ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى عبادتهم وتقربهم إلى الله ، تصويراً بديعاً فقال : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } .
والتجافى : التحرك إلى جهة أعلى . وأصله من جفا فلان السرج عن فرسه ، إذا رفعه . ويقال تجافى فلان عن مكانه ، إذا انتقل عنه .
والجنوب : جمع جنب . وأصله الجارحة ، والمراد به الشخص .
والمضاجع : جمع مضجع ، وهو مكان الاتكاء للنوم .
والمعنى : أن هؤلاء المؤمنين الصادقين ، تتنحى وترتفع أجسامهم ، عن أماكن نومهم ، وراحتهم ، حالة كونهم يدعون ربهم بإخلاص وإنابة { خَوْفاً } من سخطه عليهم ، { وَطَمَعاً } فى رضاه عنهم .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } من فضلنا وخيرنا { يُنفِقُونَ } فى وجوه البر والخير .
ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة . في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب :
( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ) . .
إنهم يقومون لصلاة الليل . صلاة العشاء الآخرة . الوتر . ويتهجدون بالصلاة ، ودعاء الله . ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) . . فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام . ولكن هذه الجنوب لا تستجيب . وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة . لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ . شغلا بربها . شغلا بالوقوف في حضرته . وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء . الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته . والخوف من غضبه والطمع في رضاه . والخوف من معصيته والطمع في توفيقه . والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة ، حتى لكأنها مجسمة ملموسة : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) . . وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة ، والصلاة الخاشعة ، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة . . ( ومما رزقناهم ينفقون ) . .
جفا الرجل الموضع إذا تركه ، و «تجافى الجنب » عن مضجعه إذا تركه وجافى الرجل جنبه عن مضجعه ، ومنه في الحديث «ويجافي بضبعيه »{[9424]} أي يبعدهما عن الأرض وعن يديه ، فقوله { تتجافى جنوبهم } أي تبعد وتزول ، ومنه قول عبد الله بن رواحة : [ الطويل ]
نَبِيٌّ تجافى جنبه عن فراشه . . . إذا استثقلت بالمشركين المضاجع{[9425]}
ويروى يبيت يجافي ، قال الزجاج والرماني : التجافي التنحي إلى جهة فوق .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول حسن ، وكذلك في الصفح عن المخطىء في سب ونحوه . و «الجنوب » جمع جنب ، و { المضجع } موضع الاضطجاع للنوم ، وقال أنس بن مالك : أراد بهذه الآية الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقال عطاء وأبو سلمة أراد صلاة العشاء الآخرة ، وقال أبو محمد : وكانت الجاهلية ينامون من أول المغرب ومن أي وقت شاء الإنسان فجاء انتظار وقت العشاء الآخرة غريباً شاقاً ، وقال أنس بن مالك أيضاً : أراد انتظار العشاء الآخرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل وفي ذلك أحاديث كثيرة{[9426]} ، وقال الضحاك : «تجافي الجنب » هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة وهذا قول حسن يساعده لفظ الآية{[9427]} ، وقال الجمهور من المفسرين : أراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل .
قال الفقيه الإمام القاضي : وعلى هذا التأويل أكثر الناس ، وهو الذي فيه المدح ، وفيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قيام الليل ثم يستشهد بالآية ، ذكره الطبري عن معاذ بن جبل{[9428]} ، ورجح الزجاج هذا القول بأنهم جزوا بإخفاء فدل ذلك على أن العمل إخفاء أيضاً وهو قيام الليل ، وقوله { يدعون } يحتمل أن يكون في موضع الحال من الموصوفين ، أي في وقت التجافي ، ويحتمل أن يكون صفة مستأنفة ، أي { تتجافى جنوبهم } وهم أيضاً في كل أحوالهم { يدعون } ليلهم ونهارهم . و «الخوف » من عذاب الله ، و «الطمع » في ثواب الله . و { ينفقون } قيل معناه الزكاة المفروضة وقيل النوافل والصدقات غير المفروضة وهذا القول أمدح .
وجملة { تتجافى جنوبهم } حال من الموصول ، أي : الذين إذا ذُكِّروا بها خرّوا ومَن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، أو استئناف . وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم .
والتجافي : التباعد والمتاركة . والمعنى : أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة ، أي : يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله ؛ وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل ، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي .
و { المضاجع : الفرش جمع مضجع ، وهو مكان الضجع ، أي : الاستلقاء للراحة والنوم . وأل فيه عوض عن المضاف إليه ، أي عن مضاجعهم كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] . وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام . وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد أصحاب هذا الشأن :
يبيت يجافي جنبه عن فراشه . . . إذا استثقلتْ بالمشركين المضاجع
وجملة { يدعون ربهم } يجوز أن تكون حالاً من ضمير { جنوبهم } والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة { تتجافى جنوبهم } .
وانتصب { خوفاً وطمعاً } على الحال بتأويل خائفين وطامعين ، أي : من غضبه وطمعاً في رضاه وثوابه ، أي هاتان صفتان لهم . ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله ، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته .
ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لَذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال { ومما رزقناهم ينفقون } أي : يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم .