31- ادع - أيها الرسول - إلى التوحيد الخالص ، وقل : مَنْ الذي يأتيكم بالرزق من السماء بإنزال المطر ، ومن الأرض بإخراج النبات والثمر ؟ ومَن الذي يمنحكم السمع والأبصار ؟ ومن يخرج الحي من الميت كالنبات وهو حي من الأرض وهي موات ؟ ومن يخرج الميت من الحي كالإنسان يسلب عنه الحياة ؟ ومن الذي يُدَبِّر ويصرف جميع أمور العالم كله بقدرته وحكمته ؟ فسيعترفون - لا مناص - بأن الله - وحده - فاعل هذا كله . فقل لهم - أيها الرسول - عند اعترافهم بذلك : أليس الواجب المؤكد أن تذعنوا للحق وتخافوا الله مالك الملك .
وبعد هذا الحديث المعجز عن الحشر وأهواله ، ساقت السورة الكريمة بضع آيات فيها الأدلة المقنعة على وحدانية الله وقدرته ، ولكن بأسلوب السؤال والجواب ، فقال - تعالى - :
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء . . . }
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : من الذي يرزقكم من السماء بالأمطار وما يتولد عنها ، ومن الأرض وما يخرج منها من نباتات وأشجار ، وغير ذلك مما تخرجه الأرض .
وقوله : { أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار } أى : بل قل لهم - أيضا - من الذي يملك ما تتمتعون به من سمع وبصر ، ومن الذي يستطيع خلقهما وتسويتهما بالطريقة التي أوجدها - سبحانه .
وخص هاتين الحاستين بالذكر ، لأن لهما أعظم الأثر في حياة الإِنسان ، ولأنهما قد اشتملتا في تركيبهما على ما بهر العقول ، ويشهد بقدرته - تعالى - وعجيب صنعه في خلقه .
و { أم } هنا منقطعة بمعنى بل ، وهى هنا للإِضراب الانتالي لا الإِبطالي ، وفى ه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام في الدلالة على المقصود ، وهو إثبات قدرة الله - تعالى - ووجوب إخلاص العبادة له .
وقوله : { وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } دليل ثالث على قدرة الله ووحدانيته .
أى : وقيل لهم كذلك من سوى الله - تعالى - يملك خراج النبات وهو كائن حي من الأرض الميتة ، وإخراج الإِنسان وهو كائن حى من النطفة وبالعكس ، وإخراج الطير من البيضة وبالعكس .
وقوله : { وَمَن يُدَبِّرُ الأمر } دليل رابع على قدرة الله ووحدانيته أى : وقل لهم - أيضاً - من الذي يتولى تدبير أمر هذا الكون من إحياء وأماتة ، وصحة ومرض ، وغني وفقر ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ونجوم . . .
هذه الجملة الكريمة من باب التعميم بعد التخصيص ، لأن كل ما سبق من نعم يندرج فيها .
وقوله : { فَسَيَقُولُونَ الله } حكاية للجواب الذي لا يستطيعون إنكاره ، لأنهم مقرون معترفون بأن الله - تعالى - وهو الذي خلقهم ، وهو الذي يدبر أمرهم ، وإنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى ، كما حكى القرآن عنهم في قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله . . } وفي قوله - سبحانه - حكاية عنهم { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى . . . } ولفظ الجلالة مبتدأ ، والخبر محذوف والتقدير : فسيقولون الله وحده هو الذي فعل كل ذلك .
وقوله : { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عيلهم بهذا الرد .
والهمزة لإِنكار واقعهم الذميم ، وهى داخلة على كلام مقدر ، ومفعول تتقون محذوف .
أى : أتعلمون وتعترفون بأن الله - تعالى - هو الخالق لكل ما سبق ، ومع ذلك تشركون معه آلهة في العبادة ، دون أن تتقوا عذابه يوم القيامة ؟
إن مسلكك هذا إنما يدل على ضعف في التفكير ، وانطماس في العقول ، وجهالة ليس بعدها جهالة .
ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل ، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه . إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه ، وإلى أنفسهم التي يعلمونها ، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة . بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله :
( قل : من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت )
( ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون : الله . فقل : أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ? ) . .
ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله ، ولا أنه الخالق ، والرازق ، والمدبر . إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى ، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله . فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم ، ليصحح لهم - عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري - ذلك الخلط والضلال .
( قل : من يرزقكم من السماء والأرض ? ) . .
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع ، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها ، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم . وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض . وهو أوسع من ذلك بكثير . وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض ، يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل . وكله من رزق الله المسخر للإنسان . فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق . ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق . ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق . حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق !
( أم من يملك السمع والأبصار ? ) . .
يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها ، ويصححها أو يمرضها ، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها ، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره . . ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار . وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه . وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر ، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة . وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات ، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات ، لعالم وحده يدير الرؤوس ، عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث ! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان ، لا يقاس في شيء إلى صنع الله . بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون !
( ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ) . .
وكانوا يعدون الساكن هو الميت ، والنامي أو المتحرك هو الحي . فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة ، والحبة من النبتة ، وخروج الفرخ من البيضة ، والبيضة من الفرخ . . إلى آخر هذه المشاهدات . وهو عندهم عجيب . وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء ؛ بما فيها من حياة كامنة واستعداد . فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله . .
وإن وقفة أمام الحبة والنواة ، تخرج منهما النبتة والنخلة ، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان ، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش !
وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ? وأين كان يكمن العود ? وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق ? . . وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء ، والساق السامقة والعراجين والألياف ? وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة ، والبلح والتمر ، والرطب والبسر .
وأين في البيضة كان الفرخ ? وأين يكمن كان العظم واللحم ، والزغب والريش ، واللون والشيات ، والرفرفة والصوات . . . ?
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب ? أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي ? أين كانت نبرات الصوت ، ونظرات العين ، ولفتات الجيد ، واستعدادات الأعصاب ، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين ? وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات ?
وهل يكفي أن نقول : إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة ، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله ?
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة ، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة ، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظه . وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي ، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق ، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها . وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار . وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله ، يهب الحياة !
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر ? من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق ? ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق ? ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر ، والتي لا تخطى ء مرة ولا تحيد ? ومن ومن ?
فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله ، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار . ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله ، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه ، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله .
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض ، والذي يملك السمع والأبصار ، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه ? إن الذي يملك هذا كله لهو الله ، وهو الرب الحق دون سواه :
{ قل من يرزقكم من السماء والأرض } أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو { من } كل واحد منهما توسعة عليكم . وقيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء والأرض . { أمّن يملك السمع والأبصار } أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما ، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالها من أدنى شيء . { ومن يُخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ } ومن يحيي ويميت ، أو من ينشئ الحيوان من النطفة والنطفة منه . { ومن يدبّر الأمر } ومن يلي تدبير أمر العالم وهو تعميم بعد تخصيص . { فسيقولون الله } إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه . { فقل أفلا تتقون } أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك .
هذا توقيف وتوبيخ واحتجاج لا محيد عن التزامه ، و { من السماء } يريد بالمطهر ومن { الأرض } يريد بالإنبات ونحو ذلك ، و { يملك السمع والأبصار } ، لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه حتى أن ما عداهما من الحواس تبع ، { ويخرج الحي من الميت } الجنين من النطفة ، والطائر من البيضة ، والنبات من الأرض إذ له نمو شبيه بالحياة ، { ويخرج الميت من الحي } ، مثل البيضة من الطائر ونحو ذلك ، وقد تقدم فيما سلف إيعاب القول في هذه المعاني ، و «تدبير الأمر » عام لهذا وغيره من جميع الأشياء ، وذلك استقامة الأمور كلها عن إرادته عز وجل ، وليس تدبيره بفكر ولا روية وتغيرات تعالى عن ذلك بل علمه محيط كامل دائم ، { فسيقولون الله } لا مندوحة لهم عن ذلك ، ولا تمكنهم المباهتة بسواه ، فإذا أقروا بذلك { فقل أفلا تتقون } . في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة .