ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال ، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهم ومظاهر فضله - سبحانه - بعباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . كَرِيماً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ( 31 )
المراد بالأكل فى قوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ } مطلق الأخذ الذى يشمل سائر التصرفات التى نهى الله عنها .
وخص الأكل بالذكر ؛ لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل .
والباطل : اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغضب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة .
والمعنى . يأيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع ، ولا يرتضيها الدين ، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا فى الأموال التى تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها فى وجوه المعاصى التى نهى الله عنها ؛ فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذى آمنتم به .
وناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهو عنه .
وفى قوله { أَمْوَالَكُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال هى نعمة من الله لنا ، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطة التى لا تبيحها شريعة الله .
وفى قوله { بَيْنَكُمْ } إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن تتصرفوا فى أموالكم بالطرق المحرمة ، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم ؛ لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه .
والتجارة : اسم يقع على عقود المعارضات التى يقصد بها طلب الربح . وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك ؛ لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها .
أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا " .
وكلمة { تِجَارَةً } قرأها عاصم وحمزة والكسائى بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة ، واسم كان ضمير يعود عل الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض منكم . وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى : إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم .
وقوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { تِجَارَةً } ولفظ { عَن } للمجاوزة أى : إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم .
والتراضى : هو الرضا من الجانبين بما بدل عليه من لفظ أو عرف ، وهو أساس العقود بصفة عامة ، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة ، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا .
قال بعضهم : وحقيقة التراضى لا يعلمها إلى الله - تعالى - والمراد هنا أمارته . كالإِيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به . وقد قال - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } فدل ذلك على أن مجرد التراضى هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان ، وبأى إشارة مفيدة حصل .
وقال الآلوسى : والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه فى حال المبايعة وقت الإِيجاب والقبول عندنا . وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضى : التخيير بعد البيع . . .
هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضى بين المتعاقدين ، ولكن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الشارع قد حرم المتاجرة فى أشياء معينة حتى ولو تم التراضى بين المتعاقدين بين المتعاقدين فيها ، وذلك مثل المتاجرة فى الخمر والميتة ولحم الخنزير ، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات .
وقوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } معطوف على ما قبله .
وللعلماء فى تأويله اتجاهات : فمنهم من يرى أن معناه : ولا يقتل بعضكم بعضا ، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم . والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة فى الزجر عن هذا الفعل ، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل .
وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازى فقد قال : اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا . وإنما قال : { أَنْفُسَكُمْ } لقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون كنفس واحدة " ولأن العرب يقولون :
قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم يجرى مجرى قتلهم .
ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإِنسان لنفسه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه فى يده يتحساه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يجأ - أى يطعن - بها فى بطنه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً " .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال : أتى النبى صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص - أى سهام عراض واحدها مشقص - فلم يصل عليه .
ومنهم من يرى أن معناه : لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصى التى نهى الله عنها ، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم ، وذهاب ريحكم ، وتمزق وحدتكم ، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها ، وذهاب ريحها .
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإِمام ابن كثير فقد قال : وقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } أى بارتكاب محارم الله - وتعاطى معاصيه ، وأكل أموالكم بينكم بالباطل .
والذى نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات ، فهى تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه ، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره ، وهى أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى هلاكه .
وقدم - سبحانه - النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثانى أخطر ، للإِشعار بالتدريج فى النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم فى أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم فى القتل .
وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات ، وما أباحه من مباحات ، إنما هو من باب الرحمة بالناس ، وعدم المشقة عليهم . فالله - تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو فى قدرتهم واستطاعتهم .
وهذه الآية الكريمة أصل عظيم فى حرمة الأموال والأنفس . ولقد أكد النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فى خطبته فى حجة الوداع حيث قال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا " .
نهى{[7167]} تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما - قال : هو الذي قال الله عز وجل : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود الأودي عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله [ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ] {[7168]} قال : إنها [ كلمة ]{[7169]} محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف{[7170]} للناس{[7171]} ! فأنزل الله بعد ذلك : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] الآية ، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ]{[7172]} .
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }{[7173]} قرئ : تجارة بالرفع وبالنصب ، وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر{[7174]} المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال . كما قال [ الله ]{[7175]} تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 151 ] ، وكقوله { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [ الدخان : 56 ] .
ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ]{[7176]} على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول ؛ لأنه يدل على التراضي نَصا ، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد ، وخالف{[7177]} الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقَّرات ، وفيما يعده الناس بيعا ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم .
قال مجاهد : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } بيعا{[7178]} أو عطاء يعطيه أحد أحدًا . ورواه ابن جرير [ ثم ]{[7179]} قال :
وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن{[7180]} سليمان الجُعْفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش{[7181]} مسلمًا " . هذا حديث مرسل{[7182]} .
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا " وفي لفظ البخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " {[7183]} .
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي ، وأحمد [ بن حنبل ]{[7184]} وأصحابهما ، وجمهورُ السلف والخلف . ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ]{[7185]} بحسب ما يتبين فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك ، رحمه الله . وصححوا{[7186]} بيع المعاطاة مطلقا ، وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب .
وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي : فيما أمركم به ، ونهاكم عنه .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن{[7187]} بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمْران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ ! " قال : قلت يا رسول الله{[7188]} إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت{[7189]} أن أهلكَ ، فذكرت{[7190]} قول الله [ عز وجل ]{[7191]} { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به . ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عنه ، فذكر نحوه . وهذا ، والله أعلم ، أشبه بالصواب{[7192]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عُبَيد{[7193]} عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفْتُ أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ] }{[7194]} قال : فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم{[7195]} .
ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مُتَرد{[7196]} في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " .
وهذا الحديث{[7197]} ثابت في الصحيحين{[7198]} وكذلك رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وعن أبي قِلابة ، عن ثابت بن الضحاك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة{[7199]} وفي الصحيحين من حديث الحسن ، عن{[7200]} جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان رَجُلٌ ممن{[7201]} كان قبلكم وكان به جُرْح ، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ ، قال الله عز وجل : عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه ، حرَّمت{[7202]} عليه الْجَنَّة " {[7203]} . ولهذا قال الله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا }
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار . { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع أي ، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه ، أو اقصدوا كون تجارة . وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين ، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير ، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات ، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا . وقيل : المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله . وبالتجارة صرفه فيما يرضاه . وقرأ الكوفيون { تجارة } بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي إلا أن تكون التجارة أو لجهة تجارة . { ولا تقتلوا أنفسكم } بالبخع كما تفعله جهلة الهند ، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة . ويؤيده ما روي : أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها . أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس . وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم ، فإن المؤمنين كنفس واحدة . جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس ، وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كما أشار إليه بقوله : { إن الله كان بكم رحيما } أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم . وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه .
هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .
وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .
قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}
أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .
قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :
«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .