما عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقسم بين نسائه فيعدل . ثم يقول : " اللهم هذا قسمى فيما أملك . فلا تلمنى فيما تلم ولا أملك " يعنى القلب .
وقوله { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } إرشاد من الله - تعالى - للرجال إلى ما يجب عليهم هذا العدل أتم الحرص .
إذا ثبت ذلك فلا تميلوا كل الميل إلى إحداهن بأن تبالغوا فى إرضائها والإِقبال عليها حتى تصير الأخرى التى ملتم عنها وهجرتموها كالمعلقة أى كالمرأة التى لا هى بذات زوج فتنال من حقوقها الزوجية ولا هى بمطلقة فترجو من الله أن يرزقها بالزوج الذى يكرمها . وإنما الواجب عليكم - يا معشر الرجال - أن تجاهدوا أنفسكم حتى تصلوا إلى الحق المستطاع من العدل بين الزوجات .
فقد أخرج الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما كانت له أمرأتان فمال إلى أحداهما - أى لم يعدل بينهما فيما يمكنه العدل فيه - جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط " .
وعن مجاهد قال : " كانوا يسوون بين الضرائر حتى فى الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه " .
وقوله { كُلَّ الميل } نصب لفظ كل على المصدرية لأنها على حسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره .
وقوله { فَتَذَرُوهَا } منصوب بإظمار أن فى جواب النهى . أو مجزوم عطفا على الفعل قبله . والجملة الكريمة توبيخ للأزواج الذين لا يعدلون بين نسائهم .
قال القرطبى : وقوله { فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } أى : لا هى مطلقة ولا ذات زوج . وهذا تشبيه بالشئ المعلق من شئ ، لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل ، وهذا مطرد فى قولهم فى المثل : ( ارض من المركب بالتعليق ) . وفى حديث أم زرع : زوجى العشق - أى الطويل المتد القامة - إن أنطق أطلق . وإن أسكت أعلق - أى أهمل وأترك حتى لكأننى بدون زوج - .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .
أى : وإن تصلحوا أعمالكم - أيها الناس - فتعدلوا فى قسمتكم بين أزواجكم وتعاشروهن بالمعروف ، وتتقوا الله وتراقبوه فيهن ، وتتوبوا إلى الله توبة نصوحا مما حدث منكم من ظلم لهن . إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم ذنوبكم ويتفضل عليكم برحمته وإحسانه .
هذا وقد ادعى بعض الذين لم يفهموا تعاليم الإِسلام فهما سليما أن هذه الآية بضمها إلى قوله - تعالى - فى مطلع هذه السورة { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } يكون منع تعدد الزوجات جائزاً شرعا ، لأن الله تعالى - قد بين فى الآية الى معنا وهى قوله { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ } أن الجمع بين النساء غير جائز إلا عند الوثوق من العدل بينهن ، وبما أن العدل بينهن غير مستطاع بنص الآية التى معنا ، إذا فالجمع بين النساء غير جائز ، وعلى الرجل أن يكتفى بواحدة .
وللرد على هذه الدعوى نقول : إن العدل الذى أخبر الله عنه غير مستطاع ، هو العدل الذى يتعلق بالتسوية بين الزوجات فى الحب القلبى ، والميل النفسى ، والتجاوب العاطفى ، إذ من المعلوم أن هذه الأمور النفسية لا يستطيع الإِنسان أن يتحكم فيها .
فأنت - مثلا - تجلس فى مجلس فيه أشخاص متعددون لا تعرفهم فتحس بارتياح لبعضهم وبنفور من بعضهم مع أنك لم يسبق لك أن اختلطت بواحد منهم ، وما ذلك إلا لأن الميول القلبية يعجز الإِنسان عن التحكم فيها .
أما العدل الذى جعله الله شرطا فى جواز الجمع بين الزوجات فهو العدل الذى يتعلق بالتسوية فيما يقدر عليه الإِنسان ويملكه مثل التسوية بينهن فى النفقة والكسورة والسكنى والمبيت . وغير ذلك من الأمور التى يقدر عليها .
وبهذا نرى أن موضوع الآية التى معنا يتعلق بالعدل النفسى وهو أمر غير مستطاع كما جاء فى الحديث الشريف : " اللهم هذا قسمى فيما ألمك ، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " .
وأما موضوع الآية التى فى صدر السورة وهى قوله - تعالى - { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فيتعلق بالعدل الظاهرى الذى يقدر عليه الإِنسان مثل التسوية فى النفقة وغير ذلك مما يقدر عليه الإِنسان .
ومع هذا ، فالآية التى معنا لم تطالب الرجل بالعدالة المطلقة الكاملة بين زوجاته بأن يسوى بينهن فى كل شئ ، لأن العدل بهذا المعنى غير مستطاع للمكلف ولو حرص على إقامته وبالغ فى ذلك . وإنما الآية الكريمة طالبته بالممكن منه فكأنها تقول : إنكم - أيها الرجال - لن تستطيعوا أن تعدلوا العدل المطلق الكامل بين زوجاتكم فى القسم والنفقة والتعهد والنظر والمؤانسة والمحبة وغير ذلك مما لا يكاد يحصر { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } على هذا العدل الكامل أتم الحرص لما استطعتموه ، ولذلك لم يكلفكم الله به ، إذ التكليف الشرعى إنما يكون بما فى الوسع والطاقة ، وإذا كان الأمر كذلك الله به ، إذ التكليف الشرعى إنما يكون بما فى الوسع والطاقة ، وإذا كان الأمر كذلك فاجتهدوا ما استطعتم فى العدل بين زوجاتكم ، ولا تميلوا كل الميل إلى واحدة منهن وتهملوا الأخرى إهمالا يجعلها كأنها لا هى ذات زوج ولا هى مطلقة .
فإن العجز عن العدل المطلق الكامل لا يمنع تكليفكم بما دون ذلك من المراتب التى تقدرون عليها قالوا : ما لا يدرك كله لا يترك كله .
وبهذا نرى أن الآيتين الكريميتين تدعوان المسلم إلى العدل بين زوجاته بالقدر الذى يستطيعه بدون تقصير أو جور ، وأنهما بانضمام معناهما لا تمنعان تعدد الزوجات كما ادعى المدعون .
{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } لأن العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : " هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " . { ولو حرصتم } أي على تحري ذلك وبالغتم فيه . { فلا تميلوا كل الميل } بترك المستطاع والجور على المرغوب عنها ، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله . { فتذروها كالمعلقة } التي ليست ذات بعل ولا مطلقة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل " . { وإن تصلحوا } ما كنتم تفسدون من أمورهن . { وتتقوا } فيم يستقبل من الزمان . { فإن الله كان غفورا رحيما } يغفر لكم ما مضى من ميلكم .
وقوله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } الآية . معناه : العدل التام على الإطلاق المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول : «اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك »{[4323]} يعني ميله بقلبه ، وكان عمر ابن الخطاب يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل ، وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة ، فوصف الله تعالى حالة البشر ، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن ، ثم نهى عن «الميل كل الميل » وهو أن يفعل فعلاً يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله ، فهذا هو { كل الميل } ، وإن كان في أمر حقير ، فكأن الكلام { فلا تميلوا } النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل ، وقوله تعالى { فتذروها كالمعلقة } أي لا هي أيم ولا ذات زوج ، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه انحمل ، وهذا مطرد في قولهم في المثل : [ ارض من المركب بالتعليق ]{[4324]} ، وفي عرف النحويين في تعليق الفعل ، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة : [ زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق ]
وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها كالمسجونة » وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة » ثم قال تعالى { وإن تصلحوا وتتقوا } أي وإن تلتزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون { فإن الله كان غفوراً رحيماً } لما لا تملكونه متجاوزاً عنه ، وقال الطبري : معنى الآية ، غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم ، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء في التي قبل { وإن تحسنوا } وفي هذه { وإن تصلحوا } لأن الأول في مندوب إليه ، وهذه في لازم ، لأن الرجل له هناك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه ، وفي هذه ليس له أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك .
ثم عذر الناس في شأن النساء فقال : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } أي تمامَ العدل . وجاء ب ( لن ) للمبالغة في النفي ، لأنّ أمر النساء يغالب النفس ، لأنّ الله جعل حُسن المرأة وخُلقها مؤثّراً أشدّ التأثير ، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح ، وأخرى ثقيلة حمقاء ، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتاً في محبّة الزوج بعض أزواجه ، ولو كان حريصاً على إظهار العدل بينهنّ ، فلذلك قال { ولو حرصتم } ، وأقام الله ميزان العدل بقوله : { فلا تميلوا كلّ الميل } ، أي لا يُفْرط أحدكم بإظهار الميل إلى أحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة . فظهر أنّ متعلّق { تميلوا } مقدّر بإحداهنّ ، وأنّ ضمير { تذروها } المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة ، وهو إيجاز بديع .
والمعلّقة : هي المرأة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً ، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة ، وفي حديث أمّ زرع « زوجي العَشَنَّق إنْ أنطِقْ أطَلَّقْ وإن أسكُتْ أعَلَّقْ » ، وقالت ابنة الحُمَارس :
إنّ هي إلاّ حِظَةٌ أو تَطليق *** أو صلَف أو بينَ ذاك تَعْليق
قد دلّ قوله : { ولن تستطيعوا إلى قوله : فلا تميلوا كلّ الميل } على أنّ المحبّة أمر قهري ، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسباباً توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء ، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان ، ولكنّ من الحبّ حظّاً هو اختياري ، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته ، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع ، وحسن المعاشرة لها ، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختياراً بطول التكرّر والتعوّد .
ما يقوم مقام الميل الطبيعي . فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله : { فلا تميلوا كلّ الميل } ، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} في الحب أن يستوي حبهن في قلوبكم، {ولو حرصتم}، فلا تقدرون على ذلك، {فلا تميلوا كل الميل} إلى التي تحب، وهي الشابة، {فتذروها كالمعلقة}، أي فتأتيها وتذر الأخرى، يعني الكبيرة كالمعلقة، لا أيم ولا ذات بعل، ولكن اعدلوا في القسمة، {وإن تصلحوا} أمرهن {وتتقوا} الميل والجور، {فإن الله كان غفورا} حين ملت إلى الشابة برضى الكبيرة، {رحيما} بك حين رخص لك في الصلح، فإن أبت الكبيرة الصلح إلا أن تسوي بينها وبين الشابة أو تطلقها كان ذلك لها...
لن تستطيعوا أن تعدلوا بما في القلوب لأن الله تعالى يجاوزه {فَلا تَمِيلُواْ} لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم، فإذا كان الفعل والقول مع الهواء فذلك كل الميل. وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم فيقول: « اللهم هذا قسْمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك». يعني ـ والله أعلم ـ فيما لا أملك: قلبه. قال: وبلغنا أنه كان يطاف به محمولا في مرضه على نسائه حتى حَلَلْنَهُ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ}: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسوّوا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، مما لا تملكونه. وليس إليكم {وَلَوْ حَرَصْتُمْ}: ولو حرصتم في تسويتكم بينهنّ في ذلك.
{فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ}: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهنّ كلّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم من حقّ في القسم لهنّ، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف. {فَتَذَرُها كالمُعَلّقَةِ}: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها كالمعلقة، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: «اللّهُمّ هَذَا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ».
{فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ}: أي كالمحبوسة أو كالمسجونة.
وإنما أمر الله جلّ ثناؤه بقوله: {فَلا تَميلُوا كُلّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهنّ من القسمة بينهنّ والنفقة، وترك الجور في ذلك بإيثار أحداهنّ على الأخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن، مما في القلوب من المحبة والهوى.
{وَإنْ تُصْلِحُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما}: وإن تصلحوا أعمالكم أيها الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم وما فرض الله لهنّ عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك. {وتَتّقُوا}: وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم عنه، بأن تميلوا لإحداهنّ على الأخرى، فتظلموها حقها مما أوجبها الله له عليكم. {فإنّ اللّهَ كانَ غَفُورا}: فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهنّ قبل ذلك بتركه عقوبتكم عليه، ويغطي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل. {رَحِيما} يقول: وكان رحيما بكم إذا تاب عليكم، فقبل توبتكم من الذي سلف منكم من جورتكم في ذلك عليهنّ، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن، بصفحهن عن حقوقهنّ لكم من القسم على أن يطلقن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
العدل ههنا: التسوية... وأصل ذلك أن في كل ما كان المرء مدفوعا مضطرا فإنه غير مكلف في ذلك، وفي كل ما كان باختيار منه وإيثار غير مدفوع إليه فإنه مكلف في ذلك، والحب مما يدفع المرء إليه، ويضطره، ولا صنع له فيه...
قد رَوَى قتادةُ عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَتْ له امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهِمَا على الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ"؛ وهذا الخبر يدلّ أيضاً على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أوْلى، لقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
والعدل بين الزوجات فرض، وأكثر ذلك في قسمة الليالي، ولا يجوز أن يفضل في قسمة الليالي حرة على أمة متزوجة، ولا مسلمة على ذمية...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} لن تقدروا على التسوية بينهن في المحبة ولو اجتهدتم {فلا تميلوا كل الميل} إلى التي تحبون في النفقة والقسمة {فتذروها كالمعلقة} فتدعوا الأخرى كأنها معلقة لا أيما ولا ذات بعل {وإن تصلحوا} بالعدل في القسم {وتتقوا} الجور {فإن الله كان غفورا رحيما} لما ملت إلى التي تحبها بقلبك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ} ومحال أن تستطيعوا العدل {بَيْنَ النساء ِ} والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم، لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم. {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]... وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوّي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة. هذا إذا كن محبوبات كلهن؛ فكيف إذا مال القلب مع بعضهن {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضاً منها، يعني: أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة؛ فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله. وفيه ضرب من التوبيخ {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة... وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضي الله عنها: أإلى كل أزواج رسول الله بعث عمر مثل هذا؟ قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره، فقالت: ارفع رأسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه. فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعاً، وكان لمعاذ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد. {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة {وَتَتَّقُواْ} فيما يستقبل، غفر الله لكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى {فتذروها كالمعلقة} أي لا هي أيم ولا ذات زوج، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه انحمل،...
لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب، لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان -وإن كانت المرأة واحدة- متعسر، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد: {ولن تستطيعوا} أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة {أن تعدلوا} أي من غير حيف أصلاً {بين النساء} في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق {ولو حرصتم} أي على فعل ذلك،... ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل، سبب عنه قوله: {فلا} أي فإن كان لا بد لكم من العدد، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا {تميلوا} ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به، بين المراد بقوله: {كل الميل}... ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه، فكان التقدير: فإن ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسيباً، عطف عليه قوله: {وإن تصلحوا وتتقوا} أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان غفوراً رحيماً} أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} هذه الآية فتوى أخرى غير الفتاوى المبينة في الآيتين قبلها والمستفتون عنها هم الذين كان عندهم زوجتان أو أكثر من قبل نزول {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} [النساء:3] ومثلهم من عدد بعد ذلك ناويا العدل حريصا عليه ثم ظهر له وعورة مسلكه، واشتباه أعلامه، والتحديد بين ما يملكه وما لا يملكه اختياره منه، فالورع من هؤلاء يحاول أن يعدل بين امرأتيه حتى في إقبال النفس، والبشاشة والأنس، وسائر الأعمال والأقوال، فيرى أنه يتعذر عليه ذلك لأن الباعث على الكثير منه الوجدان النفسي، والميل القلبي، وهو مما لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، ولا يملك آثاره الطبيعية، ولوازمه الفطرية، فخفف الله برحمته على هؤلاء المتقين المتورعين، وبين لهم أن العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ولا يتعلق به التكليف، كأنه يقول: مهما حرصتم على أن تجعلوا المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن، وهو حقيقة معنى العدل فلن تستطيعوا ذلك بحرصكم عليه، ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائهما به، وإذا كان الأمر كذلك في الواقع...
يظن بعض الميالين إلى منع تعدد الزوجات أنه يمكن أن يستنبط من هذه الآية وآية: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} [النساء:3] أن التعدد غير جائز لأن من خاف عدم العدل لا يجوز له أن يزيد على الواحدة وقد أخبر الله تعالى أن العدل غير مستطاع، وخبره حق لا يمكن لأحد بعده أن يعتقده أنه يمكنه العدل بين النساء، فعدم العدل صار أمرا يقينيا ويكفي في تحريم التعدد أن يخاف عدم العدل بأن يظنه ظنا، فكيف إذا اعتقده يقينيا؟.
كان يكون هذا الدليل صحيحا لو قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ولم يزد على ذلك، ولكنه لما قال: {فلا تميلوا كل الميل...} علم أن المراد بغير المستطاع من العدل هو العدل الكامل الذي يحرص عليه أهل الدين والورع كما بيناه في تفسير الآية وهو ظاهر من قوله: {ولو حرصتم} فإن العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحد الأوسط منها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ولا يسهل الوقوف على حده والإحاطة بجزئياته ولا سيما الجزئيات المتعلقة بوجدانات النفس كالحب والكره وما يترتب عليهما من الأعمال، فلما أطلق في اشتراط العدل اقتضى ذلك الإطلاق أن يفكر أهل الدين والورع والحرص على إقامة حدود الله وأحكامه في ماهية هذا العدل وجزئياته ويتبينوها كما تقدم آنفا، فبين لهم سبحانه في هذه الآية ما هو المراد من العدل وأنه ليس هو الفرد الكامل الذي يعم أعمال القلوب والجوارح لأن هذا غير مستطاع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
نعم إن في الآية موعظة وعبرة لمن يتأملها من غير أولئك الورعين الحريصين على إقامة حدود الله وأحكامه بقدر الطاقة لمن يتأملها ويعتبر بها من عباد الشهوات والأهواء الذين لا يقصدون من الزوجية إلا تمتيع النفس باللذة الحيوانية الموقتة من غير مراعاة أركان الحياة الزوجية التي بينها الله تعالى في قوله: {ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21] ولا مراعاة أمر النسل وصلاح الذرية، أولئك السفهاء الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، يتزوجون الثانية لمحض الملل من الأولى وحب التنقل، ثم الثالثة والرابعة لأجل ذلك، لا يخطر في بال واحد منهم أمر العدل، ولا أنه يجب لإحداهن عليه شيء، وقد ينوي من أول الأمر أن يظلم الأولى ويهضم حقها، ولا يشعر بأنه ارتكب في ذلك إثما، ولا أغضب الله واستهان بأحكامه، وبين هؤلاء وأولئك قوم يزعمون أنهم على شيء من الدين ومراعاة أحكامه يظنون أن العدل بين المرأتين أمر سهل فيقدمون على التزوج بالثانية والثالثة والرابعة قبل أن يتفكروا في حقيقة العدل الواجب وماهيته. ألا فليتق الله الذواقون! ألا فليتق الله المترفون! ألا فليتفكروا في ميثاق الزوجية الغليظ! وفي حقوقها المؤكدة! ألا فليتفكروا في عاقبة نسلهم ومستقبل ذريتهم! ألا فليتفكروا في حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على دعائم الشهوات والأهواء وفساد الأخلاق والذرية التي تنشأ بين أمهات متعاديات وزوج شهواني ظالم! ألا فليتفكروا في قوله تعالى: {وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} [النساء:129]! وليحاسبوا أنفسهم ليعلموا هل هم من المصلحين لأمر نسائهم ونظام بيوتهم أم من المفسدين، وهل هم من المتقين الله في هذا الأمر أم من المتساهلين أو الفاسقين؟؟.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَإِنْ تُصْلِحُوا} ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس، احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس، وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه، وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. {وَتَتَّقُوا} الله بفعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الله الذي فطر النفس البشرية، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها. ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما. خطاما لينظم حركتها فقط، لا ليعدمها ويقتلها!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد دلّ قوله: {ولن تستطيعوا إلى قوله: فلا تميلوا كلّ الميل} على أنّ المحبّة أمر قهري، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسباباً توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان، ولكنّ من الحبّ حظّاً هو اختياري، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختياراً بطول التكرّر والتعوّد. ما يقوم مقام الميل الطبيعي. فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله: {فلا تميلوا كلّ الميل}، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الله سبحانه وتعالى نفى استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرف (لن) لتأكيد النفي، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة...
المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في سياق هذه الآيات وردت مادة (الصلح) و (الإصلاح) أربع مرات متتالية، مما يوضح بشكل قوي وصريح حرص الشارع الأكيد على سلامة الأسرة المسلمة، وحثه على ضمان استقرارها، ووجوب اتخاذ كل الوسائل، واستنفاد جميع المساعي للحيلولة دون الفراق بين الزوج والزوجة، ودون تعريض الأسرة بكافة أفرادها للتسكع والضياع والشتات، وذلك قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) -(وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129)}...
أحب أيها العبد المؤمن من شئت وأبغض من شئت، لكن لا تجعل هذا الحب يقود قالبك لتعطي من تحب خير غيره ظلما، وأبغض أيها العبد من شئت فلا يستطيع مقنن أن يقنن للقلب أن يبغض أو يحب، لكن بغضك لا تعديه عن قلبك إلى جوارحك لتظلم من تبغض...
وقوله:"تصلحوا" دليل على أنه كان هناك إفساد موجود والمطلوب أن تقوم بالبحث عن الأسباب التي جعلت الرجل يفسد في علاقته الزوجية ليقضي عليها، وبعد ذلك على المسلم أن يستأنف تقوى جديدة في المعاملة على ضوء ما شرع الله...