المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

75- ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون أن تطمعوا في أن يُؤمن اليهود بدينكم وينقادوا لكم وقد اجتمعت في مختلف فرقهم أشتات الرذائل التي تباعد بينهم وبين الإيمان بالحق ، فقد كان فريقا منهم - وهم الأحبار - يسمعون كلام الله في التوراة ويفهمونه حق الفهم ثم يتعمدون تحريفه وهم يعلمون أنه الحق ، وأن كتب الله المنزلة لا يجوز تغييرها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً آخر من ألوان رذائلهم . ويتمثل هذا اللون في تحريفهم للكلم عن مواضعه ، واشترائهم بآيات الله ثمناً قليلاً ، وذلك لقسوة قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم ، وبيعهم الدين بالقليل من حطام الدنيا ، قال - تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ . . . }

الآيات الكريمة التي معنا قد افتتحت بتيئيس المؤمنين من دخول اليهود في الإِسلام ولكن هذا التيئيس قد سبق بما يدعمه ويؤيده ، فقد بينت الآيات السابقة عليها " موقف اليهود الجحودي من نعم الله - عز وجل - كما بينت تنطعهم في الدين ، وسوء إدراكهم لمقاصد الشريعة ، وقساوة قلوبهم من بعد أن رأوا من الآيات البينات ما رأوا .

وبعد هذا البيان الموحي بالقنوط من استجابتهم للحق ، خاطب الله المؤمنين بقوله :

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

ومعنى الآية الكريمة : أفتطمعون - أيها المؤمنون - بعد أن وصفت لكم من حال اليهود ما وصفت من جحود ونكران ، أن يدخلوا في الإِسلام . والحال أنه كان فريق من علمائهم وأحبارهم يسمعون كلام الله ثم يميلونه عن وجهه الصحيح من بعد ما فهموه ، وهم يعلمون أنهم كاذبون بهذا التحريف على الله تعالى ، أو يعلمون ما يستحقه محرفه من الخزي والعذاب الأليم .

فالخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، والاستفهام يقصد به الإِنكار عليهم ، إذ طمعوا في استجابة اليهود لدعوة الحق ، بعد أن علموا سوء أحوالهم ، وفساد نفوسهم . والنهي عن الطمع في إيمانهم لا يقتضي عدم دعوتهم إلى الإِيمان ، فالمؤمنون مأمورون بدعوتهم إليه ، لإِقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم ، ولقطع عذرهم في الآخرة . وقد تصادف الدعوة إلى الإِسلام نفوساً منصفة تستجيب لدعوة الحق ، وتهتدي إلى الطريق المستقيم ، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم هو وأصحابه من بعده . ولكن اليهود صموا آذانهم عن الحق بعد ما عرفوه فأصبحت دعوتهم إلى الإِسلام غير مجدية ، وهنا يأتي النهي عن الطمع في إيمانهم بهذه الآية وأمثالها .

وجملة { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله } حالية ، مشتملة على بيان أحد الأسباب الداعية إلى القنوط من إيمانهم ، وبذلك يكون التقنيط من إيمانهم قد علل بعلتين :

إحداهما : ما سبق هذه الآية من تصوير لأحوالهم السيئة .

والثانية : ما تضمنته هذه الجملة الكريمة من تحريفهم لكلام الله عن علم وتعمد .

والمراد بالفريق في قوله تعالى : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أحبارهم وعلماؤهم الذين عاصروا الرسل الكرام ، فسمعوا منهم ، أو الذين أتوا بعدهم فنقلوا عنهم .

والتحريف أصله انحراف الشيء عن جهته وميله عنها إلى غيرها . والمراد به هنا : إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به ، بالتغيير والتبديل في الألفاظ ، أو بالكتمان والتأويل الفاسد ، والتفسير الباطل .

وقوله تعالى : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } زيادة تشنيع عليهم ، حيث إنهم حرفوا كلام الله بعد فهمهم له عن تعمد وسوء نية ، وارتكبوا هذا الفعل الشنيع ، رغم علمهم بما يستحقه مرتكبه من عقوبة دنيوية وأخروية .

ففي هذين القيدين من النعي عليهم ما لا مزيد عليه ، حيث أبطل بهما عذر الجهل والنسيان ، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان .

وإنما كان قيام الفريق من أحبار اليهود بتحريف الكتاب سبباً في اليأس من إيمان عامتهم ، لأن هؤلاء العامة المقلدين ، قد تلقوا دينهم عن قوم فاسقين ، دون أن يلتفتوا إلى الحق ، أو يتجهوا إلى النظر في الأدلة الموصلة إليه ، وأمثال هؤلاء الذين شبوا على عماية التقليد ، وغواية الشيطان ، لا يرجى منهم الوصول إلى نور الحق ، وجلال الصدق ، ولأن أمة بلغ الحال بعلمائها - وهم مظهر محامدهم - أن يجرؤوا على كلام الله فيحرفوه لا تنتظر من دهمائها أن يكونوا خيراً منهم حالا أو أسعد مآلا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

يقول تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ } أيها المؤمنون { أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } أي : ينقاد{[2023]} لكم بالطاعة ، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود ، الذين شاهد آباؤهم{[2024]} من الآيات البينات ما شاهدوه{[2025]} ثم قست قلوبهم من بعد ذلك { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } أي : يتأولونه على غير تأويله { مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي : فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله ؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ]{[2026]} .

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } وليس قوله : { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } يسمعون التوراة . كلهم قد سمعها . ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها .

قال محمد بن إسحاق : فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى : يا موسى ، قد حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى ، فأسمعنا كلامه حين يكلمك . فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال : نعم ، مُرْهم فليتطهروا ، وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور ، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا ، فوقعوا سجودًا ، وكلمه ربه تعالى ، فسمعوا{[2027]} كلامه يأمرهم وينهاهم ، حتى عقلوا عنه ما سمعوا . ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلما جاءوهم حَرَّف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا . قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله : إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم ، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .

وقال السدي : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال : هي التوراة ، حرفوها .

وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق ، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق . فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه{[2028]} كما سمعه الكليم موسى بن

عمران ، عليه الصلاة والسلام{[2029]} ، وقد قال الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [ التوبة : 6 ] ، أي : مبلَّغًا إليه ؛ ولهذا قال قتادة في قوله : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه .

وقال مجاهد : الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم .

وقال أبو العالية : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم ، من نعت {[2030]} محمد صلى الله عليه وسلم ، فحرفوه عن مواضعه .

وقال السدي : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي أنهم أذنبوا . وقال ابن وهب : قال ابن زيد في قوله : { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال : التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حرامًا ، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقًا ؛ إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل{[2031]} برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب ، فهو فيه محق ، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق ، ولا رشوة ، ولا شيء ، أمروه بالحق ، فقال الله لهم : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 44 ] .


[2023]:في جـ، ط: "ينقادوا".
[2024]:في جـ: "ما آتاهم".
[2025]:في ط: "مما شاهدوه".
[2026]:في أ: "من بعد" وهو خطأ.
[2027]:في جـ، ط، ب: "فلما سمعوا".
[2028]:في جـ: "لمن يكون منه"، وفي ط: "لمن تكون منه".
[2029]:في جـ: "كما سمعه الكليم عليه السلام"، وفي ط: "كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام".
[2030]:في جـ، ط: "من نص"
[2031]:في جـ: "الباطل".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

يعني بقوله جل ثناؤه : { أفَتَطْمَعُونَ } يا أصحاب محمد ، أي : أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم والمصدّقين ما جاءكم به من عند الله أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل ؟ .

ويعني بقوله : { أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم . كما :

حدثت عن عمار بن الحسن ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا لكم ، يقول : أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود ؟ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } الآية ، قال : هم اليهود .

القول في تأويل قوله تعالى : " وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ . " .

قال أبو جعفر : أما الفريق فجمع كالطائفة لا واحد له من لفظه ، وهو فعيل من التفرّق سمي به الجماع كما سميت الجماعة بالحزب من التحزّب وما أشبه ذلك ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

أَجَدّوا فلَمّا خِفْتُ أنْ يَتَفَرّقُوا *** فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوّبُ

يعني بقوله : { مِنْهُمْ } من بني إسرائيل . وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } لأنهم كانوا آباءهم وأسلافهم ، فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم ، كما يذكر الرجل اليوم الرجل وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته وكان من قومه وعشيرته ، فيقول : كان منا فلان يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه أو من قومه وعشيرته فكذلك قوله : { وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

اختلف أهل التأويل في الذي َعنَى الله بقوله : { وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . فقال بعضهم بما :

حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :

{ أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، فالذين يحرّفونه والذين يكتمونه : هم العلماء منهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أَفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفونَهُ منْ بَعْدِ ما عَقَلُوه } قال : هي التوراة حرّفوها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ } قال : التوراة التي أنزلها عليهم يحرّفونها ، يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالاً ، والحقّ فيها باطلاً والباطل فيها حقا ، إذا جاءهم المحقّ برشوة أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محقّ ، وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حقّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحقّ ، فقال لهم : { أتأمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ } . وقال آخرون في ذلك بما :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوّة ، ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ } الآية ، قال : ليس قوله :

{ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ } يسمعون التوراة ، كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم ، فأخذتهم الصاعقة فيها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى : يا موسى قد حِيلَ بيننا وبين رؤية الله عز وجل ، فأسمعنا كلامه حين يكلمك ؟ . فطلب ذلك موسى إلى ربه ، فقال : نعم ، فمرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ، ثم خرج بهم حتى أتى الطور ، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام ، فوقعوا سجودا ، وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم ، حتى عقلوا ما سمعوا ، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا ، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله : إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم . فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة ، ما قاله الربيع بن أنس والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم ، من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل سماع موسى إياه منه ، ثم حرّف ذلك وبدّل من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه . وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم ، كانوا يسمعون كلام الله عزّ وجلّ استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان ، وإيذانا منه تعالى ذكره عباده المؤمنين وقطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحقّ والنور والهدى ، فقال لهم : كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم بالذي تخبرونهم من الإنباء عن الله عزّ وجلّ عن غيب لم يشاهدوه ولم يعاينوه ؟ وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه ، ثم يبدّله ويحرّفه ويجحده ، فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحقّ وهم لا يسمعونه من الله ، وإنما يسمعونه منكم وأقرب إلى أن يحرّفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدّلوه وهم به عالمون ، فيجحدوه ويكذّبوا من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه ثم حرّفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف .

ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله : { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ } يسمعون التوراة ، لم يكن لذكر قوله : " يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ " معنى مفهوم ، لأن ذلك قد سمعه المحرّف منهم وغير المحرّف . فخصوص المحرّف منهم بأنه كان يسمع كلام الله إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له .

فإن ظن ظانّ إنما صلح أن يقال ذلك لقوله : { يُحَرّفُونَهُ } فقد أغفل وجه الصواب في ذلك . وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود كانوا أعطوا من مباشرتهم سماع كلام الله تعالى ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل ، ثم بدلوا وحرّفوا ما سمعوا من ذلك ، فلذلك وصفهم بما وصفهم به للخصوص الذي كان خصّ به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره .

ويعني بقوله : { ثُمّ يُحَرّفُونَهُ } ثم يبدلون معناه ، وتأويله : ويغيرونه . وأصله من انحراف الشيء عن جهته ، وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله : { يُحَرّفُونَهُ } : أي يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه إلى غيره . فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرّفوا ، وأنه بخلاف ما حرّفوه إليه ، فقال : { يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ } يعني من بعد ما عقلوا تأويله " وَهُمْ يَعْلَمُونَ " أي يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرّفوا من ذلك مبطلون كاذبون . وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت ، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم ، وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

{ أفتطمعون } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { أن يؤمنوا لكم } أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم . يعني اليهود . { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } يعني التوراة . { ثم يحرفونه } كنعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم . أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون . وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا . { من بعد ما عقلوه } أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة . { وهم يعلمون } أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك .