ثم عدد - سبحانه - ألونا أخرى من جرائمهم التى عقابهم عليها شديدا فقال - تعالى - : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
والفاء فى قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } للتفريع على ما تقدم من قوله { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } والباء للسببية ، وما هنا مزيدة لتأكيد نقضهم للميثاق . والجر والمجرور متعلق بمحذف لتذهب نفس السامع فى تقديره كل مذهب فى التهويل والتشنيع على هؤلاء الناقصين لعهودهم مع الله - تعالى - فيكون المعنى :
فسببب نقض هؤلاء لعهودهم وبسبب كفرهم بآياتنا ، وبسبب قتلهم لأنبيائنا ، وبسبب أقوالهم الكاذبة . بسبب كل ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من أنواع العقوبات الشديدة ، وأنزلنا بهم ما أنزلنا من ظلم ومهانة وصغار ومسخ . . . الخ .
ويرى بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بقوله - تعالى - بعد ذلك { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } . . .
أى : فسبب نقضهم للميثاق . وكفرهم بآيات الله حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .
قال الفخر الرازى : واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان :
أحدهما : أن الكلام طويل جداً من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } إلى قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } .
الثانى : أن تلك الجنايات المذكورة بعد قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } عظيمة جدا . لأن كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء ، وإنكارهم للتكليف بقولهم : قلوبنا غلف ، أعظم الذنوب ، وذكر الذنوب العظيمة ، إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة ، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا حسن تعليقه بتلك الجنايات الكبيرة .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد لعن بنى إسرائيل كما جاء فى قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } ومسخهم قردة وخنازير كما جاء فى قوله - تعالى
{ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } وكما فى قوله - تعالى - { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت } وتلك العقوبات كلها إنما كانت بسبب الجنايات والمنكرات التي سجلتها عليهم الآيات القرآنية ؛ والتى من أجمعها هذه الآيات التى معنا .
فالآيات التى معنا تسجل عليهم نقضهم للمواثيق ، ثم تسجل عليهم - ثانيا - كفرهم بآيات الله .
وقد عطف - سبحانه - كفرهم بآياته على نقضهم للميثاق الذى أخذه عليهم مع أن ذلك الكفر من ثمرات النقض ، للإِشعار بأن النقض فى ذاته إثم عظيم والكفر فى ذاته إثم عظيم - أيضا - من غير التفات إلى أن له سبباً أو ليس له سبب .
وسجل عليهم - ثالثا - قتلهم الأنبياء غير حق . فقد قتلوا زكريا وحيى وغيرهما من رسل الله - تعالى - .
ولا شك أن قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يدل على شناعة جريمة من قتلهم وعلى تولغه فى الجحود والعناد والفجور إلى درجة تعجز العبادات عن وصفها ، لأنه بقتله للدعاة إلىالحق ، لا يريد للحق أن يظهر ولا للفضيلة أن تنتشر ، ولا للخير أن يسود ، وإنما يريد أن تكون الأباطيل والرذائل والشرور هى السائدة فى الأرض .
وقوله : { بِغَيْرِ حَقٍّ } ليس قيدا ؛ لأن تقل النبيين لا يكون بحق أبداً ، وإنما المراد من قوله : { بِغَيْرِ حَقٍّ } بيان أن هؤلاء القاتلين قد بلغوا النهاية فى الظلم والفجور والتعدى . لأنهم قد قتلوا أنبياء الله بدون أى مسوغ يوسغ ذلك ، وبدون أية شبهة تحملهم على ارتكاب ما ارتكبوا ، وإنما فعلوا ما فعلوا لمجرد إرضاء أحقادهم وشهواتهم وأهوائهم . .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى قوله : فإن قلت : وقتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟ قلت . معناه أنهم قتلوهم بغير حق عندهم - ولا عند غيرهم - ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا . وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم . فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل .
ثم سجل عليهم - رابعا - قولهم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } .
وقوله : { غُلْفٌ } جمع أغلف - كحمر جمع أحمر - والشئ الأغلف هو الذى جعل عليه شى يمنع وصول شئ آخر إليه .
والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين قد قالوا عندما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحق إن قلوبنا قد خلقها الله مغطاة بأغطية غليظة ، وهذه الأغطية جعلتنا لا نعى شيئا مما تقوله يا محمد ، ولا نفقة شيئا مما تدعونا إليه ، فهم بهذا الكلام الذى حكاه القرآن عنهم ، يريدون أن يتنصلوا من مسئوليتهم عن كفرهم ، لأنهم يزعمون أن قلوبهم قد خلقها الله بهذه الطريقة التى حالت بينهم وبين فهم ما يراد منهم .
وقريب من هذا قوله - تعالى - حكاية عن المشركين : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } وقيل : إن قوله : وغلف : جمع غلاف - ككتب وكتاب - وعليه يكون المعنى : أنهم قالوا إن قلوبنا غلف أى أوعية للعلم شأنها فى ذلك شأن الكتب ، فلا حاجة بنا يا محمد إلى ما تدعونا إليه ، لأننا عندنا ما يكفينا .
والذى يبدو لنا أن التأويل الأول أولى ، لأن أقرب إلى سياق الآية ، فقد رد الله عليهم بقوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . والطبع معناه . إحكام الغلق على الشئ وختمه بحيث لا ينفذ إليه شئ آخر .
والمعنى : أن هؤلاء القائلين إن قلوبهم غلف كاذبون فيما يقولون ، وتخليهم عن مسئولية الكفر ليس صحيحا . لأن كفرهم ليس سببه أن قلوبهم قد خلقت مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق - كما يزعمون - بل الحق أن الله - تعالى - ختم عليها ، وطمس معالم الحق فيها ، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة . فهو - سبحانه - قد خلق القلوب على الفطرة ، بحيث تتمكن من اختيار الخير والشر ، إلا أن هؤلاء اليهود قد أعرشوا عن الخير إلى الشر ، واختاروا الكفر على الإِيمان نتيجة انقيادهم لأهوائهم وشهواتهم . فالله - تعالى - طبع على قلوبهم بسبب إيثارهم سبيل الغى على سبيل الرشد ، فصاروا لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا قيمة له عند الله - تعالى - .
فقوله { إِلاَّ قَلِيلاً } نعت لمصدر محذوف أى إلا إيماناً قليلا . كإيمانهم بنبوة موسى - عليه السلام - وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله ، لأن الإِيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم ، يعتبره الإِسلام كفرا بالكل كما سبق أن بينا فى قوله - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً } ومنهم من جعل قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } صفة لزمان محذوف أى : فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا . ومنهم من جعل الاستثناء فى قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } أى : فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأشناهه . والجملة الكريمة وهى قوله : { طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } معترضة بين الجمل المتعاطفة . وقد جئ بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة ، وأقاربهم الباطلة .
ولكن ماذا كان ؟ إنهم بمجرد ذهاب الخوف عنهم ؛ وغياب القهر لهم ، تملصوا من الميثاق الغليظ فنقضوه ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياءه بغير حق . وتبجحوا فقالوا : إن قلوبنا لا تقبل موعظة ، ولا يصل إليها قول ، لأنها مغلفة دون كل قول ! وفعلوا كل الأفاعيل الأخرى التي يقصها الله سبحانه على رسوله وعلى المسلمين - في مواجهة اليهود - في سياق هذه الآيات . .
( فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف )
وعند قولهم : ( قلوبنا غلف ) . . وهي القولة التي كانوا يجيبون بها على دعوة الرسول [ ص ] إما تيئيسا له من إيمانهم واستجابتهم ، وإما استهزاء بتوجيه الدعوة إليهم ، وتبجحا بالتكذيب وعدم الإصغاء ، وإما هذا وذلك معا . . عند قولهم هذا ينقطع السياق للرد عليهم :
( بل طبع الله عليها - بكفرهم - فلا يؤمنون إلا قليلا - )
فهي ليست مغلفة بطبعها . إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم ، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة ، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته ، فلا يقع منه الإيمان ، إلا قليلا ، ممن لم يستحق بفعله ، أن يطبع الله على قلبه . أي أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه ، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه . وهم قلة قليلة من اليهود . كعبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية ، وأسد بن عبيدالله . .
وقوله تعالى { فبما نقضهم } الآية ، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه ، والإيمان الذي تضمنه { ادخلوا الباب سجداً } إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله ، وقولهم : حبة في شعرة وحنطة في شعيرة ، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به ، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت ، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر ، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة ، وهي قتل الأنبياء ، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ » منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه ، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم . وقولهم { قلوبنا غلف } أي هي في حجب وغلف{[4359]} ، فهي لا تفهم ، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم ، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم ، وقرأ نافع «تعْدّوا » بسكون العين وشد الدال المضمومة{[4360]} ، وروى عنه ورش «تعَدّوا » بفتح العين وشد الدال المضمومة{[4361]} وقرأ الباقون «لا تعْدوا » ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة وقرأ الأعمش والحسن «لا تعتدوا » وقوله تعالى : { فبما } ما زائدة مؤكدة ، التقدير فبنقضهم ، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم ، متروك مع ذهن السامع ، تقديره لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم{[4362]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فبما نقضهم ميثاقهم}: فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة، {وكفرهم بآيات الله}: الإنجيل والقرآن، وهم اليهود،
{وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف}، وذلك حين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: {وقتلهم الأنبياء} عرفوا أن الذي قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حق، وقالوا: {قلوبنا غلف}: في أكنة عليها الغطاء، فلا تفقه ولا تفهم ما تقول يا محمد، كراهية ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من كفرهم بالإنجيل والفرقان.
يقول الله تعالى: {بل طبع الله عليها بكفرهم}: ختم على قلوبهم، {فلا يؤمنون إلا قليلا}: ما أقل ما يؤمنون، فإنهم لا يؤمنون البتة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم، يعني عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة. "وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّهِ": وجحودهم بآيات الله، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتجّ بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله، وحقية ما جاءوهم به من عنده. "وَقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بغيرِ حَق": وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم بغير حقّ، يعني: بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها. "وقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ": وبقولهم: قلوبنا غلف، يعني يقولون: عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه، فلا نَفْقَهُ ما تقول، ولا نعقله... "بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ": كذبوا في قولهم: قلوبنا غلف، ما هي بغلف ولا عليها أغطية، ولكن الله جلّ ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله... "فَلا يُؤْمِنونَ إلاّ قَلِيلاً": فلا يؤمن هؤلاء الذين وصف الله صفتهم لطبعه على قلوبهم، فيصدّقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله إلا إيمانا قليلاً، يعني: تصديقا قليلاً. وإنما صار قليلاً لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن صدّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب وكذّبوا ببعض، فكان تصديقهم بما صدّقوا به قليلاً، لأنهم وإن صدّقوا به من وجه، فهم به مكذّبون من وجه آخر، وذلك من وجه تكذيبهم من كذّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله ورسل الله يصدّق بعضهم بعضا، وبذلك أمر كلّ نبيّ أمته، وكذلك كتب الله يصدّق بعضها بعضا ويحقق بعض بعضا، فالمكذّب ببعضها مكذّب بجميعها من جهة جحوده ما صدّقه الكتاب الذي يقرّ بصحته، فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلاً.
واختلف في معنى قوله: "فَبِما نَقْضِهِمْ..."، هل هو مواصل لما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه؟
فقال بعضهم: هو منفصل مما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بكُفْرِهِمْ ولعنهم. وقال آخرون: بل هو مواصل لما قبله، قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، فبنقضهم ميثاقَهم، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حقّ وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضا، ومعناه مردود إلى أوّله. وتفسير ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما فسر به تعالى ذكره مِن نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم.
والصواب من القول في ذلك أن قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وما بعده منفصل معناه من معنى ما قبله وأنّ معنى الكلام: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وبكذا وبكذا، لعنّاهم وغضبنا عليهم، فترك ذكر «لعناهم» لدلالة قوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ على معنى ذلك، إذ كان مَن طبع على قلبه فقد لُعن وسُخط عليه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الذين أخذتهم الصاعقة إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء والذين رَمَوْا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا: قتلنا المسيحَ، كانوا بعد موسى بدهر طويل، ولم يدرك الذين رَمَوْا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ولا مَن صُعِق من قومه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة لِرَميهم مريم بالبهتان العظيم، ولا لقولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا انفصال معنى قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من معنى قوله: فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقتلهم الأنبياء بغير حق} يحتمل على حقيقة القتل، ويحتمل على القصد والهم، وقد هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة. عن ابن عباس رضي الله عنه (أنه) قال: (كانوا يقتلون الأنبياء، وأما الرسل فكانوا معصومين، لم يقتل رسول قط. ألا ترى أنه قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا} (غافر: 51) وقال عز وجل {إنهم لهم المنصورون} (الصافات: 172).
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه تأويلان: أحدهما: أن القليل منهم يؤمن بالله. والثاني: لا يؤمنون إلا بقليل، وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون جميعهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"بل طبع الله عليها بكفرهم" : السمة والعلامة، وسم الله تعالى وعلّم على قلوب قوم من الكفار الذين علم من حالهم أنهم لا يؤمنون فيما بعد، وجعل ذلك عقوبة لهم على كفرهم الذي ارتكبوه في الحال تعرفه الملائكة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما بين سبحانه أنه أكد عليهم الميثاق، وأكثر من التقدم في حفظ العهد؛ بين أنهم نقضوا، فأقبهم بسبب ذلك ما هددوا به في التوراة من الخزي وضرب الذلة مع ما ادخر لهم في الآخرة فقال: {فبما} مؤكداً بإدخال "ما "{نقضهم ميثاقهم} أي فعلنا بهم بسبب ذلك جميع ما ذكرنا في التوراة من الخزي، وقد تقدم كثير منه في القرآن، ولا يبعد عندي تعليقه بقوله الآتي "حرمنا عليهم طيبات -واعتدنا" ويكون من الطيبات العز ورغد العيش، وذلك جامع لنكد الدارين وعطف على هذا الأمر العام ما اشتدت به العناية من إفراده عطف الخاص على العام فقال: {وكفرهم بآيات الله} مما جاءهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم واقتضت حكمته سبحانه أن يكون عظمتها مناسبة لعظمة اسمه الأعظم الذي هو مسمى جميع الأسماء، فاستلزم كفرهم به كفرهم بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أعظم ما نقضوا فيه وأخص من مطلق النقض {وقتلهم الأنبياء} وهو أعظم من مطلق كفرهم، لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم، لأن الأنبياء سبب الإيمان وفي محو السبب محو المسبب .
ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه؛ قال: {بغير حق} أي كبير ولا صغير أصلاً. وهذا الحرف- لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات -وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة، بخلاف ما مضى، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال: {وقولهم قلوبنا غلف} أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء، لكونها في أغشية، فهي شديدة الصلابة، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفون بأشهر صفاته، ويترقبون إبانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفاً على ما تقديره: وقد كذبوا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً: {بل طبع الله} أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة {عليها} طبعاً عارضاً {بكفرهم} بل إنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض- عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وترك ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه وتعالى عليها.
فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته، ولذا سبب عنه قوله: {فلا يؤمنون} أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم: طبع الله عليها فهي لا تعي، وتكون "بل" استدراكاً للطبع بالكفر وحده، لأنه ربما انضم إليه، وأن يكون أضرب عن قولهم: إنها في غلف، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئاً لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام {إلا قليلاً} من الإيمان بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، أو إلا أناساً قليلاً منهم -كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام من الآيات، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم، ونقلت كثيراً منه في هذا الكتاب، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف} أي فبسبب نقض أهل الكتاب لميثاقهم الذين واثقهم الله به إذ نكثوا فيه، وأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله، وكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم يره سواهم، وقتلهم الأنبياء الذين بعثوا لهدايتهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام، وقولهم قلوبنا غلف، وغير ذلك من سيئاتهم التي يذكر أهم كبائرها في الآيات الآتية- أي بسبب هذا كله فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال، لأن هذه الذنوب قد مزقت نسيج وحدتهم، وفرقت شمل أمتهم، وذهبت بريحهم وقوتهم، وأفسدت جميع أخلاقهم، فكل ما حل بهم من البلاء، هو أثر ذلك النقض والكفر والعصيان... وقد رد الله تعالى عليهم هذا الزعم بقوله: {بل طبع الله عليهم بكفرهم} أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع بل طبع الله عليها بكفرهم أي كان كفرهم شديدا وما له من الأثر القبيح في أخلاقهم وأعمالهم سببا للطبع على قلوبهم أي جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) في قساوتها وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش، فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم، ويصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر لم يؤمن،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(بل طبع الله عليها -بكفرهم- فلا يؤمنون إلا قليلا -) فهي ليست مغلفة بطبعها. إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منه الإيمان، إلا قليلا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه. أي أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه. وهم قلة قليلة من اليهود. كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد الله..