ثم حكى - سبحانه - أن المنافقين لم يكتفوا بهذا الرجاء للمؤمنين ، بل أخذوا ينادونهم فى تحسر وتذلل فيقولون لهم - كما حكى القرآن عنهم - : { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } .
أى : ينادى المنافقون المؤمنين نداء كله حسرة وندامة ، فيقولون لهم : ألم نكن معكم فى الدنيا ، نصلى كما تصلون ، وننطق بالشهادتين كما تنطقون ؟
{ قَالُواْ بلى } اى : قال المؤمنون للمنافقين : بل كنتم معنا فى الدنيا تنطفون بالشهادتين .
{ ولكنكم } فى الدنيا { فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } أى : أظللتم أنفسكم بالنفاق الذى هو كفر باطن ، وإسلام ظاهر .
{ وَتَرَبَّصْتُمْ } والتربص : الانتظار والترقب ، أى : وانتظرتم وقوع المصائب بالمؤمنين .
{ وارتبتم } أى : وشككتم فى الحق الذى جاءكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضتم عنه .
{ وَغرَّتْكُمُ الأماني } والأمانى : جمع أمنية ، وهى ما يمنون به أنفسهم من الباطل . كزعمهم أنهم مصلحون ، وأنهم على الحق ، وأن المسلمين على الباطل .
{ حتى جَآءَ أَمْرُ الله } أى : بقيتم على الفتنة ، والارتياب ، والتربص ، والاغترار بالباطل ، حتى جاءكم أمر الله ، وهو قضاؤه فيكم بالموت .
{ وَغَرَّكُم بالله الغرور } أى : وخدعكم فى سعة رحمة الله الشيطان . فأطمعكم بأنكم ستنجون من عقابه - تعالى - مهما فتنتم أنفسكم وتربصتم بالمؤمنين وارتبتم فى كون الإسلام حق .
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } أي : ينادي المنافقون المؤمنين : أما{[28262]} كنا معكم في الدار الدنيا ، نشهد معكم الجمعات ، ونصلي معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات ، ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ { قَالُوا بَلَى } أي : فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى ، قد كنتم معنا ، { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي : أخرتم التوبة من وقت إلى وقت .
وقال قتادة : { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالحق وأهله { وَارْتَبْتُمْ } أي : بالبعث بعد الموت { وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } أي : قلتم : سيغفر لنا . وقيل : غرتكم الدنيا { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي : ما زلتم في هذا حتى جاء الموت { وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان .
قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار .
ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين : إنكم كنتم معنا [ أي ] {[28263]} بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها ، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تُراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا .
قال مجاهد : كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم ، وكانوا معهم أمواتا ، ويعطون النور جميعًا يوم القيامة ، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ، ويُماز بينهم حينئذ .
وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله به عنهم ، حيث يقول - وهو أصدق القائلين - : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 38 - 47 ] ،
فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ . ثم قال تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، كما قال تعالى هاهنا : { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ينادونهم} يعني يناديهم المنافقون من وراء السور. {ألم نكن معكم} في دنياكم {قالوا بلى} كنتم معنا في ظاهر الأمر.
{ولكنكم فتنتم} يعني أكفرتم {أنفسكم}... {وتربصتم} يعني بمحمد الموت، وقلتم يوشك محمد أن يموت فنستريح منه {وارتبتم} يعني شككتم في محمد أنه نبي {وغرتكم الأماني} عن دينكم، وقلتم: يوشك محمد أن يموت فيذهب الإسلام فنستريح.
{حتى جاء أمر الله} الموت {وغركم بالله الغرور} يعني الشياطين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى "يقول تعالى ذكره: ينادي المنافقون المؤمنين حين حُجز بينهم بالسور، فبقوا في الظلمة والعذاب، وصار المؤمنون في الجنة، ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم، ونناكحكم ونوارثكم؟ قالوا: بلى، يقول: قال المؤمنون: بلى، بل كنتم كذلك، ولكنكم فَتَنتم أنفسكم، فنافقتم، وفِتْنَتهم أنفسَهم في هذا الموضع كانت النفاق...
وقوله: "وَتَرَبّصْتُمْ" يقول: وتلبثتم بالإيمان، ودافعتم بالإقرار بالله ورسوله... وقوله: "وَارْتَبْتُمْ" يقول: وشككتم في توحيد الله، وفي نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم...
وقوله: "وَغَرّتْكُمُ الأمانِيّ" يقول: وخدعتكم أمانيّ نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله وأضلتكم "حتى جاءَ أمْرُ اللّهِ" يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم، فاجتاحتكم...
وقوله: "وَغَرّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ" يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وغرتكم الأماني} ما كنتم تمنون من نزول الدوابر بالمؤمنين {وغركم بالله} أي بحلمه وإمهاله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَغرَّتْكُمُ الأمانى}: طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بلى} كنتم معنا، ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة، وهو حب العاجل والقتال عليه.
{أمر الله} الذي {جاء} هو الفتح وظهور الإسلام. وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته.
شككتم في وعيد الله...شككتم في البعث والقيامة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ينادونهم} أي المنافقون والمنافقات، يواصلون النداء وهم في الظلمة للذين آمنوا يترفقون لهم في مدة هذا القول والضرب: {ألم نكن} أي بكليتنا {معكم}.
{ولكنكم فتنتم} أي كنتم بما كان لكم من الذبذبة تختبرون {أنفسكم} فتخالطونها باختبار أحوال الدين مخالطة محيلة لها مميلة عما كانت عليه من أصل الفطرة من الاستقامة، تريدون بذلك أن تظهر لكم فيه أمور محسوسة لتخلصوا فيه من الشكوك فتخلصوا، فما آمنتم بالغيب فأهلكتموها وتبعتم أيضاً الأمور التي كنتم تفتنون بها من الشهوات، فأوجبتم لكم الإعراض عن المعالي الباطنات {وتربصتم} أي كلفتم أنفسكم أن أخرجتموها عن الفطرة الأولى فأمهلتم وانتظرتم لتروا الأمر عياناً أو لم تفعلوا كما فعلنا من الإيمان بالغيب وترك التجربة ونسبة ما يحصل لنا مما فيه فتنة إلى أنفسنا بتقصيرنا، وكنا كلما حصل لنا ما يزلزل نقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ولا يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهاهم أولاء المنافقون ينادون المؤمنين: (ألم نكن معكم؟).. فما بالنا نفترق عنكم؟ ألم نكن معكم في الدنيا نعيش في صعيد واحد؟ وقد بعثنا معكم هنا في صعيد واحد؟ (قالوا: بلى!) كان الأمر كذلك. (ولكنكم فتنتم أنفسكم).. فصرفتموها عن الهدى. (وتربصتم).. فلم تعزموا ولم تختاروا الخيرة الحاسمة. (وارتبتم).. فلم يكن لكم من اليقين ما تعزمون به العزمة الأخيرة. (وغرتكم الأماني).. الباطلة في أن تنجوا وتربحوا بالذبذبة وإمساك العصا من طرفيها! (حتى جاء أمر الله)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... {ألم نكن معكم} استفهام تقريري، استعمل كناية عن طلب اللحاق بهم والانضمام إليهم كما كانوا معهم في الدنيا يعملون أعمال الإسلام من المسلمين...
وذكروا لهم أربعة أصول هي أسباب الخسران، وهي: فتنة أنفسهم، والتربص بالمؤمنين، والارتياب في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم والاغترار بما تُموِّه إليهم أنفسهم. وهذه الأربعة هي أصول الخصال المتفرعة على النفاق.
الأول: فتنتهم أنفسهم، أي عدم قرار ضمائرهم على الإِسلام، فهم في ريبهم يترددون، فكأنَّ الاضطراب وعدم الاستقرار خُلُق لهم...
الثاني: التربص، والتربص: انتظار شيء...
الثالث: الارتياب في الدين وهو الشك في الاعتماد على أهل الإسلام أو على الكافرين وينشأ عنه القعود عن الجهاد...
الرابع: الغرور بالأماني، وهي جمع أمنية وهي اسم التمني. والمراد بها ما كانوا يمنون به أنفسهم من أنهم على الحق وأن انتصار المؤمنين عرض زائل، وأن الحوادث تجري على رغبتهم وهواهم...
وجملة {وغركم بالله الغرور}... أي وغركم بالله أيمة الكفر وقادة النفاق. والتغرير: إظهار الضار في صورة النافع بتمويه وسفسطة. والباء في قوله: {بالله} للسببية أو للآلة المَجازية، أي جعل الشيطان شأن الله سبباً لغروركم بأن خَيّل إليكم أن الحِفاظ على الكفر مرضي لله تعالى وأن النفاق حافظتم به على دينكم وحفظتم به نفوسكم وكرامة قومكم واطلعتم به على أحوال عدوكم...