المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

82- وأما الجدار الذي أقمته - دون أجر - فكان لغلامين يتيمين من أهل المدينة ، وكان تحته كنز تركه أبوهما لهما ، وكان رجلا صالحاً ، فأراد الله أن يحفظ لهما الكنز حتى يبلغا رشدهما ، ويستخرجاه ، رحمة بهما ، وتكريماً لأبيهما في ذريته . وما فعلت ما فعلت باجتهادي ، إنما فعلته بتوجيه من الله ، هذا تفسير ما خفي عليك يا موسى ولم تستطع الصبر عليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

ثم ختم - سبحانه - القصة ، ببيان ما قاله الخضر لموسى فى تأويل الحادثة الثالثة فقال - تعالى - : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }

أى : { وأما الجدار } الذى أتعبت نفسى فى إقامته ، ولم يعجبك هذا منى .

{ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ } مات أبوهما وهما صغيران ، وهذان الغلامان يسكنان فى تلك المدينة ، التى عبر عنها القرآن بالقرية سابقا فى قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } قالوا : ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا ، لإِظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين ، وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح ، .

وكان تحته أى تحت هذا الجدار : { كنز لهما } أى : مال مدفون من ذهب وفضة . . ولعل أباهما هو الذى دفنه لهما .

{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } أى : رجلا من أصحاب الصلاح والتقوى ، فكان ذلك منه سببا فى رعاية ولديه ، وحفظ مالهما .

{ فأراد ربك } ومالك أمرك ؛ ومدبر شئونك ، والذى يجب عليك أن تستسلم وتنقاد لإِرادته .

{ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } أى : كمال رشدهما ، وتمام نموهما وقوتهما .

ويستخرجا كنزهما من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته ، ولولا أنى أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه وعلى حسن التصرف فيه .

{ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أى : وما أراده ربك - يا موسى - بهذين الغلامين ، هو الرحمة التى ليس بعدها رحمة ، والحكمة التى ليس بعدها حكمة .

فقوله { رحمة } مفعول لأجله .

ثم ينفض الخضر يده من أن يكون قد تصرف بغير أمر ربه فيقول : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } .

أى : وما فعلت ما فعلته عن اجتهاد منى ، أو عن رأيى الشخصى ، وإنما فعلت ما فعلت بأمر ربى ومالك أمرى ، وذلك الذى ذكرته لك من تأويل تلك الأحداث هو الذى لم تستطع عليه صبرا ، ولم تطق السكوت عليه ، لأنك لم يطلعك الله - تعالى - على خفايا تلك الأمور وبواطنها . . كما أطلعنى .

وحذفت التاء من { تسطع } تخفيفا . يقال : استطاع فلان هذا الشئ واستطاعه بمعنى أطاقه وقدر عليه .

وبذلك انكشف المستور لموسى عليه السلام - وظهر ما كان خافيا عليه .

هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لآيات تلك القصة جملة من الأحاديث ، منها ما رواه الشيخان ، ومنها ما رواه غيرهما ، ونكتفى هنا بذكر حديث واحد .

قال - رحمه الله - قال البخارى : حدثنا الحميدى ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرنى سعيد بن جبير قال . قلت لابن عباس : إن نوفا البكالى يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى نبى بنى إسرائيل .

قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى قام خطيبا فى بنى إسرائيل ، فسئل أى الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه . فأوحى الله إليه : إن عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك . فقال موسى : يا رب ، وكيف لى به ؟

قال : تأخذ معك حوتا ، تجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم " .

فأخذ حوتا ، فجعله فى مكتل ، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون . حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت فى المكتل ، فخرج منه فسقط فى البحر ، واتخذ سبيله فى البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جِرْبَةَ الماء ، فصار عليه مثل الطاق .

فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت .

فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، فلما كان الغد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذى أمره الله به .

قال له فتاه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } قال : فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا .

فقال موسى : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } قال : فرجعا يقصان أثرهما ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى - أى مغطى - بثوب ، - فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام .

قال : أنا موسى : قال : موسى نبى إسرائيل قال : نعم ، أتيتك لتعلمنى مما علمت رشدا ، قال : إنك لن تستطيع معى صبرا .

يا موسى : إنى على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه .

قال موسى : ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا . قال الخضر فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا .

فانطلقا يمشيان ، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول - أى بغير أجر - فلما ركبا فى السفينة ، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم .

فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها ، لتغرق أهلها ، لقد جئت شيئاً إمرا .

قال له الخضر : ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا . قال : لا تؤاخدنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا .

قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " كانت الأولى من موسى نسيانا " ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة . فنقر فى البحر نقرة . فقال له الخضر : ما علمى وعلمك فى علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر .

ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله - فقال له موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا .

وقال : وهذ أشد من الأولى . قال : { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي }

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان قد صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " .

وقد أخذ العلماء من هذه القصة أحكاما وآدابا من أهمها ما يأتى :

1- أن الإِنسان مهما أوتى من العلم ، فعليه أن يطلب المزيد ، وأن لا يعجب بعلمه ، فالله - تعالى - يقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } وطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } 2- أن الرحلة فى طلب العلم من صفات العقلاء . فموسى - عليه السلام - وهو من أولى العزم من الرسل ، تجشم المشاق والمتاعب لكى يلتقى بالرجل الصالح ؛ لينتفع بعلمه ، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله - تعالى - حكاية عنه : { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية : فى هذا من الفقه رحلة العالم فى طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم . وذلك كان دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح : وحصلوا على السعى الناجح ، فرسخت لهم فى العلوم أقدام . وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام .

قال البخارى : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى طلب حديث .

3- جواز إخبار الإِنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية ، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ورد عليه فتاه بقوله : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ . . } وفى هذا الرد - أيضا - من الأدب ما فيه ، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان ، وإن كان الكل بقضاء الله - تعالى - وقدره .

4- أن العلم على قسمين : علم مكتسب يدركه الإِنسان باجتهاده وتحصيله . . بعد عون الله تعالى - له . وعلم لدنى يهبه الله - سبحانه - لمن يشاء من عباده فقد قال - تعالى - فى شأن الخضر { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أى : علما خاصا أطلعه الله عليه يشمل بعض الأمور الغيبية .

5- أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم ، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها ، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح .

قال بعض العلماء ما ملخصه : وتأمل ما حكاه الله عن موسى فى قوله للخضر : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }

فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، فكأنه يقول له : هل تأذن لى فى ذلك أو لا ، مع إقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذى لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه . . .

6- أنه لا بأس على العالم ، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه ، لأن المتعلم لا يطيق ذلك ، لجهله بالأسباب التى حملت العالم على فعل تلك الأمور التى ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلى ، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر .

فقد قال الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر .

7- إن من علامات الإِيمان القوى ، أن يقدم الإِنسان المشيئة عند الإِقدام على الأعمال ، وأن العزم على فعل الشئ ليس بمنزلة فعله ، فقد قال موسى للخضر : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } ومع ذلك فعندما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح ، لم يصبر .

وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ فى تعليمه .

فقد قال الخضر لموسى : { إِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } 8- أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر ، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا ، وإن قتل الغلام شر ، ولكنه أقل من الشر الذى سيترتب على بقائه . وهو إرهاقه لأبويه ، وحملهما على الكفر .

كما يجوز للإِنسان أن يعمل عملا فى ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا فى دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه . ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه ، فقد خرق الخضر السفينة ، لكى تبقى لأصحابها المساكين .

9- أن التأنى فى الأحكام . والتثبت من الأمور ، ومحاولة معرفة العلل والأسباب . . . كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم ، وإلى سلامة القول والعمل .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب " .

10- أن من دأب العقلاء الصالحين . استعمال الأدب مع الله - تعالى - فى التعبير ، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا . . } وأضاف الخير الذى فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } وشبيه بهذا ما حكاه الله - تعالى - عن صالحى الجن فى قولهم : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } 11- قال القرطبى : قوله - تعالى - { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أى : قرب أن يسقط . وهذا مجاز وتوسع .

وقد فسره فى الحديث بقوله " مائل " فكان فيه دليل على وجود المجاز فى القرآن ، وهو مذهب الجمهور .

وجميع الأفعال التى حقها أن تكون للحى الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة ، فإنما هى استعارة .

أى : لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل ، وهذا فى كلام العرب وأشعارهم كثير ، كقول الأعشى :

أتنهون ولا يَنْهَى ذوى شطَط . . . كالطّعن يذهب فيه الزيتُ والفُتُل

والشطط : الجور والظلم ، يقول : لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذى يغيب فيه الفتل - فأضاف النهى إلى الطعن .

وذهب قوم إلى منع المجاز فى القرآن فإن كلام الله عز وجل - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حمله على الحقيقة أولى بذى الفضل والدين ، لأنه يقص الحق كما أخبر الله - تعالى - فى كتابه . . .

وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز فى القرآن فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } هذه الآية من أكبر الأدلة التى يستدل بها القائلون : بأن المجاز فى القرآن ، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هى مجاز .

وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة ، لأن الله - تعالى - يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق ، كما صرح - تعالى - بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه فى قوله - سبحانه - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها - سبحانه - ونحن لا نعلمها .

ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة " وما ثبت فى صحيح البخارى من حنين الجذع الذى كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم حزنا لفراقه .

فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجزع ، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه . . .

12- أن صلاح الأباء ينفع الأبناء . بدليل قوله - تعالى - : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } .

قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ فى ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم فى الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة فى الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء فى القرآن ووردت السنة به .

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما .

13- أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يتبين له الأسباب التى حملته على ذلك ، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أى : قبل مفارقتى لك سأخبرك عن الأسباب التى حملتنى على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور . { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق . وقيل من كتب العلم . وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه . قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح . { فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما } أي الحلم وكمال الرأي . { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة . وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين . أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج . أو لاختلاف حال العارف في الإلتفات إلى الوسائط . { وما فعلتُه } وما فعلت ما رأيته . { عن أمري } عن رأي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل ، ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا .

ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين } هذان الغلامان صغيران ، بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ »{[7877]} هذا الظاهر ، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما ، واختلف الناس في «الكنز » : فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً ، وقال ابن عباس كان علماً في مصحف مدفونة ، وقال عمر مولى غفرة{[7878]} كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجباً للموقن بالموت كيف يفرح ، وروي نحو هذا مما هو في معناه ، قوله { وكان أبوهما صالحاً } ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة{[7879]} ، وقيل هو الأب السابع ، وقيل العاشر ، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته »{[7880]} ، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] وفي الثانية { فأردنا أن يبدلهما } وفي الثالثة { فأراد ربك أن يبلغا } وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله { وإذا مرضت فهو يشفيني }{[7881]} [ الشعراء : 80 ] ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله }{[7882]} [ الصف : 5 ] ، وتقديم فعل الله تعالى في قوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[7883]} [ التوبة : 118 ] ، وإنما قال الخضر في الثانية { فأردنا } لأنه أمل قد كان رواه{[7884]} هو وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى البديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى . لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده ، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر ، والله أعلم ، و «الأشد » كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن ، فقيل خمس وثلاثون ، وقيل ست وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل غير هذا مما فيه ضعف ، وقول الخضر { وما فعلته عن أمري } يقتضي أن الخضر نبي ، وقد اختلف الناس فيه : فقيل هو نبي ، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي ، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم ، وتقول فرقة إنه حي ، لأنه شرب من عين الحياة ، وهو باق في الأرض ، وأنه يحج البيت ، وغير هذا ، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، كلها لا يقوم على ساق ، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[7885]} ، وقوله ذلك تأويل أي مآل ، وقرأت فرقة «تستطع » ، وقرأ الجمهور «تسطع » قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع » المصحف ، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى : { وربك الغفور ذو الرحمة لو يأخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [ الكهف : 58 ] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه ؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها ، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم ، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله .


[7877]:أخرجه أبو داود، عن علي رضي الله عنه، عن علي رضي الله عنه، ولفظه كما ذكره الإمام السيوطي في الجامع الصغير: (لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل)، وقد رمز له السيوطي بأنه حديث حسن.
[7878]:هو عمر بن عبد الله المدني، مولى غفرة بضم الغين وسكون الفاء، قال عنه صاحب تقريب التهذيب: "ضعيف، وكان كثير الإرسال، من الخامسة، مات سنة خمس أو ست وأربعين".
[7879]:دنية: الأب الأقرب والأدنى.
[7880]:أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده، ويحفظه في ذريته والدريرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية". وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم)، وأخرجه ابن المبارك، وابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر موقوفا. (الدر المنثور).
[7881]:الآية (80) من سورة (الشعراء).
[7882]:من الآية (5) من سورة (الصف).
[7883]:من الآية (118) من سورة (التوبة).
[7884]:من قولهمم روُّى فلان في الأمر بمعنى: نظر فيه وتفكر.
[7885]:هذا الحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم ليتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)، فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، ـ وهل: غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب ـ، وإنما عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه مسلم أيضا من حديث جابر بن عبد الله، قال القرطبي: وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة . وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .

وقوله : { رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري } تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .

ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال { وما فعلته عن أمري } علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى . وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .

وانتصب { رحْمَةً } على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ، و ( أردنَا ) ، و ( أراد ربّك ) .

وجملة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله { أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين } ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .

و { تَسْطِعْ } مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) . حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفةُ بينه وبين قوله { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه . وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر { تَسْتَطِع } يحصل من تكريره ثقل .

وأكد الموصول الأول الواقع في قوله { سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً } تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .

واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .

فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .

وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة . v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم . وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .

والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ، لقوله { وما فعلته عن أمري } ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .

فكونوا على حذر ممن يقول : أخبرني الخَضر .