السورة المسماة بسورة الملك أخذا من كلمة الملك التي وقعت في أول آية منها ، وأهم مقاصد هذه السورة الكريمة : أنها توجه الأفكار وتلفت الأنظار إلى آثار قدرة الله الباهرة في الأنفس والآفاق ، علوها وسفلها ، ليكون ذلك سبيلا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وبيان حال الكافرين الذين يلقون في جهنم ، فيسمعون شهيقها ويصلون نارها ، ويعترفون بذنبهم ويتحسرون على مصيرهم ، حين تبكتهم الملائكة بعدم استجابتهم للرسول فيما دعاهم إليه وأنذرهم به . وأما من خافوا ربهم ، وآمنوا به ، فلهم مغفرة وعفو عما فرطوا ، وأجر كبير بما قدموا وبذلوا .
1- تعالى وازدادت بركات مَن يملك - وحده - التصرف في جميع المخلوقات ، وهو على كل شيء تام القدرة .
1- سورة " الملك " من السور المكية الخالصة ، ومن السور ذات الأسماء المتعددة ، قال الآلوسي : وتسمى " تبارك " و " المانعة " و " المنجية " و " المجادلة " .
فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : كنا نسميها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " المانعة " .
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر .
وفي رواية عن ابن عباس أنه قال : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال : بلى . قال : اقرأ سورة " تبارك الذي بيده الملك " وعلمها أهلك ، وجميع ولدك . . . فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها .
وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة ، منها –سوى ما تقدم- ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن سورة من كتاب الله ، ما هي إلا ثلاثون آية ، شفعت لرجل حتى غفر له ، [ تبارك الذي بيده الملك . . . ]( {[1]} ) .
وكان نزولها بعد سورة " المؤمنون " وقبل سورة " الحاقة " . . وعدد آياتها إحدى وثلاثون آية في المصحف المكي . . وثلاثون آية في غيره .
2- والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وعن مظاهر فضله ورحمته بعباده ، وعن بديع خلقه في هذا الكون ، وعن أحوال الكافرين ، وأحوال المؤمنين يوم القيامة ، وعن وجوب التأمل والتدبر في ملكوت السموات والأرض . . وعن الحجج الباهرة التي لقنها –سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم لكي يقذف بها وجوه المبطلين ، والتي تبدأ في بضع آيات بقوله –تعالى- [ قل ] .
ومن ذلك قوله –سبحانه- : [ قل هو الرحمن آمنا به ، وعليه توكلنا ، فستعلمون من هو في ضلال مبين . قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ] .
لفظ { تَبَارَكَ } فعل ماض لا ينصرف . وهو مأخوذ من البركة ، بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة أى : كثر خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته .
أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شئ ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .
والملك - بضم الميم وسكون اللام - : السلطان والقدرة ونفاذ الأمر .
أى : جل شأن الله - تعالى - وكثر خيره وإحسانه ، وثبت فضله على جميع خلقه ، فهو - سبحانه - الذى بيده وقدرته التمكن والتصرف فى كل شئ على حسب ما يريد ويرضى ، وهو - عز وجل - الذى لا يعجزه أمر فى الأرض أو فى السماء .
واختار - سبحانه - الفعل " تبارك " للدلالة على المبالغة فى وفرة العظمة والعطاء ، فإن هذه الصيغة ترد للكناية عن قوة الفعل وشدته . . كما فى قولهم : تواصل الخير ، إذا تتابع بكثرة مع دوامه . .
والتعريف فى لفظ " الملك " للجنس . وتقديم المسند وهو " بيده " على المسند إليه ، لإِفادة الاختصاص . أى : بيده وحده لا بيد أحد سواه جميع أنواع السلطان والقدرة ، والأمر والنهى . .
قال الإِمام الرازى : وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكا ومالكا ، تقول بيد فلان الأمر والنهى ، والحل والعقد . وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام قدرته ، لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة . .
وجملة { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معطوفة على قوله { بِيَدِهِ الملك } الذى هو صلة الموصول ، وذلك لإِفادة التعميم بعد التخصيص ، لأن الجملة الأولى وهى { الذي بِيَدِهِ الملك } أفادت عموم تصرفه فى سائر الموجودات ، وهذه أفادت عموم تصرفه - سبحانه - فى سائر الموجودات والمعدومات ، إذ بيده - سبحانه - إعدام الموجود ، وإيجاد المعدوم .
سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون
هذا الجزء كله من السور المكية . كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية . ولكل منهما طابع مميز ، وطعم خاص . . وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة " المدثر " ومطلع سورة " المزمل " . كما أن فيه سورا يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة " القلم " . وبحوالي عشر سنوات كسورة " الجن " التي يروى أنها نزلت في عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف ، حيث أوذي من ثقيف . ثم صرف الله إليه نفرا من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن ، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء . وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين . وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة .
والقرآن المكي يعالج - في الغالب - إنشاء العقيدة . في الله وفي الوحي ، وفي اليوم الآخر . وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه . والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب ، مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب ، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب ، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص . وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة ، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء .
والقرآن المدني يعالج - في الغالب - تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية ؛ وحمل النفوس على الإضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة ، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء . وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي .
وهذه السورة الأولى - سورة تبارك - تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود . تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود ، إلى عوالم في السماوات ، وإلى حياة في الآخرة . وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير ، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها . وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم ، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة ، في هذه الأرض . كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين .
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها ؛ وتفتح المنافذ هنا وهناك ، وتنفض الغبار وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون ، وأغوار النفس ، وطباق الجو ، ومسارب الماء ، وخفايا الغيوب ، فترى هناك يد الله المبدعة ، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله . وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر ، وأن المجال أوسع . وتحولت من الأرض - على سعتها - إلى السماء . ومن الظواهر إلى الحقائق . ومن الجمود إلى الحركة . مع حركة القدر ، وحركة الحياة ، وحركة الأحياء .
الموت والحياة أمران مألوفان مكروران . ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة من قدر الله وبلائه ، ومن حكمة الله وتدبيره : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وهو العزيز الغفور ) .
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته ، ولا تلتفت لما فيه من كمال . ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف : ( الذي خلق سبع سماوات طباقا . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ? ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير . . ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين . . ) .
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود ، ونهاية المطاف . ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين . وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار : وأعتدنا لهم عذاب السعير . وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير . إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور . تكاد تميز من الغيظ . كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير ? قالوا : بلى ! قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا : ما نزل الله من شيء ؛ إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير . فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ! .
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه ، ولا تلقي بالا إلى الغيب وما يحتويه . وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة . فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين ، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء ؛ وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير . وأسروا قولكم أو أجهروا به ، إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ? هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور . أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ? أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ? فستعلمون كيف نذير ) . .
والطير . إنه خلق يرونه كثيرا ولا يتدبرون معجزته إلا قليلا . ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر ، وترى قدرة الله الذي صور وقدر : ( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن ، إنه بكل شيء بصير ) .
وهم آمنون في دارهم ، مطمئنون إلى مكانهم ، طمأنينة الغافل عن قدرة الله وقدره . ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي ، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم ، تهزهم على قهر الله وجبروته الذي لا يحسبون حسابه : ( أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ? إن الكافرون إلا في غرور ) .
والرزق الذي تناله أيديهم ، إنه في حسهم قريب الأسباب ، وهي بينهم تنافس وغلاب . ولكن السورة تمد أبصارهم بعيدا هنالك في السماء ، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون : ( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور ) . .
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون . فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقا ، في صورة متحركة موحية : ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ? ) .
وهم لا ينتفعون بما رزقهم الله في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك ؛ ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب . فالسورة تذكرهم بنعمة الله فيما وهبهم ، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر ، وتدبر الغاية من هذه البداية : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، قليلا ما تشكرون . قل : هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون . .
وهم يكذبون بالبعث والحشر ، ويسألون عن موعده . فالسورة تصوره لهم واقعا مفاجئا قريبا يسوؤهم أن يكون : ( ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل إنما العلم عند الله ، وإنما أنا نذير مبين . فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ! ) . .
وهم يتربصون بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود ! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب الله على الكفر والتكذيب ، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب : ( قل : أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? قل : هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين ) .
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون ، والذي يجريه هو الله الذي به يكفرون ! ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ? ) . .
إنها حركة . حركة في الحواس ، وفي الحس ، وفي التفكير ، وفي الشعور .
ومفتاح السورة كلها ، ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها ، هو مطلعها الجامع الموحي:
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها . .
فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما . وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين . وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها . وكان العلم بالسر والجهر . وكان جعل الأرض ذلولا للبشر . وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين . وكان إمساك الطير في السماء . وكان القهر والاستعلاء . وكان الرزق كما يشاء . وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة . وكان الذرء في الأرض والحشر . وكان الاختصاص بعلم الآخرة . وكان عذاب الكافرين . وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد . .
فكل حقائق السورة وموضوعاتها ، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير : ( تبارك الذي بيده الملك ، وهو على كل شيء قدير ) ! !
وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق ، وتتدفق بلا توقف ، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل ، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع ! ويستحسن معه استعراضها في سياقها بالتفصيل :
( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ) . .
هذه التسبيحة في مطلع السورة توحي بزيادة بركة الله ومضاعفتها ، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة . وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك ، وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جناب الذات الإلهية . وهي ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود ، ويعمر بها قلب كل موجود . وهي تنطلق من النطق الإلهي في كتابه الكريم ، من الكتاب المكنون ، إلى الكون المعلوم .
( تبارك الذي بيده الملك ) . . فهو المالك له ، المهيمن عليه ، القابض على ناصيته ، المتصرف فيه . . وهي حقيقة . حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير ؛ وتخليه من التوجه أو الإعتماد أو الطلب من غير المالك المهيمن المتصرف في هذا الملك بلا شريك ؛ كما تخليه من العبودية والعبادة لغير المالك الواحد ، والسيد الفريد !
( وهو على كل شيء قدير ) . . فلا يعجزه شيء ، ولا يفوته شيء ، ولا يحول دون إرادته شيء ، ولا يحد مشيئته شيء . يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وهو قادر على ما يريده غالب على أمره ؛ لا تتعلق بإرادته حدود ولا قيود . . وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تطلق تصوره لمشيئة الله وفعله من كل قيد يرد عليه من مألوف الحس أو مألوف العقل أو مألوف الخيال ! فقدرة الله وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال . . والقيود التي ترد على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل فيما وراء اللحظة الحاضرة والواقع المحدود . فهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار . فيتوقعون من قدرة الله كل شيء بلا حدود . ويكلون لقدرة الله كل شيء بلا قيود . وينطلقون من أسر اللحظة الحاضرة والواقع المحدود .
سماها النبي صلى الله عليه وسلم { سورة تبارك الذي بيده الملك } في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي { سورة تبارك الذي بيده الملك } قال الترمذي هذا حديث حسن .
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا . ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية .
وسميت أيضا « تبارك الملك » بمجموع الكلمتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان أي دفين فيه يقرأ سورة « تبارك الملك » حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر حديث حسن غريب يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف . ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ { تبارك } بصيغة الماضي ويحكى لفظ { الملك } مرفوعا كما هو في الآية ، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم . لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان . كما قالوا : عبيد الله الرقيات ، بإضافة مجموع عبيد الله إلى الرقيات تمييزا لعبيد الله بن قيس العامري{[1]} الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيه في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية{[2]} وهن ثلاث . ولذلك يجب أن يكون لفظ { تبارك } في هذا المركب مفتوح الآخر . ولفظ { الملك } مضموم الكاف . وكذلك وقع ضبطه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركة حكاية .
والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي : باب ما جاء في فضل سورة الملك . وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة ، أي أخذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية .
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها المنجية ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم .
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية ، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة .
وذكر الفخر : أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر .
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة .
وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي : باتفاق الجميع .
وفي الإتقان أخرج جويبر{[3]} في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس نزلت تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات اه . فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة . وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها ، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة ، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله { عذاب السعير } .
وقال في الإتقان أيضا فيها قول غريب لم يعزه أن جميع السورة مدني .
وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة .
وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون .
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية .
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق ؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين .
ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها .
وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له .
وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية .
وتخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين ، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران ، وتنبيه المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته .
والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي ، ودقة نظامه ، وملاءمته لحياة الناس ، وفيها سعيهم ومنها رزقهم .
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها .
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها .
وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا .
وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها .
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم .
ووبخهم على استعجالهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ليستريحوا من دعوته .
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم ، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره .
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحاً يؤذن بأن ما حَوتْه يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لمّا نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده . ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان .
وفعل { تَبَاركَ } يدل على المبالغة في وفرة الخير ، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة ، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى .
وصيغة تفاعَل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تَطاول وتغابن ، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل : تواصل الحبل .
وهو مشتق من البَركة ، وهي زيادة الخير ووفرته ، وتقدمت البركة عند قوله تعالى : { وبركات عليك } في [ سورة هود : 48 ] .
وتقدم { تَبَارَكَ } عند قوله تعالى : { تبارك الله رب العالمين } في أول [ الأعراف : 54 ] .
وهذا الكلام يجوز أن يكون مراداً به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه ، وتعليماً للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في { الحمد لله ربَ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] : إمّا على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء ، وإمّا باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها ، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هاذين المعنيين ، وقد تقدم في قوله تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] .
وجُعل المسندُ إليه اسمَ موصول للإِيذان بأن معنى الصلة ، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلاّ لله .
وذكر { الذي بيده الملك } هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } إلى قوله : { الذي له ملك السماوات والأرض } [ الفرقان : 1 2 ] .
والباء في { بِيَدِهِ } يجوز أن تكون بمعنى ( في ) مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو { ولقد نصركم الله ببدر } [ آل عمران : 123 ] وقول امرء القيس :
فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة المُلك ، والمُلك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها مَلِكاً .
والتعريف في { المُلك } على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس ، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلاّ وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه .
واليَد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد } [ الذاريات : 47 ] وقول العرب : مَا لي بهذا الأمر يَدَان .
ويجوز أن تكون الباء للسببية ، ويكون { المُلكُ } اسماً فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم .
وتقديم المسند وهو { بِيَدِهِ } على المسند إليه لإفادة الاختصاص ، أي الملك بيده لا بيد غيره .
وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بمُلك غيره ، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الأصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك مُلك غير تام لأنه لا يعمّ المملوكات كلها ، ولأنه معرض للزوال ، ومُلك الله هو الملك الحقيقي ، قال : { فتعالى الله الملك الحق } [ طه : 114 ] .
فالناس يتوهمون أمثال ذلك مُلكاً وليس كما يتوهمون .
واليد : تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد ؛ بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات .
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } في [ سورة آل عمران : 26 ] .
و { المُلك } بضم الميم : اسم لأكمل أحوال المِلك بكسر الميم ، والمِلك بالكسر جنس للمُلك بالضم ، وفسر المُلك المضموم بضبط الشيء المتصرَّف فيه بالحُكم ، وهو تفسير قاصر ، وأرى أن يُفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفاً كاملاً بتدبير ورعاية ، فكل مُلك ( بالضم ) مِلك ( بالكسر ) وليس كل مِلك مُلكاً .
وقد تقدم في قوله : { مَلِك يوم الدين } في [ الفاتحة : 4 ] وعند قوله : { أنّى يكون له الملك علينا } في [ سورة البقرة : 247 ] ، وجملة : { وهو على كل شيء قدير } معطوفة على جملة : { بِيده المُلك } التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة ، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات ، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات ، فيكون قوله : { وهو على كل شيء قدير } مفيداً معنى آخر غير ما أفاده قوله : { بيده الملك } تفادياً من أن يكون معناه تأكيداً لمعنى { بيده الملك } وتكون هذه الجملة تتميماً للصلة . وفي معنى صلة ثانية ثمّ عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله : { الذي خلق الموت } [ الملك : 2 ] وقوله : { الذي خلق سبع سموات } [ الملك : 3 ] .
و { شيء } ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة . وقد يطلق ( الشيء ) على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات . وأما التزام الأشاعرة : أن الشيء لا يطلق إلاّ على الموجود فهو التزام ما لا يلزم دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود ، فتفرعت عليه مسألة : أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلاّ على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها ، والخلاف فيها لفظي ، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة .
وتقديم المجرور في قوله : { على كل شيء قدير } للاهتمام بما فيه من التعميم ، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنها لا تقدر على خلق السموات والأرض ولا على الإحياء والإماتة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن للصنعاني 211 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة الملك، وهي مكية بإجماع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها كل ليلة عند أخذ مضجعه، رواه جماعة مرفوعا إلى جابر بن عبد الله.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سورة الملك، قال المهايمي: سميت به لاشتمالها على كثير مما يبنغي أن يكون عليه الملك من كثرة الخيرات، وعموم القدرة، والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة والغفران، ورفع الأبنية لخدامه، وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وأن لا يقدر أحد على نصر من عاداه، ولا على رزق من منعه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الجزء كله من السور المكية. كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية. ولكل منهما طابع مميز، وطعم خاص.. وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة "المدثر " ومطلع سورة " المزمل". كما أن فيه سورا يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة " القلم". وبحوالي عشر سنوات كسورة " الجن " التي يروى أنها نزلت في عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، حيث أوذي من ثقيف. ثم صرف الله إليه نفرا من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء. وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين. وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة.
والقرآن المكي يعالج -في الغالب- إنشاء العقيدة. في الله وفي الوحي، وفي اليوم الآخر. وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه. والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب، مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء.
والقرآن المدني يعالج -في الغالب- تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية؛ وحمل النفوس على الإضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي.
وهذه السورة الأولى -سورة تبارك- تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود. تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود، إلى عوالم في السماوات، وإلى حياة في الآخرة. وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها. وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة، في هذه الأرض. كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين.
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها؛ وتفتح المنافذ هنا وهناك، وتنفض الغبار وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون، وأغوار النفس، وطباق الجو، ومسارب الماء، وخفايا الغيوب، فترى هناك يد الله المبدعة، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله. وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر، وأن المجال أوسع. وتحولت من الأرض -على سعتها- إلى السماء. ومن الظواهر إلى الحقائق. ومن الجمود إلى الحركة. مع حركة القدر، وحركة الحياة، وحركة الأحياء.
الموت والحياة أمران مألوفان مكروران. ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة من قدر الله وبلائه، ومن حكمة الله وتدبيره: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور).
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته، ولا تلتفت لما فيه من كمال. ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف: (الذي خلق سبع سماوات طباقا. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير.. ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين..).
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود، ونهاية المطاف. ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين. وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار: وأعتدنا لهم عذاب السعير. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير. إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ. كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى! قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء؛ إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير!.
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه، ولا تلقي بالا إلى الغيب وما يحتويه. وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة. فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء؛ وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير. وأسروا قولكم أو أجهروا به، إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور. أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا؟ فستعلمون كيف نذير)..
والطير. إنه خلق يرونه كثيرا ولا يتدبرون معجزته إلا قليلا. ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر، وترى قدرة الله الذي صور وقدر: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن؟ ما يمسكهن إلا الرحمن، إنه بكل شيء بصير).
وهم آمنون في دارهم، مطمئنون إلى مكانهم، طمأنينة الغافل عن قدرة الله وقدره. ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم، تهزهم على قهر الله وجبروته الذي لا يحسبون حسابه: (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن؟ إن الكافرون إلا في غرور).
والرزق الذي تناله أيديهم، إنه في حسهم قريب الأسباب، وهي بينهم تنافس وغلاب. ولكن السورة تمد أبصارهم بعيدا هنالك في السماء، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون: (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه؟ بل لجوا في عتو ونفور)..
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون. فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقا، في صورة متحركة موحية: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى؟ أم من يمشي سويا على صراط مستقيم؟).
وهم لا ينتفعون بما رزقهم الله في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك؛ ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب. فالسورة تذكرهم بنعمة الله فيما وهبهم، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر، وتدبر الغاية من هذه البداية: قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلا ما تشكرون. قل: هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون..
وهم يكذبون بالبعث والحشر، ويسألون عن موعده. فالسورة تصوره لهم واقعا مفاجئا قريبا يسوؤهم أن يكون: (ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل إنما العلم عند الله، وإنما أنا نذير مبين. فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا، وقيل: هذا الذي كنتم به تدعون!)..
وهم يتربصون بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب الله على الكفر والتكذيب، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب: (قل: أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ قل: هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين).
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون، والذي يجريه هو الله الذي به يكفرون! (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين؟)..
إنها حركة. حركة في الحواس، وفي الحس، وفي التفكير، وفي الشعور.
ومفتاح السورة كلها، ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها، هو مطلعها الجامع الموحي:
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها..
فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما. وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين. وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها. وكان العلم بالسر والجهر. وكان جعل الأرض ذلولا للبشر. وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين. وكان إمساك الطير في السماء. وكان القهر والاستعلاء. وكان الرزق كما يشاء. وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة. وكان الذرء في الأرض والحشر. وكان الاختصاص بعلم الآخرة. وكان عذاب الكافرين. وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد..
فكل حقائق السورة وموضوعاتها، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير: (تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير)!!
وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق، وتتدفق بلا توقف، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع! ويستحسن معه استعراضها في سياقها بالتفصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سماها النبي صلى الله عليه وسلم سورة تبارك الذي بيده الملك، في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك. قال الترمذي: هذا حديث حسن.
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون...
وسميت أيضا « تبارك الملك» بمجموع الكلمتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان أي دفين فيه يقرأ سورة « تبارك الملك» حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر حديث حسن غريب يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف. ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ تبارك بصيغة الماضي، ويحكى لفظ الملكُ مرفوعا كما هو في الآية، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم. لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان... والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي: باب ما جاء في فضل سورة الملك. وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة، أي أخذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها المنجية، ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم.
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر: أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر.
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة...
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية:
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق، والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية، فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين. ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها. وأنه الذي يجازي عليها. وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له. وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك، وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية. متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم. وأن في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران.
وتنبيه المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.
والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي، ودقة نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها سعيهم ومنها رزقهم.
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام، فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها. وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا. وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى، وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم. ووبخهم على استعجالهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ليستريحوا من دعوته. وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة، إلاّ أنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي:
أبحاث حول المبدأ، وصفات الله سبحانه، ونظام الخلق العجيب والمدهش، خصوصاً خلق السموات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة.. وكذلك ما يتعلّق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالأذن والعين، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الأخرى.
-وفي المحور الثاني تتحدّث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنّم، بالإضافة إلى أمور أخرى في هذا الصدد.
- وأخيراً فإنّ آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والأخروي للكفّار والظالمين...
ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أوّل آية منها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره:"تَبارَكَ": تعاظم وتعالى، "الّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ "بيده مُلك الدنيا والآخرة وسُلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه.
"وَهُوَ على كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يقول: وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه من فعله مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الملك اسم عام، وهو عبارة عن نفاذ التدبير والسلطان والولاية. والملك هو أن يكون للمالك خاصة في الشيء، لا يتناول من ذلك الشيء إلا بإذنه. وقد يكون المرء مالكا، وليس بملك، وقد يكون المرء ملكا، وليس بمالك. فكل واحد من الوجهين يقتضي معنى غير ما يقتضيه الآخر.
وجائز أن يكون تأويل قوله: {بيده الملك} أي ملك كل ملك من أهل الأرض بيده، لأنه إن شاء أبقى له الملك، وإن شاء نزعه، فما من ملك في دار الدنيا إلا وملكه في الحقيقة لله تعالى.
{وهو على كل شيء قدير} امتدح نفسه، تعالى، بأنه على ما يشاء قدير، وذلك من أوصاف ربوبيته أيضا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى مخبرا عن عظمته وعلو شأنه: (تبارك الذي بيده الملك) فمعنى تبارك: بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال. وأصل الصفة من الثبوت؛ من البرك وهو ثبوت الطائر على الماء. ومنه البركة ثبوت الخير بنمائه.
وقيل: معناه تعاظم بالحق من لم يزل ولا يزال، وهو راجع إلى معنى الثابت الدائم. وقيل: المعنى تبارك من ثبوت الاشياء به إذ لولاه لبطل كل شيء لأنه لا يصح شيء سواه إلا مقدوره أو مقدور مقدوره، الذي هو القدرة، لأن الله تعالى هو الخالق لها.
وقيل: إن معناه تبارك لأن جميع البركات منه، إلا أن هذا المعنى مضمن في الصفة غير مصرح به، وإنما المصرح به تعالى باستحقاق التعظيم...
والملك هو اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{تبارك} أي تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة وتواتر الإحسان والعلى...
ولما كان من له الملك قد لا يكون متمكناً من إبقائه في يده، أو إعطاء ما يريد منه لغيره ونزعه منه متى أراد قال: {الذي بيده} أي بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره {الملك} أي أمر ظاهر العالم فإليه كل تدبير له وتدبير فيه وبقدرته إظهار ما يريد، لا مانع له من شيء، ولا كفوء له بوجه، وهو كناية عن الإحاطة والقهر، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهاً بالخلق...
ولما كان المتصرف في الملك قد لا يكون قدرته تامة ولا عامة، قال تعالى: {وهو} أي وحده له عظمة تستولي على القلوب، وسياسة تعم كل جلب نفع ودفع ضرر لأنه {على كل شيء قدير} أي تام القدرة...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} البركةُ النماءُ والزيادةُ حسيةً كانتْ أو عقليةً، وكثرةُ الخيرِ ودَوامُهُ أيضاً، ونسبتُهَا إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنَى الأولِ وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، وصيغةُ التفاعلِ للمبالغةِ في ذلكَ، فإنَّ ما لا يتصورُ نسبتُهُ إليهِ تعالَى من الصيغِ كالتكثر ونحوِهِ، إنَّما تنسبُ إليه سبحانَهُ باعتبارِ غاياتِهَا، وعلى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ من فنونِ الخيراتِ. والصيغةُ حينئذٍ يجوزُ أن تكونَ لإفادةِ نماءِ تلكَ الخيراتِ وازديادِها شيئاً فشيئاً، وآناً فآناً، بحسبِ حدوثِهَا أو حدوثِ متعلقاتِهَا. ولاستقلالِهَا بالدلالةِ على غايةِ الكمالِ، وإنبائِها عن نهايةِ التعظيمِ، لم يجُزْ استعمالُهَا في حقِّ غيرِه سبحانَهُ، ولا استعمالُ غيرِهَا من الصيغِ في حقِّه تباركَ وتعالَى...
واليدُ مجازٌ عن القدرةِ التامَّةِ والاستيلاءِ الكاملِ، أي تعالَى وتعاظَم بالذاتِ عن كلِّ ما سواهُ ذاتاً وصفةً وفعلاً، الذي بقبضةِ قُدرتِهِ التَّصرفُ الكليُّ في كلِّ الأمورِ.
{وَهُوَ على كُلّ شَيء} منَ الأشياءِ {قَدِيرٌ} مُبالِغٌ في القُدرةِ عليهِ، يتصرفُ فيهِ حسبَما تقتضيهِ مشيئتُهُ المبنيةُ على الحِكَمِ البالغةِ. والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ، مقررةٌ لمضمونِهَا، مفيدةٌ لجريانِ أحكامِ مُلكِهِ تعالَى في جَلائلِ الأُمورِ ودقائِقها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير).. هذه التسبيحة في مطلع السورة توحي بزيادة بركة الله ومضاعفتها، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة. وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك، وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جناب الذات الإلهية. وهي ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود، ويعمر بها قلب كل موجود. وهي تنطلق من النطق الإلهي في كتابه الكريم، من الكتاب المكنون، إلى الكون المعلوم. (تبارك الذي بيده الملك).. فهو المالك له، المهيمن عليه، القابض على ناصيته، المتصرف فيه.. وهي حقيقة. حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير؛ وتخليه من التوجه أو الاعتماد أو الطلب من غير المالك المهيمن المتصرف في هذا الملك بلا شريك؛ كما تخليه من العبودية والعبادة لغير المالك الواحد، والسيد الفريد! (وهو على كل شيء قدير).. فلا يعجزه شيء، ولا يفوته شيء، ولا يحول دون إرادته شيء، ولا يحد مشيئته شيء. يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد، وهو قادر على ما يريده غالب على أمره؛ لا تتعلق بإرادته حدود ولا قيود.. وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تطلق تصوره لمشيئة الله وفعله من كل قيد يرد عليه من مألوف الحس أو مألوف العقل أو مألوف الخيال! فقدرة الله وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال.. والقيود التي ترد على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل فيما وراء اللحظة الحاضرة والواقع المحدود. فهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار. فيتوقعون من قدرة الله كل شيء بلا حدود. ويكلون لقدرة الله كل شيء بلا قيود. وينطلقون من أسر اللحظة الحاضرة والواقع المحدود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحاً يؤذن بأن ما حَوتْه يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لمّا نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان. وفعل {تَبَاركَ} يدل على المبالغة في وفرة الخير، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى. وصيغة تفاعَل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تَطاول وتغابن، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل: تواصل الحبل. وذكر {الذي بيده الملك} هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} إلى قوله: {الذي له ملك السماوات والأرض} [الفرقان: 1 2]. والباء في {بِيَدِهِ} يجوز أن تكون بمعنى (في) مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو {ولقد نصركم الله ببدر} [آل عمران: 123]،
والمُلك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها مَلِكاً. والتعريف في {المُلك} على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلاّ وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه. واليَد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47] وقول العرب: مَا لي بهذا الأمر يَدَان. ويجوز أن تكون الباء للسببية، ويكون {المُلكُ} اسماً فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم. وتقديم المسند وهو {بِيَدِهِ} على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي الملك بيده لا بيد غيره.