وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } معطوف على قوله { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ . . . إلخ } أي : بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم ، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فهذه تكرمه أكره الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإِجلال من تلقاء الملائكة .
وقوله : { اسكن } أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار .
والزوج : يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ، ولا تكاد تقول زوجة .
والجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره ، من الجن ، وهو ستر الشيء عن الحاسة .
وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب . التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإِطلاق .
ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإِسكان آدم وزوجه ، واختلفوا في مكانه ، فقيل بفلسطين . وقيل بغيرها .
وقد ساق الإِمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئاً منها .
والأحوط والأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة .
والمخاطب بالأمر ، بسكنى الجنة آدم وحواء ، ولكن الأسلوب جاء في صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه ، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له .
ثم بين - سبحانه - أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } أي كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئاً أو واسعاً في أي مكان من الجنة أردتم .
يقال : رغد عيش القوم أي : اتسع وطاب ، وأرغد القوم ، أي : اخصبوا وصاروا في رزق واسع .
والضمير في قوله { مِنْهَا } يعود إلى الجنة ، والمراد بالأكل منها : الأكل من مطاعمها وثمارها ، لأن الجنة تستلزم ثماراً هي المقصودة بالأكل .
ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } .
القرب : الدنو ، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة ، وتعليق النهي بالقرب منها إذ قال { وَلاَ تَقْرَبَا } القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ، إذ في النهي عن القرب من الشيء قطع لوسيلة التلبس سبه ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهي القرب منه . وأكد النبي بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلماً فقال : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية .
وقد تكلم العلماء كثيراً عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل : هي السنبلة ، وقيل هي الكرم . . الخ . إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه .
وقد أحسن الإِمام ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : " والصواب في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل كانت شجرة العنب . وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به .
يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم : بعد أن أمر الملائكة{[1574]} بالسجود له ، فسجدوا إلا إبليس : إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ، ويأكل منها ما شاء{[1575]} رَغَدًا ، أي : هنيئًا واسعًا طيبًا .
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث محمد بن عيسى الدامغاني ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ميكائيل ، عن ليث ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر : قال : قلت : يا رسول الله ؛ أريت آدم ، أنبيًّا كان ؟ قال : " نعم ، نبيا رسولا كلمه الله قِبَلا فقال : { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } " {[1576]} .
وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم ، أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على الأول [ وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض ]{[1577]} ، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف ، إن شاء الله تعالى ، وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم{[1578]} الجنة ، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق ، حيث قال : لما فرغ الله من معاتبة إبليس ، أقبل على آدم وقد عَلَّمه الأسماء كلها ، فقال : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } إلى قوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }{[1579]} قال : ثم ألقيت السِّنَةُ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن ابن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلعًا من أضلاعه من شِقه الأيسر ، ولأم مكانه لحما ، وآدم نائم لم يهب من نومه ، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء ، فسواها امرأة ليسكن إليها . فلما كُشِفَ عنه السِّنَة وهبَّ من نومه ، رآها إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون والله أعلم - : لحمي ودمي وروحي{[1580]} . فسكن إليها . فلما زوَّجَه الله ، وجعل له سكنا من نفسه ، قال له قِبَلا { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }
ويقال : إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة ، كما قال السدي في تفسيره{[1581]} ، ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : أخرج إبليس من الجنة ، وأسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليه ، فنام نومة فاستيقظ ، وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها : ما أنت ؟ قالت : امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إلي . قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ من علمه - : ما اسمها يا آدم ؟ قال : حواء . قالوا : ولم سميت حواء ؟ قال : إنها خلقت من شيء حي . قال الله : { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا }
وأما قوله : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم . وقد اختلف في هذه الشجرة : ما هي ؟ فقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم ، عليه السلام ، هي الكَرْم . وكذا قال سعيد بن جبير ، والسدي ، والشعبي ، وجَعْدة بن هُبَيرة ، ومحمد بن قيس .
وقال السدي - أيضا - في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } هي الكرم . وتزعم يهود أنها الحنطة .
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي ، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني ، حدثنا النضر أبو عمر الخراز ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، قال : الشجرة التي نُهِي عنها آدم ، عليه السلام ، هي السنبلة .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي السنبلة .
وقال محمد بن إسحاق ، عن رجل من أهل العلم ، عن حجاج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : هي البر .
وقال ابن جرير : وحدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا القاسم ، حدثني رجل من بني تميم ، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ، والشجرة التي تاب عندها آدم . فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نُهِي عنها آدم ، عليه السلام ، وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة{[1582]} .
وكذلك فسره الحسن البصري ، ووهب بن مُنَبَّه ، وعطية العَوفي ، وأبو مالك ، ومحارب{[1583]} بن دِثَار ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل اليمن ، عن وهب بن منبه : أنه كان يقول : هي البُر ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر ، ألين من الزبد وأحلى من العسل .
وقال سفيان الثوري ، عن حصين ، عن أبي مالك : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } قال : النخلة .
وقال ابن جرير ، عن مجاهد : { وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } قال : تينة . وبه قال قتادة وابن جريج .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : كانت الشجرة من أكل منها أحدث ، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَثٌ ، وقال عبد الرزاق : حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهْرِب{[1584]} قال : سمعت وهب بن منبه يقول : لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ، ونهاه عن أكل الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من{[1585]} بعض ، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم ، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته .
فهذه أقوال ستة في تفسير{[1586]} هذه الشجرة .
قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله{[1587]} : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة ، دون سائر أشجارها{[1588]} ، فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ؟ لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة . وقد قيل : كانت شجرة البر . وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين . وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك عِلْمٌ ، إذا علم ينفع العالمَ به علمُه ، وإن جهله جاهلٌ لم يضرَّه جهله به ، والله أعلم . [ وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، وهو الصواب ]{[1589]} .
{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } السكنى من السكون لأنها استقرار ولبث ، و{ أنت } تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه ، وإنما لم يخاطبهما أولا تنبيها على أنه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له . والجنة دار الثواب ، لأن اللام للعهد ولا معهود غيرها . ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال إنه بستان كان بأرض فلسطين ، أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحانا لآدم ، وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى : { اهبطوا مصرا } { وكلا منها رغدا } واسعا رافها ، صفة مصدر محذوف .
{ حيث شئتما } أي مكان من الجنة شئتما ، وسع الأمر عليهما إزاحة للعملة ، والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر .
{ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } فيه مبالغات ، تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ، ووجوب الاجتناب عنه ، وتنبيها على أن القرب من الشيء يورث داعية ، وميلا يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع ، كما روي " حبك الشيء يعمي ويصم " فينبغي أن لا يحوما حول ما حرم الله عليهما مخافة أن يقعا فيه ، وجعله سببا لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ، أو بنقص حظهما بالإتيان بما يخل بالكرامة والنعيم ، فإن الفاء تفيد السببية سواء جعلت للعطف على النهي أو الجواب له . والشجرة هي الحنطة ، أو الكرمة ، أو التينة ، أو شجرة من أكل منها أحدث ، والأولى أن لا تعين من غير قاطع كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود عليه . وقرئ بكسر الشين ، وتقربا بكسر التاء وهذي بالياء .
عطف على { قلنا للملائكة اسجدوا } [ البقرة : 34 ] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاءِ الملائكة .
ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم .
والأمر بقوله : { اسكن } مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمراً له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به .
وضمير { أنت } واقع لأجل عطف { وزوجك } على الضمير المستتر في { اسكن } وهواستعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام ، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيداً تأكيداً للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيداً ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في « الكشاف » بمجموع قوله : وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه .
والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارُن ، في حال ما . ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره ، فكل واحد من اثنين مقترنين في حالٍ ما يسمى زوجاً للآخر قال تعالى : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } [ الشورى : 50 ] أي يجعل لأحد الطفلين زوجاً له أي سواه من غير صنفه ، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع .
وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجاً لأنها اقترنت به وصيرته ثانياً ، ويسمى الرجل زوجاً لها لذلك بلا فرق ، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصف . وقد لحنوا الفرزدق في قوله :
وإن الذي يَسعى ليُفسِد زوجتي *** كساعٍ إلى أُسْد الثرى يستبيلُها
وتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم : القول قول الزوج ، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن .
وفي « صحيح مسلم » عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له : هذه زوجتي فلانة " الحديث ، فقوله : زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبيء صلى الله عليه وسلم .
وطوى في هذه الآية خلق زوج آدم ، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى : { الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف ( 189 ) .
ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في « طبقاته » عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملأوه " الحديث ( طف المكيال بفتح الطاء وكسرها ما قرب من ملئه ) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة . وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني . فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه ، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال : لأنها من امرىء أخذت . وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي . وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال : أثا أي امرأة بالنبطية ، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] أن آدم دعا نفسه ، إيش ، فلعل أثا محرفة عن إشّا . واسمها بالعبرية ( خمواه ) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضاً حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيا وفي الفرنسية أي . وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى : { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] أي يأنس .
والأمر في { اسكن } أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة . والكنى اتخاذ المكان مقراً لغالب أحوال الإنسان .
والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله ، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات .
وتعريف ( الجنة ) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في ( الجنة ) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم ، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول .
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي ، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم ولا تَعْدُو أنها ظواهرُ كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة .
وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بَحْر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه ، ونقل البيضاوي عنهم أنها بستان في فِلسطين أو هو بين فَارس وكِرْمان ، وأحسب أن هذا ناشىء عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عَدْن .
ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين « وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عَدْن ليعملها ويحفظها ثم قالت فأخرجه الرب الإله من جنة عدْن ليعمل الأرض التي أخذ منها » وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عَدْن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عَدْن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤُوس اسم الواحد ( قيشون ) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني ( جَيحون ) وهو المحيط بجميع أرض كوش ، واسم النهر الثالث ( حِدّا قِلْ ) وهو الجاري شرق أشَور ( دجلة ) . والنهر الرابع الفُرات .
ولم أقف على ضبط عَدْن هذه . ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً وأسلم وألف كتاباً في الرد على اليهود سماه « الحُسام المحدود في الرد على اليهود » كتَبه بغِيدِن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بِعَدْن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان ، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خُلد لا يخرج ساكنها ، وهو التجاء بلا ملجىء لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلُّه جعل الله تعالى عندما أراده .
واحتج أهل السنة بأن أل في { الجنة } للعهد الخارجي ولا معهود غيرها ، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمْل على الجنس بأنواعه الثلاثة ، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجلُ خير من المرأة ، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقاً بجنة معروفة ، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك . ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقاً بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع .
وقد يقال يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى : { اسكُن أنت وزوجك الجنة } لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف { الجنة } منظوراً فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حُكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عَرَف به آدم مراد الله تعالى ، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليومَ بالجنة ، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أُسكنها آدم هي الجنة المعدودة داراً لجزاء المحسنين .
ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثماراً وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل { من } تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان . ويجوز أن تكون { من } ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثَّمر من خيبر .
والرغَد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أَكلاً رغَداً ، والرغَد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير .
وقوله : { حيث شئتما } ظرفُ مكان أي من أي مواضع أرَدْتُما الأكل منها ، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم ، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به .
وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشىءُ داعية وميلاً إليه ففيه الحديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " وقال ابن العربي سمعتُ الشاشي في مجلس النظر يقول : > اهـ . وهو غريب فإن قَرُب وقَرِب نحو كرم وسمع بمعنى دنا ، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز ، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حَسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بَعِدَ مكسور العين بالانقطاع التام وبعُد مضموم العين بالتنحّي عن المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعَد ، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية :
إخْوَتِي لا تَبْعَدوا أبدا *** وَبَلى واللَّه قَد بعِدوا
وفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أُصول مذهب مالك رحمه الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه .
والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرةً وحيدة في الجنة .
وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة ، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين . ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر .
وقوله : { فتكونا من الظالمين } أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء ، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزْم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعُم لآدم في الجنة ، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة .