171- يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا الحق مغالين في دينكم ، ولا تفتروا على الله الكذب ، فتنكروا رسالة عيسى ، أو تجعلوه إلهاً مع الله ، فإنما المسيح رسول كسائر الرسل ، خلقه الله بقدرته وكلمته التي بُشَّر بها ، ونفخ روحه جبريل في مريم ، فهو سِرٌّ من أسرار قدرته ، فآمنوا بالله ورسله جميعاً إيماناً صحيحاً ولا تدَّعوا أن الآلهة ثلاثة ، انصرفوا عن هذا الباطل يكن خيراً لكم ، فإنما الله واحد لا شريك له ، وهو منزه عن أن يكون له ولد ، وكل ما في السماوات والأرض ملك له ، وكفى به - وحده - مدبِّراً لملكه .
ثم وجهت السورة الكريمة بعد ذلك نداء إلى أهل الكتاب حذرتهم فيه من المغالاة فى شأن عيسى - عليه السلام - وبينت لهم وللناس أن عيسى إنما هو عبد الله ورسوله ، وبشرت المؤمنين بالأجر الجزيل ، وأنذرت المستكبرين بالعذاب الأليم استمع إلى القرآن الكريم وهو يرشد إلى كل ذلك فيقول : { ياأهل . . . . صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( 171 ) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ( 172 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( 173 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ( 174 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 175 )
وقوله : { لاَ تَغْلُواْ } أى : لا تتجاوزوا الحد المشروع . مأخوذ من الغلو ، وهو - كما يقول القرطبى - التجاوز فى الحد ومنه : غلا السعر يغلو غلاء . وغلا الرجل فى الأمر غلوا . وغلا الجارية لحمها وعظمها ، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها - أى : أترابها - .
وقد تجاوز أهل الكتاب الحد وغالوا فى شأن عيسى . أما اليهود فقد أنكروا رسولته واتهموا أمه مريم بما هى منه بريئة .
وأما النصارى فقد رفعوا عيسى - عليه السلام - إلى مرتبة فوق مرتبة البشرية ، واعتبروا بعضهم إلها ، واعتبره بعض آخر منهم ابنا لله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
والمعنى : يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا الحد المشروع والمعقول فى شأن دينكم ، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق الذى شعره الله - تعالى - ، وارتضته العقول السليمة .
وقد ناداهم - سبحانه - بعنوان أهل الكتاب . للتعريض بهم ، حيث إنهم خالفوا كتبهم التى بين أيديهم .
والخطاب هنا وإن كان يشمل أهل الكتاب جميعا من يهود ونصارى ، إلا أن النصارى هم المقصودون هنا قصدا أوليا ، بدليل سياق الآية الكريمة ، فقد ذكرت حججا تبطل ما زعمه النصارى فى شأن عيسى ، ولذا قال ابن كثير ما ملخصه : قوله - تعالى - { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ } : ينهى - سبحانه - أهل الكتاب عن الغلو والإِطراء . وهذا كثير فى النصارى ، فإنهم تجاوزا الحد فى عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التى أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه . بل قد غلوا فى أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم فى كل ما قالوه سواء أكان حقا أم باطلا ، أم ضلالا أم رشادا ، ولهذا قال - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } وفى الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولا : عبد الله ورسوله " .
وقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام بالنهى عن الافتراء الشنيع الذى افتروه على الله .
أى : لا تصفوه - سبحانه - بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد ، ولا تقولوا عليه - سبحانه - إلا القول الحق الثابت القائم على الدليل المقنع ، والبرهان الواضح .
وعدى - سبحانه - قولهم بحرف على ، لتضمنه معنى الافتراء والكذب ، فقد قالوا قولا وزعموا أنه من دينهم ، مع أن الأديان السماوية بريئة مما زعموه وافتروه .
ثم بين - سبحانه - القول الفصل فى شأن عيسى فقال : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } .
أى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله . أرسله - سبحانه - لهداية الناس إلى الحق ، { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } أى : أن عيسى مكون ومخلوق بكلمة من الله وكلمة ( كن ) من غير واسطة أب ولا نطفة . وهذه الكلمة ألقاها - سبحانه - إلى مريم ، أى : أوصلها إليها بنفخ جبريل فيها فكان عيسى بإذن الله بشراً سويا .
وقوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى : ونفخة منه ، لأن عيسى حدث بسبب نفخة جبريل فى درع مريم فكان عيسى بإذن الله . فنسب إلى أنه روح من الله ، لأنه بأمره كان . وسمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح . قال - تعالى - : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقيل المراد بقوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى : وذو روح من أمر الله ، لأنه - سبحانه - خلقه كما يخلق سائر الأرواح .
وقيل : الروح هنا بمعنى الرحمة . كما فى قوله - تعالى - { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أى : برحمة منه . وصدر - سبحانه الجملة الكريمة بأداة القصر ( إنما ) للتنبيه على أن عيسى - عليه السلام - ليس إلا رسولا أرسله الله لهداية الناس إلى الحق .
وذكره - سبحانه بلقبه وباسمه وببنوته لمريم ، للاشارة إلى أنه إنسان كسائر الناس ، وبشر كسائر البشر ، فهو مولود خرج من رحم انثى كما يخرج الأولاد من أمهاتهم . وإذا كان لم يخرج من صلب أب ، فيكفى أنه قد خرج من رحم أم ، وكفى بذلك دليلا على بشريته .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } أى : خلقه بكلمة منه وهى ( كن ) كما خلق آدم . وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها ، فقد خلق من غير بذر ببذر فى رحم أمه ، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد ، وللأسباب التى تجرى بين الناس ، بل كان السبب هو إرادة الله وحده وكلمته ( كن ) وبذلك سمى كلمة الله .
وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته - تعلق باطل - فما كانت الكلمة من الله إلها يعبد . وإنما سمى بذلك ، لأنه نشأ بكلمة لا بمنى من الرجل يمنى . .
وقوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى أنه - سبحانه - أنشأه بروح مرسل منه وهو جبريل الأمين . وقد يقال : إنه نشأ بروح منه - سبحانه - أنه أفاض بروحه فى جسمه كما أفاض بها على كل إنسان كما قال - تعالى - : { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } والرأى الأول أولى . وعلى ذلك يكون معنى قوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى : أنه نشأ بنفخ الله الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية ، ونطفة تتكشل إنسانا ، وذلك بالملك الذى أرسله وهو جبريل .
وسمى الله - تعالى - عيسى روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة ، ولأنه غلبت عليه الروحانية . .
وبهذا يزول الوهم الذى سيطر على عقول من غالوا فى شأن عيسى فنحلوه ما ليس له ، وما ليس من شأنه ، إذ جعلوه إلها ، أو ابن إله . . .
وقوله { المسيح } مبتدأ ، و { عِيسَى } عطف بيان أو بدل منه . وقوله { ابن مَرْيَمَ } صفة له وقوله { رَسُولُ الله } خبر للمبتدأ . . وقوله { وَكَلِمَتُهُ } معطوف على ما قبله وهو رسول الله . أو قوله { أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } جملة حالية من الضمير المجرور فى { كَلِمَتُهُ } بتقدير قد ، والعامل فيها معنى الإِضافة . والتقدير . وكلمته ملقيا إياها إلى مريم .
وقوله { وَرُوحٌ مِّنْهُ } معطوف على { كَلِمَتُهُ } والجار والمجرور متعلق بمحذف صفة لروح . ومن لابتدائه الغاية مجازا وليست بتبعيضية ، أى أن الروح كائن من عند الله - تعالى - ونافخ بإذنه .
وبعد أن بين - سبحانه - القول الحق فى شأن عيسى ، دعا أهل الكتاب إلى الإِيمان به وبجميع رسله . ونهاهم عن التمسك بالضلال والوهم فقال - تعالى - { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } .
والفاء فى قوله : { فَآمِنُواْ } للافصاح عن جواب شرط مقدر .
أى : إذا كان ذلك هو الحق فى شأن عيسى ، فآمنوا بالله إيمانا حقا بأن تفردوه بالألوهية والعبادة ، وآمنوا برسله جميعا بدون تفريق بينهم ، ولا تغالوا فى أحدهم منهم بأن تخرجوه عن طبيعته وعن وظيفته . .
وقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } نهى لهم عن النطق بالكلام بالباطل .
أى : ولا تقولوا الآلهة ثلاثة ، أو المعبودات ثلاثة . فثلاثة خبر لمبتدأ محذوف وغبر - سبحانه - بقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } بدل قوله - مثلا - : ولا تؤمنن بثلاثة ؛ لأن أمر الثلاثة قول يقولونه ، فإن سألتهم عن معناه قالوا تارة معناه : الآب والإِبن والروح والقدس ، أى أنهم ثلاثة متفرقون . وتارة يقولون معناه : أن القانيم ثلاثة والذات واحدة . . إلى غير ذلك من الأقوال التى ما أنزل الله بها من سلطان .
قال صاحب الكشاف : والذى يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة . وأن المسيح ولد الله من مريم . ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } { وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون : فى المسيح لاهوتيه وناسوتيه من جهة الأب والأم . .
هذا ، وقد أفاض بعض العلماء فى الرد على مزاعم أهل الكتاب فى عقائدهم . .
وقوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } أمر لهم بسلوك الطريق الحق ، والإِقلاع عن الضلالات والأوهام .
أى : انتهوا عما أنتم فيه من ضلال يا معشر أهل الكتاب ، واتركوا القول بالتثليث ، يكن انتهاؤكم خيرا لكم ، بعبادتكم لله وحده تكونون قد خرجتم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية .
وقوله : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } إثبات لوحدانية الله - تعالى - بأقوى طريق . أى : إن المعبود بحق ليس إلا واحد ، وهو الله - تعالى - ذو الجلال والإِكرام ، الخالق لهذا الكون ، والمدبر لأمره .
وقوله : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تنزيه له - جل وعلا - عن صفات المخلوقين ، وتوبيخ لمن وصفه بصفات لا تليق به .
وسبحان منصوب بفعل مقدر من لظفه : أى : أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها عن أن يكون له ولد ، لأن الأبوة والبنوة من صفات المخلوقين ، وهو - سبحانه - منزله عن صفات المخلوقين ، قال - تعالى - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وقوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } جملة مستأنفة مسبوقة لتعليل التنزيه أى أنه - سبحانه - مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها ، ولا يخرج من ملكه منها شئ .
قال - تعالى - { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } ومن كان شأنه كذلك تنزه عن أن يلد أو يولد أو يكون له شريك فى ملكه .
وقوله : { وكفى بالله وَكِيلاً } تذييل قصد به بيان سعة قدرته - سبحانه وهيمنته على هذا الكون . والوكيل : هو الحافظ والمدبر لأم غيره .
أى : وكفى بالله وكيى يكل إليه الخلق كلهم أمورهم ، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه .
ومفعول كفى محذوف للعموم . أى : كفى كل أحد وكالة الله وحفظه وتدبيره ، فتوكلوا عليه وحده ، ولا تتوكلوا على من تزعمونه ابنا له .
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى ، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ، ممن زعم أنه على دينه ، فادَّعوْا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقًا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا ، أو صحيحًا أو كذبًا ؛ ولهذا قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم قال : زعم الزُّهْرِي ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله ورسوله " .
ثم رواه هو وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عُيَيْنة ، عن الزُّهري كذلك . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح سنده{[8761]} وهكذا رواه البخاري ، عن الحُميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به . ولفظه : " فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " {[8762]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حمَّاد بن سَلَمَة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك : أن رجلا قال : محمد يا سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، عليكم بقولكم ، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ ، أنا محمدُ بنُ عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ عز وجل " . تفرد به من هذا الوجه{[8763]} .
وقوله : { وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } أي : لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : إنما هو عبد من عباد الله وخَلق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، أي : خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ، عليه السلام ، إلى مريم ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ، عز وجل ، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جَيْب درعها ، فنزلت حتى وَلَجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم{[8764]} والجميع مخلوق لله ، عز وجل ؛ ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ؛ لأنه لم يكن له أب تولد{[8765]} منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها : كن ، فكان . والروح التي أرسل بها جبريل ، قال الله تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] . وقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] . وقال تعالى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا{[8766]} مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ]{[8767]} } [ التحريم : 12 ] . وقال تعالى إخبارا عن المسيح : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ]{[8768]} } [ الزخرف : 59 ] .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } هو كقوله : { كُنْ } [ آل عمران : 59 ] فكان وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شَاذَّ بن يحيى يقول : في قول الله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } قال : ليس الكلمةُ صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى .
وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير{[8769]} في قوله : { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أعلمها بها ، كما زعمه في قوله : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } [ آل عمران : 45 ] أي : يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [ القصص : 86 ] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله ، فكان عيسى ، عليه السلام .
وقال البخاري : حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل ، حدثنا{[8770]} الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عُمَيْر بن هانئ ، حدثني جُنَادةُ بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، والجنةَ حق ، والنارَ حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عُمير بن هانئ ، عن جُنَادة زاد : " من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء " .
وكذا رواه مسلم ، عن داود بن رُشَيد ، عن الوليد ، عن ابن جابر ، به{[8771]} ومن وجه آخر ، عن الأوزاعي ، به{[8772]} .
فقوله في الآية والحديث : { وَرُوحٌ مِنْهُ } كقوله { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } الجاثية : 13 ] ي : مِنْ خَلْقه ومن عنده ، وليست " مِنْ " للتبعيض ، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية ، كما في الآية الأخرى .
وقد قال مجاهد في قوله : { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : ورسول منه . وقال غيره . ومحبة منه . والأظهر الأول أنَّه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله ، في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [ هود : 64 ] . وفي قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وكما ورد في الحديث الصحيح : " فأدخل على رَبِّي في داره " أضافها إليه إضافة تشريف لها ، وهذا كله من قبيل واحد ونمَط واحد .
وقوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : فصدقوا بأن الله واحد أحد ، لا صاحبة له ولا ولد ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ؛ ولهذا قال : { وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ } أي : لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ المائدة : 73 ] . وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [ وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ]{[8773]} } الآية [ المائدة : 116 ] ، وقال في أولها : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } الآية [ المائدة : 72 ] ، فالنصارى - عليهم لعنة الله - من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلهًا ، ومنهم من يعتقده شريكا ، ومنهم من يعتقده ولدًا . وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا . ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير ، وهو سعيد بن بَطْرِيق - بتْرَكُ الإسكندرية - في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم ، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة ، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا ، فكانوا أحزابًا كثيرة ، كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة ، وسبعون على مقالة ، وأزيد من ذلك وأنقص . فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا ، وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها - وكان فيلسوفًا ذا هيئة{[8774]} - ومَحَقَ ما عداها من الأقوال ، وانتظم دَسْتُ{[8775]} أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر ، وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين ، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار{[8776]} - ليعتقدوها - ويُعَمّدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم الملكية . ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية . وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم ! هل اتحدا ، أو ما اتحدا ، بل امتزجا أو حل فيه ؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ؛ ولهذا قال تعالى : { انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ } أي : يكن خيرا لكم { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } ي : الجميع ملكه وخلقه ، وجميع ما فيها عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد ؟ كما قال في الآية الأخرى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 101 ] ، {[8777]} وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . [ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ]{[8778]} } [ مريم : 88 : 95 ] .
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إل مريم وروح منه } .
استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة . وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضاً بأنَّهم خالفوا كتابهم . وقرينةُ أنَّهم المراد هي قوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } إلى قوله : { أن يكون عبداً لله } [ النساء : 172 ] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله : { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلَوا في تعظيم عيسى فادّعوا له بنوّة الله ، وجعلوه ثالث الآلهة .
والغلوّ : تجاوز الحدّ المألوف ، مشتقّ من غَلْوَة السهم ، وهي منتهى اندفاعه ، واستُعير للزيادة على المطلوب من المعقول ، أو المشْرُوع في المعتقدات ، والإدراكات ، والأفعال . والغلوّ في الدّين أن يُظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدينُ . ونهاهم عن الغلوّ لأنَّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين . وغلّو أهل الكتاب تجاوزُهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم : فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم ، فتجاوزوه إلى بِغضة الرسل كعيسى ومحمدّ عليهما السّلام ، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابنَ الله ، مع الكفر بمحمدّ صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع . وفعل القول إذا عدّي بحرف ( على ) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور ب ( على ) نسبة كاذبة ، قال تعالى : { ويقولون على الله الكذب } [ آل عمران : 78 ] . ومعنى القول على الله هنا : أن يقولوا شيئاً يزعمون أنَّه من دينهم ، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله .
وقوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم } جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده ، فإنَّه مجمل ؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ .
ولكونها تتنزّل من الَّتي قبلها منزلة البيان فُصلت عنها . وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث : صفة الرسالة ، وصفةِ كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم ، وصفة كونه روحاً من عند الله . فالقصر قصر موصوف على صفة . والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوّاً أخرجها عن كنهها ؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة لعيسى ، وهم مثبتون لها فلا يُنكر عليهم وصفُ عيسى بها ، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة البُنوّة ، وجعلوا الكلمة اتِّحادَ حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله سبحانه ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفْس الإلَهية .
والقصر إضافي ، وهو قصر إفرادٍ ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح ، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابناً لله واتِّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة .
ووصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل ؛ ففي صدر إنجيل يوحنا « في البدء كان الكلمةُ ، والكلامة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ثم قال والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا » . وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية ، فمعنى ذلك أنّه أثَر كلمة الله . والكلمةُ هي التكوين ، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح ب ( كُن ) . فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز ، وليس هو بكلمة ، ولكنّه تعلّقُ القدرة . ووصف عيسى بذلك لأنَّه لم يكن لتكوينه التّأثيرُ الظاهرُ المعروف في تكوين الأجنّة ، فكان حدوثه بتعلّق القدرة ، فيكون في { كلمته } في الآية مجازان : مجاز حذف ، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة .
ومعنى { ألقاها إلى مريم } أوصلها إلى مريم ، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة ، وإلاّ فإنّ المراد منها عيسى ، أو أراد كلمة أمر التكوين . ووصف عيسى بأنّه روح الله وصفٌ وقع في الأناجيل . وقد أقرّه الله هنا ، فهو ممّا نزل حقّاً .
ومعنى كون عيسى روحاً من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة ، لكنّها نسبت إلى الله لأنَّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفةٍ فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح . ووُصف بأنّه مبتدأ من جانب الله ، وقيل : لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح ، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه . وقيل : الروح النفخة . والعرب تسمّى النفس روحاً والنفخ روحاً . قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد ناراً بحطب :
فقلت له ارفعها إليك فأَحيها *** برُوحك واقتُتْه لها قِيتة قَدْرا
وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل . و ( مِن ) ابتدائية على التقادير .
فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى ، وهلاّ وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] فكان أصرح في بيان العبوديّة ، وأنفى للضلال .
قلت : الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريّين وصفاً لعيسى عليه السّلام ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذٍ ، فلمَّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنَّه ابن الله وأنَّه إله .
وتصدير جملة القصر بأنّه { رسول الله } ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يُرسل الإله إلهاً مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح .
{ فآمنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله واحد سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ ما فِى السماوات وَمَا فِى الارض وكفى بالله وَكِيلاً } .
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه . أي إذا وضح كلّ ما بيَّنه الله من وحدانيَّته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرّع أن آمُركم بالإيمان بالله ورسله . وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيداً للأمر بالإيمان برُسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي . وأريدَ بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله . وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه .
وقوله : { ولا تقولوا ثلاثة } أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلّها كانت شعاراً للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر . والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد . لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلاّ عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادةِ المعنى ولازمه . والمخاطب بقوله : { ولا تقولوا } خصوص النّصارى .
و { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف كانَ حذفه ليصلحَ لكلّ ما يصلحُ تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ { ثلاثة } من الأسماء الدّالة على الإله ، وهي عدّة أسماء . ففي الآية الأخرى { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] . وفي آية آخر هذه السورة { أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] ، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كلّ واحد منهم إله ؛ ولكنّهم يقولون : أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد . قال في « الكشّاف » : ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنَّهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلاّ فتقديره الآلهة ثلاثة اهـ .
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم ، ولكنّهم مختلفون في كيفيته . . ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى ( ثَالُوث ) ، أي أنَّه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقْنُوم بضم الهمزة وسكون القاف . قال في « القاموس » : هو كلمة رومية ، وفسّره القاموس بالأصل ، وفسّره التفتزاني في كتاب « المقاصد » بالصفة . ويظهر أنَّه معرّب كلمة ( قنوم بقاف معقد عجمي ) وهو الاسم ، أي ( الكلمة ) . وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة ( آبَا ابنَا رُوحا قُدُسا ) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات .
والأقنوم الثاني أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دونَ الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية .
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القُدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات .
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القِدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كُوّن المسيح في بطن مريم ، على أنَّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن ، ( كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد ) . وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله ، أي أنَّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلَّلاً بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة ، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة ، وقاربوا عقيدة الشرك .
ثمّ جَرّهم الغُلوّ في تقديس المسيح فتوهَّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح ، فقالوا : إنّ المسيح صار ناسوتُه لاَهُوتاً ، باتّحاد أقنُوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة ، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح . هذا أصل التثليث عند النّصارى ، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } وقولُه { لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 72 ] وقولُه : { أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتيةٌ من جهة الأب ونَاسوتيَّةٌ أي إنسانية من جهة الأمّ .
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه ( آريوس ) قالو بالتوحيد وأنّ عيسى عبدُ الله مخلوق ، وكان في زمن ( قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية ) . فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة327 تبع مقالة ( آريوس ) ، ثمّ رأى مخالفةَ معظممِ الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم ، فجمع مجمعاً من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافاً كثيراً ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحدٍ ثلاثَمائة وبضعةَ عشر عالماً فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصَره ، وهذه الطائفة تلقّب ( المَلْكَانِيَّة ) نسبة للمَلِك .
واتَّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتَّحدت بجسد عيسى ، وتقمَّصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمةُ ذاتاً في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابناً لله تعالى ، فالإلهُ مجموع ثلاثة أشياء :
الأوّل الأب ذُو الوجود ، والثاني الابن ذُو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس .
ثمّ حدثت فيهم فرقة اليَعْقوبية وفرقة النَّسْطُورِيَّة{[219]} في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان . فاليعقوبيّة ، ويسمّون الآن ( أرْثُودُكْسْ ) ، ظَهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية ؛ قالوا : انقلبت الإلهية لَحْماً ودَماً ؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صُنْعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى . وكان نصارى الحبشة يعاقبه ، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى : { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } في سورة المائدة ( 72 ) ، وعند قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب من بينهم } [ مريم : 37 ] .
والنَّسطوريّة قالت : اتَّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة مِن بلّور ، فالمسح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب ( جَاثِليق ) . وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب . وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريقٍ نحلتَه بين قبائل العرب . وكان الأكاسرة حُماة للنسطورية . وقياصرةُ الرّوم حُمَاة لليعقوبية . وقد شاعت النّصرانيّة بنحْلتيْها في بَكْر ، وتَغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجُذام ، وتَنُوخ ، وكَلْب ، ونَجْران ، واليَمَن ، والبحرين . وقد بَسَطْتُ هذا ليعلم حُسن الإيجاز في قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } وإتيانه على هذه المذاهب كلّها . فللّه هذا الإعجاز العلمي .
والقول في نَصب ( خيراً ) من قوله : { انتهوا خيراً لكم } كالقول في قوله تعالى : { فآمنوا خيراً لكم } [ النساء : 170 ] . والقصر في قوله : { إنَّما الله إله واحد } قصر موصوف على صفة ، لأنّ ( إنّما ) يليها المقصور ، وهو هنا قصر إضافي ، أي ليس الله بثلاثة .
وقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } إظهار لغلطهم في أفهامهم ، وفي إطلاقاتهم لفظَ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنَّهما إمّا ضلالة وإمّا إيهامُها ، فكلمة ( سبحانه ) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد ، والدلالةَ على غلط مثبتيهِ ، فإنّ الإلهية تنافي الكون أبا واتّخاذَ ابن ، لاستحالة الفناء ، والاحتياج ، والانفصال ، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى . والبنوّة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع ، والناس يتطلّبونها لذلك ، وللإعانةِ على لوازم الحياة ، وفيها انفصال المولود عن أبيه ، وفيها أنّ الابن مماثلة لأبيه فأبُوه مماثل له لا محالة .
و ( سبحان ) اسم مصدر سَبَّح ، وليس مصدراً ، لأنَّه لم يسمع له فعل سالم . وجزم ابن جني بأنّه علَم على التسبيح ، فهو من أعلام الأجناس ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة . وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا } في سورة البقرة ( 32 ) .
وقوله : { أنْ يكونَ له وَلَدَ } متعلّق ب ( سبحان ) حرف الجرّ ، وهو حرف ( عَن ) محذوفاً .
وجملة { له ما في السموات وما في الأرض } تعليل لقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } لأنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد ، ولأنّ من يُزْعَم أنَّه ولدٌ له هو ممّا في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح ، فالكلّ عبيده وليس الابن بعبد .
وقوله : { وكفى بالله وكيلا } تذييل ، والوكيل الحافظ ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض ، أي الموجودات كُلّها . وحُذف مفعول ( كفى ) للعموم ، أي كفى كلّ أحد ، أي فتوكّلوا عليه ، ولا تتوكّلوا على من تزعمونه ابناً له . وتقدّم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى : { وكفى بالله وكيلاً } في هذه السورة .